متمردون، خارجون عن العدالة السودانية، يعيشون في مناطق يسيطرون عليها لانهم مسلحون وقادرون على احكام قبضتهم والتنقل بحرية في المناطق الريفية في دارفور.
لا يفعلون ذلك في شمال دارفور التي زرتها برفقتهم، بل يدعون انهم يتواجدون ويتحركون بحرية في ارياف المحافظات الـ 6 لدارفور الذي يوازي بمساحته فرنسا.
ما تمكنا من مشاهدته في مخيم قيادة حركة العدل والمساواة الذي قضينا فيه نحو 3 ايام يسمح الى حد ما برسم ملامح حياة المقاتل المتمرد في ارياف دارفور الشاسعة.
مخيم قيادة الحركة يقع في وادي هور الشاسع الذي تبلغ مساحته 1.455.300 هكتار والذي يمتد بين ولاية شمال دارفور وولاية شمال كردفان والولاية الشمالية.
وعلى الرغم من ان هذه الغابة محاطة بالصحراء الا ان خضرة الاشجار وكثافة العشب في بعض الاماكن ملفتة، ما يشير الى وجود حياة برية تختلف عن الحياة البرية الصحراوية.
فحسبما سمعنا من المتمردين ان في هذه الغابة غزلان وارانب وذئاب وثعالب وثعابين وبالطبع الكثير من الحيوانات والحشرات…
واصر كل من المتمردين الذين تكلمنا معهم على التعبير عن احترامهم للحياة البرية، والامتناع عن قنص الحيوانات على الرغم من امتلاك كل منهم بندقيته جاهزة للاستعمال. حتى العقارب والثعابين، كما يقول لي حامد حجر البالغ 40 عاما من العمر، يحاول الشبان ابعادها وجعلها تهرب بدلا من قتلها.
ويضيف حامد ان “على الانسان المحافظة على البيئة التي يعيش فيها، وبما ان الخلاء وهذه الغابة هي المكان التي يعيش هو وزملاؤه فيها، فالاجدى والاصح المحافظة عليها”.
المعسكر عبارة عن ارض واشجار. لا خيم ولا بناء ولا خنادق ولا جدران.
الفرق
الوحدات مقسمة الى مجموعات يتراوح عددها بين الـ6 والـ10 مسلحين ينتشرون تحت الاشجار، يختارون شجرة كثيفة تشكل تمويها اضافيا للعربة التي يتنقلون بها، والمدججة بالسلاح على مختلف انواعه والملطخة بالوحل الجاف بلون الارض للتمويه وتفادي الضربات الجوية للجيش السوداني.
حتى زجاج السيارات ملطخ بالوحل لتفادى لمعانه تحت الشمس. وهم عارفون بكل تفاصيل وتضاريس ارض المنطقة بشكل يسمح لهم بـ”القيادة غيبا” كما قال علي الوافي الذي اقلنا من مخيم القيادة الى ما يسمى بمنطقة الفرق في الوادي نفسه والتي يستغرق الوصول اليها نحو ساعة من الوقت.
الفرق منطقة مشابهة جدا لمعسكر القيادة في طبيعتها، عربات مسلحة مموهة تنتشر تحت الاشجار. انواع الاسلحة المنتشرة على هذه العربات متنوعة تبدأ بالمسدسات الشخصية والكلاشنيكوف والقنابل اليدوية. اما الاسلحة المتوسطة فتتألف اساسا من الاسلحة المضادة للدروع الآر بي جي المزروعة كباقات على غالبية شاحنات التويوتا الصغيرة التي يستقلها المسلحون.
بالاضافة الى الار بي جي نجد الرشاشات الاوتوماتيكية من عيار كبير مثل ما يسمى بالدوشكا، او رشاشات الـ12/7 التي تثبت على الشاحنات العسكرية.
خلال الحديث مع سليمان صندل الذي كان حتى وصولنا الى المخيم قائدا للقوات العسكرية اتضح انه تم اعتماد نوعا من السياسة الموحدة في الاجابة عن اسئلة مصادر السلاح.
الجواب واحد: “نهاجم الجيش السوداني ونصادر اسلحته. ان الجيش السوداني هو مخزن الاسلحة بالنسبة الى حركة العدل والمساواة”.
