عرضنا في مقالة سابقة إلى مواطن الخلل في صراع دارفور الذي بدأ أفقياً بين فئات اجتماعية تمارس الرعي أو الزراعة على موارد دارفور الطبيعية، وتداخُل مصالح هذه الفئات بصورة عززت فُرص زيادة الصراع، من خلال ثبات أو تناقص أو انعدام الموارد المُتصارع عليها في الإقليم وما نتج عن ذلك من احتراب داخلي كإفراز حتمي الحدوث لمثل هذه الصراعات. ثم تحول شكل الصراع ليأخذ أبعاداً رأسية؛ بحيث يكون بين مواطن الإقليم والسلطة المركزية في الخرطوم في شكل حركات مطلبية مسلحة ومجموعات تدعو المركز لمراعاة حقوق الهامش عند قسمة السلطة والثروة، ثم عاد الصراع بصورة ما –لا تخلو من إسهام المركز نفسه في صناعتها- ليأخذ أشكالاً أفقية داخل الإقليم مجدداً ولكنها بصورة أكثر تطرفاً تجاه الآخر المزعوم.
ولعلنا نستأنف الحديث هذه المرة عن التصالح الداخلي الذي لا مناص له أولاً من إعادة النظر في مسألة الأنا والآخر في الصراع الدارفوري الدارفوري. فالإقليم الذي تعيش فيه مجموعات عرقية منقسمة بين أصول إفريقية وعربية، لا يمكن الجزم بالنقاء العرقي فيه مطلقاً، والقبائل عربية الأصول قد خالطت القبائل الإفريقية والقبائل ذات الأصول الإفريقية واشجت القبائل العربية. ثمة أمر آخر جدير بالملاحظة أيضاً وهو أن هذه قبائل على اختلاف أصولها العرقية، لا تتبنى نمطاً واحداً في الإنتاج يقوم على أساس عرقي. فمن القبائل ذات الأصول العربية من قامت على الزراعة والاستقرار على غير ما هو مشاع عن طبيعة العرب الرُحّل، ومن القبائل الإفريقية من نزعت نحو الظعن والترحال وتربية الماشية، دون الاستقرار المعهود عن الكثير من قبائل إفريقيا (الموجودة بإقليم دارفور على الأقل). فرعاة الإبل (الأبّالة) مثلاً؛ صفة لا يمكن خلعها على القبائل “العربية” بصورة مطلقة إذا نظرنا إلى قبائل شمال دارفور ذات الأصول الإفريقية التي تتسم برعي الإبل. وعلى هذا الأساس كان الصراع في الكثير من الأحوال قائماً بين المجموعات التي يُفترض أنها تنحدر من أصول متماثلة فحروب القبائل العربية فيما بينها أو صراعات القبائل الإفريقية الإفريقية لم تقل دموية عن نظيرتها التي تنشب بين مجموعات عرقية متباينة.
برغم كل ذلك فقد طفت على سطح الصراع فكرة استقطاب واضحة منذ نهاية القرن الماضي على أساس عرقي يميز سكان الإقليم بين عربي وإفريقي، وقد أوهم استبداد السلطة المركزية بعض الأطراف العرقية بأنها تمثل امتداداً عرقياً للشريط النيلي. وعلى هذا الأساس فإن هذه المجموعات أضحت مدعومة لوجستياً من المركز ليس لكسب معركتها الشخصية وبسط سيطرتها على موارد الإقليم فحسب وإنما لتشكل –هذه المجموعات- بذلك درعاً دفاعياً صلباً أمام عدو (آخر) متوهم يقف ضد مشروع مجموعة عرقية (يُفترض أنها واحدة) تمتد من دارفور إلى النيل هدفه بناء العمق السوسيولوجي للثقافة العربية الإسلامية في دارفور، وهنا تدخل عوامل أخرى مساعدة في ترسيخ هذا الاستقطاب الإثني المُتخيل بين (الأنا والآخر) في دارفور وهي النزعة العرقية للحركات المسلحة بالإقليم والتي فتحت أفقاً مجانياً يسّر لاستبداد الهوس الديني الذي ساد حقبة الإنقاذ من استمداد نفوذه وسط مجموعات الإقليم المقابلة.
