حقائق الصراع في السودان 1
مقاومة الهيمنة والإستئثار بالسلطة
صلاح سعيد جمين
الدوحة – قطر
إن الذي يجري في منطقة جبال النوبة بالسودان من عمليات قتالية على الأرض وغارات جوية تروع المدنيين ما هو إلا جزء من صراع أكبر تتوالى مشاهده وتتكرر على امتداد الوطن، وهو صراع بين مشروعين أو تيارين، الأول مهيمن وقابض بقوة على مفاصل السلطة ومصادر الثروة في البلد، ويقوده فئة نخبوية مفلسة فكرياً وأخلاقياً من وسط السودان وشماله النيلي. عملت هذه الفئة منذ خروج المحتل الإنجليزي من البلاد على اعتساف الحكم وإقصاء الآخر عن مسرح الأحداث ، وكبلت بذلك الوطن وأقعدته وأوهنت نسيجه الإجتماعي. أما التيار الثاني الذي يمثله الهامش الكبير في دارفور وكردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان فرافض ومقاوم لهذه الهيمنة الآحادية التي ظلت تنتجها وتمارسها هذه الفئة النخبوية لأكثر من خمسين عاماً، والتي إنتهت بنا إلى ما نحن عليه اليوم في السودان من انفصال للجنوب الذي استقل بدولته منذ أيام قلائل، فضلاً عن ثورات أهل الأطراف المسلحة بكل تداعياتها الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذه الثورات، وبرغم اختلاف زوايا النظر إليها قبولاً ورفضاً، إلا أنها في جوهرها تستهدف تقويم الأوضاع المعوجة في السودان وتصحيحها.
هذا الوصف في تقديري يمثل جوهر صراع السلطة في السودان ، وذلك دون أن نغفل الأبعاد الثقافية والاجتماعية والإثنية ودورها المحوري في هذا الصراع. وفي هذا الاطار العام يجيء حديثنا عن الحرب التي تدور رحاها اليوم في منطقة جبال النوبة/ جنوب كردفان التي تمثل جزءاً مقدراً من الجنوب الجديد، من حيث الجغرافيا والديمغرافيا، بعد أن انفصل جنوب السودان بدولته في 9/7/2011م. والصراع في هذه المنطقة يأخذ أبعاداً شتى، حيث أنها تحظى بميزات جيوبوليتكية من حيث الموقع والأهمية السياسية بالنسبة لدولتي الشمال والجنوب معاً. فهي تتمتع بخطوط تماس مع ثلاث ولايات جنوبية هي أعالي النيل وشمال بحر الغزال والوحدة الغنية بالنفط ، فضلاً عن كونها تضم منطقتين من أصل خمس مناطق يدور حولها نزاع بين دولتي الشمال والجنوب، والمنطقتان هما كاكا التجارية وأبيي الغنية بالنفط، والأخيرة تعتبر أسخن بؤر النزاع الخمس على طول الحدود بين الدولتين. كما أن المنطقة تحادد ولاية جنوب دارفور التي تشهد نشاطاً محدوداً لحركات دارفور المسلحة، والمنطقة بها تركيبة إثنية ودينية متنوعة تشكل بيئة صالحة للاستقطابات السياسية والدينية المتطرفة. كما أن المنطقة بها قدرات عسكرية كبيرة وميزات دفاعية طبيعية تؤثر في الأوضاع العسكرية والأمنية وموازين القوى بالنسبة للدولتين خاصة دولة الشمال حال فشلت الحكومة في ايجاد حلول مرضية لمشاكل المنطقة. من ناحية ثانية، تعتبر المنطقة في هذا المنعطف الحرج لدولة السودان الشمالي المنتج الوحيد للنفط، كما أنها غنية بمواردها وثرواتها الطبيعية الأخرى.