ابو بكر حامد نور وهو مهندس سوداني قبل ان يكون مسؤولا عسكريا وسياسيا في الحركة قال انه كانت هناك حاجة لايجاد اسلحة دفاع جوي، ما دعا الحركة الى خوض معركة في منطقة ابو جابرة حيث تتمركز وحدات للدفاع الجوي السوداني. اضاف المستشار السياسي لرئيس الحركة بأن المقاتلين تمكنوا في هذه المعركة من مصادرة مضادات جوية من عيار37.5 ميليمتر المعروفة بالـ”زو” ومضادات اخرى من عيار 23.5 ميليمتر.
تشكل هذه الاسلحة مفصلا استراتيجيا بالنسبة للحركة حسبما يقول قادتها، فهي احدثت نوعا من التوازن العسكري بحيث حيدت المروحيات القتالية للجيش السوداني من المعركة، لان اسقاطها بات سهلا. كما تقول حركة العدل والمساواة انها تمكنت من اسقاط طائرات حربية سودانية ومنها ميغ 29. لكن الخطر الوحيد حسب العدل والمساواة، يتمثل بالطائرات الحربية من طراز انتونوف التي يمكنها القاء قنابلها من علو مرتفع.
ولكن المسؤولين العسكريين في الحركة يجمعون على ان قصف الانتونوف عشوائي يستهدف أي شيء وفي اكثرية الاحيان المواطنين الدارفوريين وقراهم.
بالاضافة الى هذه الاسلحة، سلاح مدفعي خفيف وسهل الانتقال وما تمكنت من رؤيته اقتصر على ما يعرف بمدافع الـ “ب 10” ومدافع من عيار 106 ميليمترات التي تعتلي شاحنات التويوتا الصغيرة.
التويوتا وهواتف الثريا التي تعمل مباشرة عبر الاقمار الصناعية “سلاحان لا يمكن للمقاتل المتمرد في هذه المنطقة الاستغناء عنهما، فلا مثيل لقدرة سيارات التويوتا الرباعية الدفع في وعورة الوديان والطبيعة الصحراوية، كما ان الثريا وسيلة اكيدة للاتصال يمكن الاعتماد عليها ان لتواصل المقاتلين في ما بينهم او للاتصال الخارجي بالاهل في دارفور وتشاد ووسائل الاعلام”، كما يقول ابراهيم المازضينغ امين الاقليم الجنوبي ونائب رئيس الحركة.
ولدى لقائنا برئيس الحركة الدكتور خليل ابراهيم سألته عن مصادر تمويل الحركة ومنها هذه الاتصالات، فكان رده ان نفى نفى تلقي الحركة اي تمويل لوجستي من دولة معينة، بل قال ان اموال تبرعات السودانيين في المهجر هي المصدر الاساسي للتمويل ويعود الجهد في ذلك لنشاط العاملين في مكاتب الحركة في البلدان الـ57 حيث تتمثل العدل والمساواة.
جدول الاعمال
وبعد هذه الجولة على النقاط العسكرية في المخيم ومعاينة ما اتيح لي رؤيته سألت عن الاسلحة الثقيلة، عن مدفعية من عيار 120 ميليمتر وما فوق وعن الدبابات. قال لي حامد حجر الذي سبق وترأس مكتب بيروت للحركة مدة 8 اعوام والذي يتولى حاليا مسؤولية في ادارة الشؤون السياسية للحركة بعد ان تم استدعاؤه للالتحاق بالمقاتلين ان “لا حاجة للدبابات والاسلحة الثقيلة، فالقوات السودانية لا تجرؤ على القتال عندما تتعرض لهجوم من الحركة، ومن الاعتيادي ان تفر جحافل الجيش السوداني امام خبرتنا وطريقتنا في القتال”.
واستشهد حجر بالعملية التي تسميها الحركة بعملية الذراع الطويلة والمعروفة بعملية ام درمان التي شنتها الحركة العام الماضي وهددت خلالها نظام الخرطوم.