ويمكن استشفاف ذلك من لدن حركة داؤود بولاد المسلحة في بداية العقد الأخير من القرن المنصرم وحتى حركة العدل والمساواة التي تزعمها الدكتور خليل إبراهيم وحركة تحرير السودان التي قادها القانوني عبدالواحد نور مطلع القرن الحالي، هذه الحركات المسلحة التي وجد نظام الإنقاذ من خلال نشأتها (ذات البنية الاجتماعية العرقية المثيرة للشكوك) ضالته وطريقه الأسهل لحل إشكالات وجودية في واقع الإقليم ومطالب موضوعية واستحقاقات واجبة الوفاء عن طريق ضرب المكونات القبلية ببعضها، فمن جانب رفع النظام التكليف عن كاهل السلطة المنهك أصلاً من حرب ضروس بدأت لتوها في وضع أوزارها في جنوب السودان، ومن جانب آخر لتغليب فريق اجتماعي يتمتع بقرابة وجدانية مزعومة مع السلطة تقوم على أسس عربية إسلامية، ولعل “القربى” العربية الزائفة عندي أقرب وأقوى أثراً لدى الطرفين من الثانية؛ الداعم والمدعوم معاً. وإلا فإنه من الصعوبة تفسير ارتداد أبناء دارفور من القبائل ذات الأصول الإفريقية الإسلامية عن مشروع الإسلام السياسي “الحضاري” الذي تبناه النظام الحاكم والذي ارتضوه وانتسبوا له و”جاهدوا” لنصرته بأنفسهم، ليتحولوا إلى ضفة أعدائه الألداء، حاملين السلاح في مواجهته. فمن عجائب تصاريف الأمور أن الرجلين اللذّان قادا حركتي التمرّد (داؤود بولاد وخليل إبراهيم) كانا ينتسبان لتيار الجبهة الإسلام السياسي الذي قاده الدكتور حسن الترابي عرّاب النظام الحاكم. إن ما دفع هؤلاء القادة لمواجهة مرجعيتهم الأيديولوجية بهذه الحدة يحتاج لكثير من الوقوف والنظر (ربما في مقام آخر)، ولكن الذي لا مراء فيه هو أن قدراً كبيراً من التمييز داخل أُطر هذه المرجعية على أسس مناطقية أو عرقية، قد أسهم في أزكاء روح التمرد لديهم تجاه مرجعية لديها من المبادئ والشعارات لا تمت إلى الواقع العملي بأدنى صلة.
إن الظاهرة (الحميدتية) التي نعايشها اليوم في فضاء دارفور والسودان عموماً على سبيل المثال، لا تشكل في مجملها غير علل سياسية متجذرة لدى عقلية متخذ القرار في السلطة المركزية. تلك العقلية التي قامت على منهجية استقطاب مجموعات معينة لتقوم مقام السلطة في الإقليم، تعكس مدى انتهازية هذه العقلية في قطع الزوايا (بتعبير الدكتور منصور خالد) للصول إلى الأهداف بأقل الخسائر وبأقرب الطرق. وما الزوايا المقطوعة والطرق القصيرة هنا، إلا ضرب المجتمع الداخلي بصناعة حالة من الفوضى الخلاقة والتفرغ للسيادة والحكم على حساب فرقة المجتمع الدارفوري، التي لا محالة معرضة للتهافت من خلال نزعتها الانتهازية التكتيكية نفسها، فما حدث لموسى هلال وآخرين من قبله ومن بعده، يضع دارفور بالضرورة أمام نهايات حتمية تتصور من خلالها مجموعات دارفور مستقبلها الوجودي بطرائق مختلفة تستدعي التكامل والانصهار الداخلي.
إن الخلاص من متلازمة الأصلانية التي تمنح أحد الأطراف ميزة تفضيلية في احتكار التاريخ أو الجغرافية على حساب آخر داخل الإقليم، أو بالمقابل الاعتقاد الواهم بتفوق مزعوم على آخر غير منفصل عضوياً عن تكوين الطرف المعتقد، يظل هو الرهان الأكبر لبداية انطلاق تصالح داخلي منتج، والرهان الأكبر نحو بناء إقليم متزن. فما فعلته الانتهازية السياسية على مستوى القُطر على امتداد الحكم الوطني من تشويه لبنية الهوية الثقافية السودانية بدعوى العروبية لم يحقق لهوية السودان مكسباً غير تفكيك تنوع وثراء البلاد، مقابل هُوية ثقافية مصطنعة لم تقوى على انتزاع اعتراف حقيقي ممن يمكنهم وصف أنفسهم بالعرب حقاً. وينبغي بالضرورة أن يشكل هذا التخبط (الذي اصطلى بنيرانه إنسان دارفور) رصيداً إضافياً لخبرتنا في تقويم تجاربنا على امتداد مسيرة بناء مجتمع جديد، تكون لنا القدرة على القبول بماهيته والبناء على تنوعه على الأرض، كما هو دون ادعاء زائف أو عاطفة مزيفة.
.. يتبع
[email protected]