لكل تلك الأسباب المذكورة آنفاً، كان حزب المؤتمر الوطني الحاكم حريصاً منذ الحرب الأولى في تسعينيات القرن الماضي على بسط نفوذه وفرض هيمنته واقصاء كل القوى السياسية والاجتماعية التي تمثل عائقاً لتنفيذ مخططه المرسوم للمنطقة وذلك من خلال سلسلة من السياسات والممارسات الإجرامية ضد قومية النوبة، أكبر المجموعات السكانية في المنطقة والتي تتمتع بحقوق تاريخية فيها، وينظر إليها بأنها مجموعة مناوئة في رؤاها وتوجهاتها العامة للفكرة المركزية التي تصدر عنها النخبة الحاكمة والمتواطئون معها من أهل وسط السودان وشماله النيلي وبعض أبناء الهامش الكبير. لقد استهدفت الاعتقالات التعسفية المستنيرين من أبناء النوبة بقصد ترهيبهم وتشريدهم، هذا إلى جانب التصفيات وعمليات القتل المنظم التي كانت تديرها الأجهزة الأمنية والإستخبارات العسكرية على أساس الهوية السياسية والإثنية إذ أن كل نوبي متمرد. وكان كل ذلك يجري باشراف كامل ومباشر من قبل مطلوب الجنائية الدولية المدعو “أحمد محمد هارون”، وضابط الإستخبارات المدعو “أحمد خميس” والمفارقة هي أن الأخير من أبناء النوبة المفترى عليهم. كانت عمليات الترعيب والتهجير القسري للسكان وإعادة توطينهم في بيئات جديدة – قرى السلام بالرحمانية – تتم بغرض هندسة واقع ديمغرافي جديد يجعل من قومية النوبة أقلية في وطنهم الصغير.
رأى المؤتمر الوطني بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل “بروتوكول جنوب كردفان/ جبال النوبة” أن في مقدوره انجاز ما عجز عن تحقيقه في الحرب، أي تكريس سلطته ونفوذه في المنطقة. ومن أجل هذه الغاية بذل كل مابوسعه ولم يتورع عن نهب المال العام وتوظيف موارد الشعب السوداني المغلوب على أمره في شراء الذمم واستمالة ضعاف النفوس والانتهازيين إلى صفه. وتبدت رغبة المؤتمر الوطني في بسط هيمنته على المنطقة جلية وجامحة عبر سلسلة المخالفات والممارسات غير الأخلاقية التي ظل ينتجها وكانت السمة المائزة لكل الاستحقاقات والإجراءات ذات الصلة بالتعداد السكاني والإنتخابات التكميلية في الولاية. تمثلت أهم وأكبر تلك المخالفات في تزوير الاحصاء السكاني الأول الذي أظهر أن تعداد سكان الولاية 1,400,000 نسمة، بينما بلغ الاحصاء التكميلي (المعاد) 2,508,268 نسمة بفارق يقارب النصف تقريباً. وارتبط تزوير الإحصاء بتزوير السجل الانتخابي للدوائر القومية بالولاية في الانتخابات الأولى في 2010م . ولقد ترتب على هذا التزوير المركب تمثيل زائف لسكان الولاية على المستوى القومي وهضم لحقوقهم في الثروة والسلطة. بالإضافة إلى ذلك, حاول المؤتمر الوطني التزوير والتلاعب في السجل الانتخابي التكميلي للدوائر الولائية إلا أن التصدي من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان لهذه المحاولات كان حاسماً. من جانب آخر، أظهرت المفوضية القومية للانتخابات في الخرطوم، واللجنة العليا للانتخابات في الولاية عدم نزاهة وحياد في أدائهما، علاوة على أنهما افتقرتا للشفافية في العمل، وأثبتتا بذلك أنهما ليستا سوى أدوات أو أذرع للمؤتمر الوطني يستخدمها في لعبة الصراع على السلطة.
