بقلم : الاستاذ الطيب محمد عبد الرسول
عند اقتراب أيام العيد يبدأ ممثلو القبائل وإداراتهم الأهلية الإحتشاد في مدينة الفاشر لحضور العرض السنوي الذي يقام بصورة راتبة كل سنة فيتم تجهيز التشكيلات العسكرية وتشكيلات ممثلي القبائل وفي اليوم المحدد للعرض يتم تجهيز هذه الجموع الى الغرب من مدينة الفاشر جهة (شالا) ويعتلي السلطان على دينار الطابية من مبنى قصره ليشهد هذه الجموع وهي تمر .. تشكيلة تلو الأخرى لتشق مدينة الفاشر ، تشكيلات من العسكر وتشكيلات من حملة الرايات وأخرى من القبائل تضم كل تشكيلة مائة فرد يحملون أسلحة ( الكرمبل وال
مرمتون ) . يصاحب مرور هذه التشكيلات ضرب ونفخ وعزف على جميع الألات ( الجنج جنج ، القرن، الأمبايا .. والكيتا … الخ ) ويتم التعريف بهذه التشكيلات والتي تأتي في مؤخرتها تشكيلة الكيرا ذات الراية الخضراء بقيادة (باسي أيوما) . وبعد مرور جميع التشكيلات ينزل السلطان من الطابية ثم يصلي ركعتين ثم يُنفخ في القرن والأمبايا ويُضرب النحاس ثم يركب السلطان حصانه بعد أن يكون قد أُسرج بأبهى الحلل ويكون قد حفّته اعداد وتشكيلات من الشباب والصبيان وقد أزدانوا بأزياء حمراء وخضراء وزرقاء تميزهم .. حتى اذا انطلق السلطان على دينار حفته هذه الجموع من الشباب والصبيان من كل ناحية وعلى المحاذاة يَمنة ويَسرة تشكيلات من الشباب يحملون مراوح يدوية من ريش النعام يهبون بها حول السلطان وفي المقدمة هناك تشكيلة من الشباب والصبيان على نسق واحد يحملون بسطونات (عصي رفيعة) يتقدمون موكب السلطان ويلازم هذا المشهد اهازيج وجلالات كورالية تُردد بين عدة مجموعات فتنشد احداها :
الفُقرا الله الله قوموا في شان الله
أمسكو صفة المصطفى يشفع لنا يوم القسا
ثم ترد مجموعة ثانية تظل تردد وتُنشد الجلالة فتقول :
لا إله إلا الله لا إله إلا الله
لا إله إلا الله محمد يا رسول الله
تم تتبعها أهزوجة من مجموعة ثالثة تنشد فتقول :
نمشوا في بيت الله نطلعوا جبل عرفة
نتبعوا سيد الراية على سيدي .. على سيدي
سمعنا هذه الروايات وهذه الأهازيج الشجية من والدنا – يرحمه الله يسردها ويلّحنها نقلاً عن أعمامه وأخوانه الكبار ممن عاشوا هذه المشاهد وشاركوا فيها، حكاها ورددها بالحانها حتى جعلنا نحس وكأننا موجودون داخل تلك الكرنفالات نشارك فيها ونتفاعل معها. هكذا يمضي موكب السلطان متفقداً تلك التشكيلات حتى اذا مر على الجميع عاد من طريق آخر الى القصر فينفخ في القرن و الأمبايا ( ترى فوتو … ترى فوتو ) أي أنفضوا .. أنفضوا إيذاناً بإنتهاء مشهد العرض.
ثم يلي ذلك انزال الوفود منازلها التي اعدت سلفاً على أرض فلاة واسعة تم تجهيزها واعدادها لهذا الغرض وتوضع عليها كميات كبيرة من البواطي ( قداح كبيرة وضخمة مصنوعة من جذوع الحراز لايرفع الواحدة منها إلا نفر من الرجال ) . مثل هذه البواطي تُملأ باللحوم والأطعمة التي أجيد طبخها فيوزع الناس على هذه القداح والبواطي لتناول الطعام .. قِيل أن السلطان علي دينار وفي معيته المسئولين والأعيان يمر على هذه الجموع متفقداً إياها أثناء تناولهم الطعام للإطمئنان .
يُذكر أن السلطان علي دينار في مثل هذا العرض السنوي يتكلم في جموع الناس والقبائل يشجعهم ويحضهم فيها على التماسك والتآزر ونبذ الخلافات بينما الناس ترد عليه : سيدنا الله يهدينا … سيدنا الله يهدينا . وفي هذا العرض السنوي أيضاً سانحة طيبه يجتمع فيها السلطان بأعيان وزعماء القبائل للسماع منهم والتشاور معهم حول شئون مناطقهم فيصدر لهم التعليمات والتكاليف . في هذه المناسبة مدارسة الأحوال المعيشية في المناطق وقد جرت العادة الاحتفاظ باحتياطي للغلال في بعض المناطق الريفية بما نُسميه بلغة آليوم ( المخزون الاستراتيجي ) لإغاثة مناطق الإقليم التي لم تحظ بوفرة في الانتاج بسبب شُح الأمطار .
ومما ذُكر ايضاً فإن السلطان يعهد الى زعماء بعض القبائل الأتيان سنوياً بأربعين فلو من كل زعيم قبيلة ثم يعيد توزيعها على الأشخاص المتّمرسين للذهاب بها الى مناطق ريفية بعينها للاعتناء بتربيتها وتجهيزها كواحدة من اهم موارد ومقومات الآلة العسكرية وهكذا تستمر العملية في كل موسم ومن اعجب ما سمعتُ في هذه الجزئية قال لي والدي : انّ السطان علي دينار بُعيد خروجه من الفاشر بعد الغزو الانجليزي ارسل الى كيلا حصاناً كريماً اسمه ( جواد طيب ) وأرسل معه كمية من القماش فكانت وصيته ان يُبنى لهذا الجواد راكوبة كبيرة وظليلة ويُعتنى به غاية العناية حتى اذا جاء الأجل ومات يوما ماء فلا يُرمى في العراء وانّما يُكّفن ويُدفن .. وبالفعل فقد شهد والدي هذا الجواد كما شهد الكيفية التي دُفن بها عندما مات .. قال والدي رحمه الله : ما من شخص يقف امام هذا الجواد ويرفع له اليد اليُمنى ملوحا وسائلا اياه عن حال السلطان الا وأطرق هذا الجواد للسائل فيرد مُهَمهِماً وهازاً راْسه بالإيجاب … سبحان الله .. لله في خلقه شئون ….