لا بد أن البشير، في المقام الأول، مسؤول عن دراما الاستغاثة بالدكتور حمدوك، والتي انتهت إلى هذا الحرج البالغ. ولكن القادة المؤتمرجية أيضا مسؤولون لكونهم إما مغيبون عن معرفة دهاليز قصية يطبخ فيها قرار التعيين السياسي، أو أنهم رضوا من الغنيمة بالإياب. وبالتالي ما عادوا يكترثون. وفِي كلا الحالتين فما جرى يتعلق بأزمة خانقة دخل فيها الإخوان السودانيون، والذين يشايعونهم، بما فيهم العروس الليبرالية.
إذا كنت في مقام الرئيس، وقد استقر رأيي على الاستغاثة بالخبير الدولي حمدوك، فإن أول شي أفعله هو أنه لا بد من الاتصال به هاتفيا، أو أن أطلب منه اللقاء في القصر، أو خارجه. اعتذر له أولا عن القذف به، وبخبراته المهولة خارج جهاز الخدمة العامة. ثانيا: سأكون لطيفا معه في طلب خبرته، وسأسعى بكل ما أملك من حيل لحمله على الرضا بالمنصب، خصوصا إذا كانت كل التزكيات تؤكد أنه سيأتي بما لم يستطع الأوائل الإتيان به. ثالثا: سأناقش معه – إذا وافق على التوزير – ما يمكن أن يخدمه من “مشروع مارشال” لإخراج السودان من هذه الأزمة الاقتصادية الكالحة. رابعا: أحدثه أن الاستغاثة به مردها إلى فقدان الثقة في الجهاز الاقتصادي في الحركة الإسلامية الذي عجز عن تطبيق الاقتصاد الإسلامي، وبالتالي عاد من المهم أن يضع يساري خطة اقتصادية للبلد – ليست بالضرورة إسلامية – وينفذها لتوفير الخبز، والعملات الصعبة، وحل أزمة الوقود، على الأقل. خامسا: سوف أكون ذكيا لأقول له بأن نجاحه في توفير الخبز للجوعى إنما لصالح أهله، السواد الأعظم.
سادسا: أسأله عن شروطه التي يمكن الاستجابة إليها لتعزيز قدراته في تسيير وزارة محورية مثل المالية حتى يكون نجاحه عونا لي في مهمتي الرئاسية. سابعا: سأحضر نفسي جيدا للرد على أسئلته عن أسباب تفضيله دون الاقتصاديين السودانيين اليساريين للوزارة. ثامنا: ساستعين بمن أثق فيه اقتصاديا للنقاش حول خطة حمدوك حتى أقر أن الأمانة ذهبت لأهلها. تاسعا: سأزيل شكوك حمدوك إذا كان يظن أن الإسلاميين سيقفون حجر عثرة أمام تنفيذ خطته. عاشرا: إذا كان لا بد من التمسك بشعار الاقتصاد الإسلامي فإنني سأضع بعض الموجهات لحمدوك المسلم بضرورة مراعاة تفادي القروض الربوية التي تضيق مساحة هيئة علماء السودان لفتل فتاوى تبيح بعضها بحكم الضرورة.
ربما كل هذه المتطلبات العشرة ضرورية لرئيس مسؤول أمام الشعب، والله مثلما يقول، حتى يضع الرجل المناسب في المكان المناسب. ولكن يبدو أن ليس بالإمكان أفضل من ما كان: المزيد من التخبط، والعشوائية، والتنطع في مسايسة أمر الناس. فالبشير تعود ان يجد من بعض النخبة الطارحة نفسها باحترام مغلف من يرضى بالتوزير بدون الاستشارة المسبقة. بل إنه يتصور أن ثمن كل مثقف إنما لا يتجاوز حيازة وزارة، أو محطة دبلوماسية، أو معهد القرش. ولا بد أنه وجد كثيرا من المثقفين، إسلاميين وغير إسلاميين، يستعجلون أداء القسم بعد استماعهم لنشرة الأخبار مباشرة، نقلا عن سونا. وكذلك قدر البشير أنه إذا قتل شخصا فإن ابنه، أو أخيه، سيرضى بوزارة، أو مقعد برلماني.