أيقن المؤتمر الوطني أن لا أمل له في الفوز بانتخابات الولاية فعمد إلى تزوير نتيجتها، وعندما رفضت الحركة الشعبية التزوير ورفضت الاعتراف بنتيجة الانتخابات والمؤسسات الدستورية والتنفيذية التي تتمخض عنها، رأى المؤتمر الوطني أن يفجر الأوضاع الأمنية في المنطقة فاختار الحسم والمواجهة العسكرية. إذاً، فاندلاع الحرب الثانية التي تدار اليوم في جبال النوبة ما هي إلا استمرار لمخطط قديم لم يستكمل بعد. ونشير هنا إلى أننا لا نشك مطلقاً في أن لهذه الحرب أهدافاً حيوية بالنسبة للنخبة الحاكمة في الخرطوم أهمها اجهاض المشورة الشعبية كاستحقاق لم يفطن جهبذ الإنقاذ عند التفاوض إلى أن بعض تداعياتها قد لا تحمد عقباها بالنسبة لهم، كأن يرفض شعب الإقليم ما قدمته نايفاشا كتسوية لقضيته ويرفع سقف مطلبه ليلامس الحكم الذاتي خاصة وأن أصوات الجماهير قد أخذت تعلو مطالبة بذلك في ولاية النيل الأزرق التي يحكمها بروتوكول مشابه للذي يحكم جنوب كردفان/ جبال النوبة، أو ربما تذهب الجماهير أبعد من ذلك وتطالب بحق تقرير المصير، وذلك لإعتبارت تاريخية وسياسية وحقوقية يمكن أن تجد القبول والسند من المجتمع الدولي. وفي هذا الشأن، لا يخامرني أدنى شك في أن الشعب النوبي في الجبال سيبذل من أجل ذلك كل غالي ونفيس، وسيمضي، إذا لزم الأمر، أشواطاً أبعد وأقسى في النضال والكفاح المسلح وسيقدم أرتالاً من الشهداء صوناً لكرامته وفداءً لقضيته العادلة ولمستقبل أجياله الناشئة واللاحقة. من جانب آخر، نعتقد جازمين بأن هذه الحرب في أحد جوانبها هي حرب عقابية ضد قومية النوبة باعتباره دعامة التنظيم السياسي للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يقف حائلاً دون تنفيذ المخططات المرسومة للمنطقة. ونقول هنا بضمير مستريح، بأن هذه الحرب التي تم اختيار توقيتها بخبث ولؤم كبير في بداية الموسم الزراعي الحالي يسأل عنها السيد رئيس الجمهورية وحزب المؤتمر الوطني ، وليس عبدالعزيز الحلو وجيشه الشعبي كما يروج لذلك الإعلام الرسمي لتضليل الرأي العام. فالعالم كله كان حضوراً وشاهداً من خلال وسائل الإعلام المحلية والخارجية على فجاجة خطاب السيد رئيس الجمهورية في المجلد بولاية جنوب كردفان، ذلك الخطاب الذي مجته الأسماع كونه قد جاء خالياً من الحكمة وروح المسئولية. لقد كان الخطاب بحق إقراراً بنية العصبة الحاكمة في تزوير الإنتخابات التكميلية بالولاية، وتحريضاً للمواطنين ضد بعضهم البعض، وإعلاناً لحرب ضروس ستشنها الحكومة ومليشياتها المسلحة على الحركة الشعبية والنوبة. قال السيد الرئيس في هذا الخطاب الذي أغلظ فيه الوعيد والتهديد بأنهم مستعدين بصناديق الاقتراع للفوز وصناديق الزخيرة للحرب، وإنه ومليشياته الجنجويدية سيطارد الحركة الشعبية بالحصين جبل جبل. كما يسأل عن هذه الحرب أيضاً، قائد أركان الجيش السوداني الذي أمر قواته بنزع سلآح الجيش الشعبي خارقاً بذلك بند الترتيبات الأمنية في اتفاقية السلام الشامل، والذي يحدد الأجل الزمني لنزع سلاح الجيش الشعبي والكيفية التي بها يتم هذا النزع، ويحدد هذا البند كذلك مصير أفراد هذا الجيش دمجاً وتسريحاً، إلا أن العصبة هداها الله إلى ما فيه خير البلاد تريد أن تأخذ الأمور غلاباً.
[email protected]