خالد التيجاني النور
من الخفة بمكان قراءة تطورات الأزمة الداخلية التي تمر بها الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال التي تقود المعارضة المسلحة، والتي فجرتها الاستقالة المسبّبة لنائب رئيس الحركة عبد العزيز الحلو، وتكاد تعصف بوحدتها، خارج السياق الكلي للأزمة الوطنية السودانية المستفحلة، ذلك أن ما تشهده دوائر الحركة من صراع لا يعدو أن يكون مظهراً آخر من تجليات مأزق النخبة السياسية السودانية، فما حدث ليس بدعاً لا في تاريخ الحركة الشعبية نفسها، ولا في سيرة القوى السياسية السودانية المختلفة على امتداد طيفها في مراحل تاريخية بعينها.
ومن التبسيط المخل التعاطي مع هذا الحدث السياسي المهم عند البعض بمنظار الحبور والاحتفاء وكأنه اكتشاف جديد يثبت إلى أي مدى كأن الحركة الشعبية وحدها معطوبة تنظيمياً من دون سائر القوى السياسية السودانية سواء تلك التي تتربع على السلطة، أو تلك التي تعارضها.
والحقيقة هي أن الخطوة التي أقدم عليها عبدالعزيز الحلو، بغ
ض النظر عن عواقبها وتبعاتها ومآلاتها المنتظرة، ليست سوى تكرار للسيناريو ذاته الذي غشي القوى السياسية الواحدة تلو الأخرى، حتى لا يكاد أي منها تخلو سيرته من صراعات داخلية مماثلة أدت إلى ما نشهده في الساحة السودانية من تشرذم دارت كأسه على الجميع، وما استمرار الأزمة الوطنية السودانية واستطالة أمدها إلى اليوم إلا نتيجة مباشرة لنمط الصراع الإقصائي الذي يسيطر على العقلية السائدة في أوساط النخبة السياسية.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن داء الصراع المدفوع باعتبارات ذاتية، على الرغم من كل الادعاءات البرّاقة التي تُساق عادة لتبرير الذهنية الانقسامية، مرض قديم مستفحل وسط النخبة السودانية، بدأ مع بواكير تشكل الحركة الوطنية، وبانت أولى تجلياته بانقسام مؤتمر الخريجين منتصف أربعينيات القرن الماضي تحت بروق الطمع، حين اختارت نخبته الانضواء تحت جناحي المؤسسة التقليدية اختصاراً لطريق النضال الحقيقي من أجل تأسيس طريق ثالث يقود إلى نشأة قوى سياسية حديثة.
وهكذا ظلت النخبة السياسية السودانية تتنكب الطريق القويم، انقسام يقود إلى انقسام حتى يوم الناس هذا، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أنه حتى بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال لا تزال البلاد بعيدة عن أي تسوية وطنية حقيقية لأن العقلية الانقسامية المستفحلة وسط النخبة السياسية المنتجة للأزمة المتطاولة لا تزال حاضرة بقوة، لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً، تفرض إرادتها وتقف حجرة عثرة في وجه التغيير.
ولا حاجة هنا للتفصيل بإيراد الأمثلة المؤكدة بأن ما تشهده الحركة الشعبية اليوم، ليس سوى امتداد لتاريخ طويل من الصراعات العبثية على النفوذ، تقف عليه شاهدة سيرة الحركة الشعبية نفسها التي عرفت تاريخاً طويلاً من الصراعات الدموية والانقسامات من أشهرها انقسام مجموعة الناصر في العام 1991 بقيادة رياك مشار ولام أكول، وللمفارقة من يرجع لقراءة إعلان الناصر فسيجد المبررات ذاتها التي يسوقها الحلو اليوم.
وسيرة الحركة الإسلامية الانقسامية تقف شاخصة، دعك من انقساماتها قبل وصول فصيلها الرئيس إلى السلطة بانقلاب 1989، وما لبثت أن مزق الصراع على السلطة وحدتها، ولم يقف تأثير ذلك عليها بل كانت نتيجته أن الحركة الحاكمة التي فشلت في الحفاظ على وحدتها كان قمين بها أن تفشل في الحفاظ على وحدة البلاد التي حكمتها بالتغلب، وكان من نتاج تبعاتها مأساة دارفور بكل فصولها الدامية، وخذ عندك الأحزاب السياسية الأخرى ذات اليمين وذات اليسار لم يسلم أي منها من الانقسام والتشرذم.
وما يدعو للاستغراب أن ظاهرة الانقسام هذه لم تقف عند حدود الفضاء السياسي، بل تجاوزته إلى أبعد من ذلك بكثير حيث تغلغلت في مكونات المجتمع السوداني المختلفة حتى كاد يصبح من طبيعة الأشياء، فالانقسامات والصراعات المحمومة غشيت المجالات الثقافية والرياضية والاجتماعية ولحقت حتى بالطرق الصوفية التي ظلت لقرون عنواناً للتماسك الاجتماعي، والمفارقة أن سيادة هذه الحالة الممزقة للنسيج الاجتماعي في تجلياته السياسية وغيرها لم تعد تسترعي الانتباه، ولم تحظ بما تستحقه من دراسة وتمحيص يشخص هذا الداء ويتتبع آثاره، وينظر في معالجته، ذلك أن استمرار هذا الوضع على ما هو عليه سيزيد من هشاشة الدولة السودانية ويجعلها عاجزة عن مواجهة التحديات التي تجابه وحدتها المهددة في ظل ضعف الوجدان الوطني وتضعضع ممسكات الوحدة الوطنية.
الجريدة