ولكن خليل ابراهيم كانت له اجابة مختلفة نقيضة تماما اذ قال لي ان لديهم مدرعات ودبابات واسلحة متطورة مضادة للدروع وللطيران، ولكنها ليست في المنطقة الشمالية التي تسنى لي زيارتها.
جدول الاعمال اليومي لسكان المعسكر، أي المقاتلين المتمركزين تحت الاشجار ليس بمزدحم، ويتكون من مهام غالبيتها لوجستية كتأمين المياه وشراء البضائع والحاجات الاساسية لسكان المعسكر، والدوريات التي لا تستغرق كامل النهار.
وفي الوقت المتبقي، غالبا ما يسترخي المسلحون تحت الاشجار، التي وصفها لنا احد القادة بأنها “فلل المقاتلين”.
ولكن المقاتلين يقولون انهم على اتم الاستعداد بشكل دائم، فكلما تكلمت مع مجموعة منهم صادفني جواب بمعنى الانتظار: “ننتظر اوامر الهجوم على الخرطوم كما فعلنا العام الماضي عند تنفيذ عملية الذراع الطويلة”.
هذا هو الامل الذي يعيش من اجله هؤلاء، وفكرة امكانية صدور هذا الامر تجعل انتظارهم اسهل.
هم يتكلمون بثقة عن ان هذا الامر سيصدر قريبا، وبأنهم سيخوضون المعركة ويربحونها ويسقطون النظام. وبانتظار ذلك يجلسون تحت الاشجار، ينظفون اسلحتهم، يجرون بعض الدوريات، يلعبون الورق، يقضون الليل محاولين تفادي اشعال أي نار او ضوء كي لا يرصدهم الطيران الحربي السوداني.
اكلهم هو اساسا ما يعرف بـ”وجبة الثوار”، صحن يتكرر ويتكرر في أي وقت من النهار، العصيدة: طبق يتألف من دقيق الذرة المسلوق ترافقه “صالصة” فيها الكثير من البهار ويؤكل بطريقة اجتماعية اذ يتحلق الجائعون حول الطبق، فتنتهي العصيدة، ويستمر كلام المتمردين عن “محاكمة الرئيس عمر البشير وتحرير السودان”.
نبذة: حركة العدل والمساواة بين واقع التمرد ومثالية خطاب القادة
يعيد زعماء ومقاتلو متمردو دارفور سبب ازمة الاقليم وتفاعلاتها التي المستمرة منذ بداية الالفية الثالثة الى هذا العامل: “لولا التهميش لما كان التمرد”.
حركة العدل والمساواة التي اعلنت بيانها التأسيسي عام 2001، اي بعد سنتين من صدور ما يعرف بـ”الكتاب الاسود” (وهو وثيقة لم تكن موقعة اعلن الدكتور خليل ابراهيم لاحقا انه مؤلفها)، تعتبر اليوم حركة التمرد الوحيدة المتماسكة عسكريا في دارفور، وبخاصة بعد عملية “الذراع الطويل” التي نفذتها في مايو/ ايار 2008 اذ تمكنت من شن هجوم انطلاقا من اقليم دارفور على مدينة ام درمان القريبة من العاصمة الخرطوم مهددة بذلك حكم الرئيس السوداني عمر البشير.
كانت زيارتنا الى اقليم دارفور وتحديدا الى وادي هور شمالي الاقليم، كانت مناسبة للتعرف على هذه الحركة عن قرب، او على الاقل فرصة لنقل تعريف للحركة واهدافها ونشأتها بلسان قادتها وقادة متمردين كانوا ينتمون سابقا لحركات تمرد اخرى، وبخاصة حركة تحرير السودان، ثم التحقوا باعداد يقال انها كبيرة بـ”العدل والمساواة”.
يعود سبب انضمام هؤلاء الى سببين اساسيين: الاول يتمثل بالقدرة والجدية التي اوحت بها العدل والمساواة لدى شنها الهجوم على ام درمان.
اما الثاني فهو اعتماد الحركة بقيادة خليل ابراهيم لغة سياسية تقدم الحركة على انها منصة مستعدة لتكون مظلة سياسية وعسكرية جامعة لمجمل حركات التمرد الدارفورية بكل اتجاهاتها السياسية والدينية والعرقية والقبلية.