وحتما أن البشير وقر في ذهنه حديث النميري عن الجردل، والذي قصد به توجيه الاساءة للمثقفين: “في مثقف في البلد ده ما شال معاي الجردل ده”. ولهذا الذهن الاستبدادي كبا مسار البشير هذه المرة، وأوقع نظامه في حرج بعد اعتذار حمدوك. وآنئذ عرف أن ليس ثمن كل المثقفين، والتكنوقراط، والنخبة رخيص. فحمدوك كما قال صديقه الأستاذ فضيلي “لا تجمعه بهذا النظام الدموي أدنى آصرة فكر سياسي، أو وشيجة عاطفة وطنية من قريب أو بعيد..”. وهكذا لم يخذل حمدوك فضيلي، وكل المثقفين، والمواطنين الذين يعولون على وجود أمثلة لأشخاص رفيعي الخلق، يعافون مغنم التعيين السياسي في الثلاثين عاما الماضية، والذي أفرغ المناصب الحكومية من معناها حتى صارت مجالا للتشريف، وليس التكليف. بل غدا التوزير مرتعا للثراء الحرام، وكسب النفوذ الشخصي، وادعاء الأهمية الوطنية.
إن الاستغاثة بحمدوك تطرح الكثير من الأسئلة الجوهرية حول تجاوز البشير، أو مكتبه القيادي، للاقتصاديين الإسلاميين، وأدبياتهم المنشورة في مقالات، وكتب، وندوات متلفزة، عن كيفية تطبيق الاقتصاد الإسلامي، وقد تجاوز البشير، كذلك، أولئك الاقتصاديين المؤلفة قلوبهم. بل هناك أسئلة ملحة حول الاستغاثة باقتصادي، مصنف يساريا، ما يعني أنه ليس حفيا بنظريات عمر عبيد حسنة الإسلامية، والتي كانت حلما لتحققه الجبهة الإسلامية القومية. وكما نعلم أن التنظيم أسس بنوكا، ومؤسسات مالية، ودخل في مرابحات إسلامية، وطبق سياسات دينية ذات صبغة اقتصادية بعد استيلاء كوادره على السلطة، هنا آخذون في الاعتبار تناقض ذلك مع تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي التي هي استجابة للرأسمالية الطفيلية العالمية.
والأكثر من ذلك أن الأسئلة تترى حول فتاوى كثيفة حول تمرير القروض الربوية للمشاريع الإنتاجية، والخدمية بما ينبئ بأن الإيمان بالنظرية الاقتصادية الإسلامية كامن، مع الرجوع في حال الاضطرار للتعامل مع الربا، أو ما يناقض أدبيات هذا الاقتصاد نفسه.
وإذا أخذنا كل هذا في الاعتبار فإن الاستغاثة بخبرات حمدوك غير الإسلامي تمثل الاعتراف الجهير بخلو جراب اقتصاديي الحركة الإسلامية، وبفناء نظرية الاقتصاد الإسلامي، آخذون في الاعتبار أيضا صرخات عائشة الغبشاوي، وسعاد الفاتح، في جلسات البرلمان، حول جدوى تقنين الربا في المئات من القروض الربوية التي وقع عليها وزراء المالية، والتجارة، ومن يهمهم الأمر من الوزراء.
غالب الظن أن انهيار المشروع الحضاري في جوانبه الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، حمل الإخوان المسلمين السودانيين على القناعة بخطل نظرياتهم في هذه المجالات، انطلاقا من المثل: الأرضة كضبت الحجر. وعليه فإن الاعتراف بعلمنة الدولة، واقتصادها، ووزرائها، يأتي بشكل غير مباشر في الممارسة السياسية المنطرحة على حين غرة أمام أعين كهول، وشباب الإخوان المسلمين، وكذا المسلمين والمسيحيين السودانيين، والكجوريين، والملحدين.
ثمة أمر آخر: إذا كان حمدوك غير الإسلامي، ولا نقول العلماني، هو خيار المرحلة في التوزير الاقتصادي فحسب، فإن السؤال الأهم: ما الذي تبقى في جعبة تجارب الاقتصاديين الاسلاميين، والذين من خلال وقوفهم على أسرار العمل الحكومي، كان ينبغي أن يكونوا الأكثر دراية بفك مغاليق الأزمة؟. ذلك لأنهم يملكون المعرفة اللوجستية بكل صغيرة، وكبيرة، في الفشل الاقتصادي، ويدركون ايضا أن هناك اقتصادين في السودان: واحد للعامة، إذ فيه يعانون من الندرة في كل شئ، وغلاء في كل شئ، والآخر اقتصاد ناجح لتنظيم الإخوان المسلمين إذ يعرفون الى أي مدى ساهم في إخراج الفقراء منهم إلى دائرة الاثرياء. ووفقا، ترقى معظم كوادرهم من طبقة الفقراء إلى الطبقة الوسطى. أما من هو سحلوب فقد قفز إلى المشاركة في الرساميل عابرة القارات، والبحار، والمحيطات. ولذلك ربما عرف حمدوك أنه يصعب لأي وزير مالية الفصل بين الاقتصادين عند تأمل إشكالياتهما، وعند التخطيط لهما، وعند اتخاذ القرار المعني بهما.