ولكن ابو بكر حامد نور، المستشار السياسي لخليل ابراهيم ومسؤول العلاقات الدولية نفى نفيا قاطعا ان تكون حركة العدل والمساواة تنتمي الى التيار الاسلامي.
وقال ان حركة العدل والمساواة هدفها “التراضي على المواطنة” وفسر ذلك بمبدأ تساوي الجميع في الحقوق والواجبات اي ان ذلك “لا علاقة له لا بالدين ولا اللون ولا الجهة ولا القبيلة”. وييرى ان الانظمة السياسية التي حكمت السودان استخدمت هذه الفوارق واستثمرتها.
فمشكلة جنوب السودان الآن ليست مشكلة دينية بين مسيحيين ومسلمين بل هي مشكلة تنمية ونظام حكم اي مشكلة سياسية.
اما حركة العدل والمساواة حسب ابو بكر حامد نور فهي تضم كل النسيج السوداني ففيها من كان في حزب الامة والحركة الاسلامية والحزب الشيوعي وغيرها.
ولدى سؤاله عما اذا كان اتجاه الحركة علمانيا، قال نور ان “الحركة لا تحدد، انما تؤمن بأن السودان للجميع: علماني مسلم مسيحي. نحن هدفنا المواطنة التي لا تبنى على الدين ولا اللون ولا احد يملك الحق مثلا بأن يقول للسوداني المسيحي بأنه ليس سودانيا ولا يمكنه ان يحكم. الشعب هو مصدر الحكم”.
وعلى الرغم من اصراره على مبدأ الدولة المدنية والجامعة لجميع الاطياف السودانية، اجاب نور بأن “لا مانع من ان يحكم اقليم وفقا للشريعة الاسلامية في حال قرر الشعب ذلك”.
اما سليمان جاموس، فهو متمرد من نوع آخر، فقد التحق مؤخرا بحركة العدل والمساواة بعد اعوام قضاها في حركة تحرير السودان وهو احد مؤسسيها لكنه انشق عنها، كما يقول، بسبب تقديمها التنازلات من جهة، وبسبب ادائها الذي لم يعد يتلاءم مع منطق وحدة حركات التمرد.
وجاموس “لا يؤمن بالاسماء” كما يقول بل بالافعال التي هي الاهم ويضيف بأنه منذ انضمامه لحركة التحرير كان ينادي بتوحيد “المقاومة” ولذلك تواجه مع القادة الآخرين في حركة التحرير.
نداءات الوحدة لم يسمعها احد من قادة حركة التحرير، حسبما يقول جاموس، بل ان حركة العدل والمساواة هي الوحيدة التي ترجمت عناوينها الحوارية الى واقع من خلال الكلام والتباحث مع المنتمين لحركات اخرى بهدف اعطاء دفع وحدوي فعلي لحركات التمرد يترجم عمليا بانضمام اشخاص ومجموعات كانت بالامس في مواقع مختلفة الى حركة العدل والمساواة.
وحسب جاموس فان بيئة حركة العدل والمساواة صالحة لنمو العمل السياسي والميداني، ولذلك اصبحت ملاذا للمقاتلين الذين جاءوا من اجل القضية فقط، وفق مبدأ الوحدة، بينما الحركات الاخرى قائمة على التنافس غير الشريف.
ويقول الدكتور خليل ابراهيم، رئيس الحركة ان هناك يوميا وفودا كبيرة تنضم الى الحركة، ويصف ابراهيم الوضع بـ”المزدحم” ولذلك تؤخر الحركة احيانا انضمام البعض.
ويتمحور كل خطابه السياسي حول الظلم والتهميش الناتج حسب قوله عن “سياسات استعمارية جديدة. فبينما كان الاستعمار البريطاني يفصل الاقاليم ومنها اقليم دارفور عن العاصمة، ويمنع السكان من الانتقال الى الوسط، ورث الاستعمار الجديد الذي يتمثل بالحكم الحالي النمطية نفسها في انماء العاصمة واهمال الاقاليم الاخرى والاطراف التي حرمت من كل عوامل التنمية بدءا بالتعليم”.
ويضيف ابراهيم بأن الدولة السودانية منذ 1956 (عام الاستقلال عن الاستعمار) خاضت معارك عسكرية كبيرة وباستمرار، لكنها لم تقاتل يوما عدوا خارجيا ولا صدت هجمات خارجية معادية، بل قاتلت في الداخل، قاتلت اهلها، وهي لا تزال تفرط في الانفاق على الامن والتسلح وهما العنوانان الاساسيان والتقليديان للموازنات العامة التي اعدتها وتعدها الحكومات السودانية المتعاقبة”.
يصف ابراهيم حركته بأنها قائمة على بنيتين ادارية وعسكرية.
ويتمثل رأس الهيكلية الادارية برئاسة الحركة والمؤتمر العام والمجلس التشريعي، تليها المراكز التنفيذية كامانات الاقاليم وامانات الولايات وامانات قطاعات اسفل الولايات.
اما عن الهيكلية العسكرية لحركته، فيقول ابراهيم: “للجيش قائدا عاما، يليه نائب القائد العام، يشرفان على هيئة القوات المشتركة التي ترأس بدورها هيئة الاركان.
وتتفرع عن هيئة الاركان قيادة الفرق التي تنقسم الى شقين: فرق الجيش المتحرك، وفرق جيش القطاعات الرابض بالمواقع الثابتة للجيش في المناطق التي يسيطرعليها. والفرق تتقسم الى الوية والالوية الى كتائب والكتائب الى سرايا، كما في اي جيش الى اسفل الهرمية”.
ويصف ابراهيم الجناح المسلح لحركته بـ “الجيش”، بحزم وبدون تردد، نسخ هيكلية حركته العسكرية عن هيكلية اي جيش كلاسيكي، ولكن بتعديلات بسيطة تتعلق بما ينفع حركة التمرد المقاتلة لناحية خفة وسرعة الحركة.
والملفت لدى العدل والمساواة هوة تفصل الكلام عن الواقع:
فعلى الرغم من انتشار البزات العسكرية المتجانسة نوعا ما لدى مقاتليها الكثر الذين التقيناهم (والتي تبدو جديدة لدى الجميع تقريبا ما يشير الى ان للحركة قدرات وامكانات لوجستية)، وبالرغم من وصف القادة العسكريين تنظيمهم بأنه “جيش”، واستفاضتهم في وصف الهرمية العسكرية والتقسيمات القتالية والحربية، الا ان “المظاهر الميليشياوية” ملفتة ايضا لدى العدل والمساواة، وتظهر من خلال تفاصيل بسيطة تبدأ بانتشار لعب الورق بين المتمردين (حتى في السابعة صباحا)، الى غياب تام لاي مظهر من مظاهر الانضباط التي عادة ما تبدأ بالتمارين الرياضية والقتالية اليومية والدائمة لاي جيش يريد الحفاظ على جهوزيته. هذه المظاهر غابت نهائيا على الاقل خلال زيارتي التي استمرت نحو 3 ايام.
وتعلن العدل والمساواة باستمرار عن نيتها استلام الحكم في السودان، وقد اثبتت عام 2008 من ام درمان بأنها قادرة على تهديد النظام.
ولكنها وان كانت متمكنة من بلورة خطاب سياسي تعتقد بأنه يخولها استلام الحكم، الا ان لا مؤشرات فعلية وعسكرية وميدانية تفيد بأنها تملك حتى الآن ما يسمح لها باجتياز المسافة الفاصلة بين تولي السلطة والقدرة على المحافظة عليها.
مخيمات اللجوء في تشاد: قرى دارفورية برعاية دولية
شرقي تشاد يعج بتحركات المنظمات الدولية. طائرات صغيرة ورحلات تقل رسميين وصحفيين وموظفي منظمات. لدى الوصول الى مدينة ابشه في الشرق، لا يمكن الا التوقف عند الحجم الهائل للبنية التحتية التي تشغلها المنظمات وبخاصة الامم المتحدة والوكالات التابعة لها في المنطقة.
ليس من الغريب وصف تشاد بـ”بلد” اللاجئين. فزيارة بضعة ايام الى هذا البلد لا يمكن الا ان تظهر حجم معضلة اللجوء.
الامم المتحدة تفرق بين النزوح واللجوء. فالعمل في مخيمات النزوح يختلف حسب الامم المتحدة اداريا ولوجستيا عن العمل في مخيمات اللجوء. وبينما ينظر الى اللجوء على انه قدوم مواطنين هربوا من بلد آخر مجاور، يقتصر النزوح على المهجرين المحليين وعددهم في تشاد 180 الف شخص تهجروا ونزحوا بسبب نزاعات اثنية وقبلية مختلفة شمالي وجنوبي البلاد. يبلغ عدد اللاجئين السودانيين نحو 250 الفا، اما عدد اللاجئين من جمهورية افريقيا الوسطى فيتخطى الـ12 الف شخص، وهي ظاهرة مستمرة ومتفاقمة حسبما تشير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
وتجدر الاشارة هنا الى ان جغرافية تشاد، التي تتشارك حدودها مع ستة بلدان، تعتبر سببا اساسيا لحالة عدم الاستقرار السياسي والامني في البلد الذي تبلغ مساحته مليون و 284 الف كيلومتر مربع والذي يقدر الطول الاجمالي لحدوده البرية بنحو 6 آلاف كيلومتر.
بالرغم من اهمية المعضلات السياسية والجغرافية والقبلية والاجتماعية في تشاد، وتعدد المشاكل التي تعاني منها البلاد، تشكل قضية لاجئي دارفور في تشاد احد اهم التحديات للحكومة التشادية و للمنظمات الانسانية وعلى رأسها الامم المتحدة.
المشاكل
تغطية اوضاع كل مخيمات اللاجئين السودانيين في شرقي تشاد تتطلب اشهرا طويلة من العمل لان المشاكل التي تعاني منها المخيمات الـ12 التي تديرها الامم المتحدة في شرقي البلاد مختلفة ومتنوعة وتتعلق بطبيعة المناطق التي تقع فيها المخيمات والتركيبة الاثنية والاجتماعية لسكان كل مخيم.
فعلى سبيل المثال، يشكل موضوع المياه المشكلة الاساسية في مخيم تلوم، اما في مخيم ام نبك، القريب من الحدود مع السودان، فالمشكلة الاساسية امنية، حسبما تقول الامم المتحدة.
وعلى الرغم من ان كل مخيم يمكن ان يكون لديه مشكلة تشكل عنوانا اساسيا لصعوبة الحياة فيه، الا ان هناك ايضا اوجه شبه عديدة بين مخيمات اللاجئين. ويعود ذلك تحديدا الى التقسيم الذي اعتمدته المفوضية العليا في تنظيمها بناء وادارة المخيمات.
تنسيق ادارة المخيمات لوجستيا وامنيا هو عبارة عن عمل مشترك بين سكان المخيم والسلطات التشادية والامم المتحدة ومنظمات اخرى.
السلطات التشادية هي التي ترعى الامن في المخيمات من خلال فرق “المفرزة المتكاملة للامن” المفصولة عن الشرطة التشادية.
مكتب المفرزة الذي يرفرف عليه العلم التشادي هو المكان الاول الذي يجب على كل زائر التوقف عنده لابراز اوراقه وتصاريحه كي يسمح له بالدخول الى المخيم. وحدها المنظمات الانسانية العاملة في المخيمات والمعروفة من السلطات التشادية لها حق التحرك بحرية تامة دون ان تتعرض لسيل من الاسئلة.
رعاية تشادية
ترعى السلطات التشادية كذلك المخيمات من خلال شخص مدير المخيم، وهو موظف تشادي يتولى التنسيق بين الاهالي والمنظمات الانسانية والسلطات التشادية.
في المخيمين اللذين اتيح لنا زيارتهما أي مخيمي تلوم واريديمي لاحظنا ان مدير المخيم مقره مكتب منظمة كير الدولية، وهي منظمة انسانية كندية.
بعد عبور بوابة المخيم وتخطي الحاجز الامني، لا يمكن الا ملاحظة مكاتب المنظمات الدولية. هي ليست فعلا مكاتب، بل “هنجارات” على شكل مخازن يقتصر اثاثها على بعض الكراسي البلاستيكية والطاولات العتيقة.
لا يمكن لاي زائر الى مخيمات اللاجئين الا ان يستوقفه دور المنظمات من المفوضية العليا للاجئين وبرنامج الغذاء العالمي واليونيسكو وكلها تابعة للامم المتحدة بالاضافة الى منظمتي “كير” الدولية واطباء بلا حدود.
لا يمكن ادارة المخيمات انسانيا وحياتيا دون التنسيق بين مختلف المنظمات وتوزيع الادوار كما هو الحال. فعلى سبيل المثال تهتم المفوضية العليا بالوضع الرسمي واللوجستي، وبرنامج الغذاء العالمي يساهم في تأمين السلامة الغذائية، بينما تسهر اليونيسيف على مسألة التعليم، اما كير الدولية، فاشتهرت في المخيمات بوضع البرامج الاقتصادية كالقروض الصغيرة وخلق فرص عمل داخل المخيم.
فقد دعمت كير على سبيل المثال انشاء معمل للصابون في مخيم اريديمي الذي يتخطى عدد سكانه الـ18 الف شخص، ومشاغلا في مخيمي اريديمي وتلوم (الذي يتخطى عدد سكانه الـ23 الف شخص) لصناعة اوان لتسخين المياه والطبخ بواسطة الطاقة الشمسية بهدف توفير الحطب ومكافحة مشكلة التصحر.
وكما هو متوقع، تعنى منظمة اطباء بلا حدود بادارة المستشفيات في المخيمات وتقديم الخدمة الطبية المجانية للمرضى والعجزة في المخيم.
من بعيد، المخيم اشبه بقرية دارفورية عملاقة. بيوت مصنوعة من الطين، ومسقوفة برزم القش. من الداخل، بيوت قروية بالغة التواضع، ملفتة نظافتها واعتناء نساء المخيم بها على الرغم من الطبيعة الرملية للمنطقة وغياب كل ما له علاقة بمواد البناء الحديثة. اما في موسم الامطار، فالحل يتمثل باعتماد الطريقة البدائية الشهيرة التي تقتصر على بل روث المواشي ومزجه بالقش وطلاء الحيطان به ليشكل عازلا ويجعلها مقاومة الامطار.
الاحجام الكبيرة للمخيمات فرضت تقسيمها على اساس مناطق. ففي تلوم واريديمي مثلا 10 مناطق لكل منها مدرستها المحلية بالاضافة الى مدرسة مركزية.
وفي كل مناسبة يقع النظر فيها على مجموعة من الاثواب المزركشة التي تلون الطبيعة الرملية الصحراوية الباهتة، فهناك حتما بجوارها حنفية مياه تملأ النسوة والشابات اللاجئات الاوعية لتنقلها على ظهور الحمير الى المنازل.
وفي كل مخيم كذلك سوق رئيسي، يحتوي على كل المواد الاساسية التي تلزم، وحتى المطاعم والحلاقين ومحال عصير الفواكه. وتلقى هذه الاسواق تشجيعا كبيرا من قبل المنظمات، مثل كير الدولية التي تزود البعض بقروض صغيرة دون فائدة ليؤسسوا مشروعا تجاريا.
باختصار، حياة اللاجئ منظمة، وهناك دوما مجموعة من كبار الشيوخ السودانيين المطاعين من قبل المواطنين. هؤلاء كانوا من اعيان قراهم ومناطقهم، ويلعبون في المخيم دور الوسيط والمنسق مع موظفي الامن التابعين للمفرزة او مع المدير التشادي للمخيم والمنظمات الانسانية.
لا تشبه حياة اللاجئ حياة سكان المدن، وفي الكثير من الاحيان لا تشبه ايضا حياة سكان القرى والمزارعين لان جغرافية المنطقة وشح المياه لا تتيحان الزراعة. لكن في “المخيم – المدينة” يعطي انطباعا اساسيا وهو ان اللاجئ ، وعلى الرغم من الرعاية شبه التامة التي تؤمنها له المنظمات، يحاول لا شعوريا استيلاد نمط حياة عادية ومنظمة يدور حول الجيرة والسوق والمدرسة والعمل.
بشير الخوري
بي بي سي – اقليم دارفور
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2009/07/090709_bk_sudan_darfur_rebels_jem.shtml