إن الشعار المُرفوع في الثورة السودانية (حرية -سلام -وعدالة) ،يعكس وعي الشعوب السودانية وفهمهم العميق للتاريخ السياسي المُوغل في حزمة من التعقيدات سواء كانت منها متعلقة بالتاريخ الاستبدادي السياسي ومصادرة الحقوق والحريات الأساسية باسم الحق الإلهي ،أو زج الدولة في المعارك والصراعات والحروب الأهلية العبثية والتي انهكت كيانها الاجتماعي واستنزفت مواردها المادية والبشرية، وضربت في عمق منظومتها الأخلاقية وسط شعوب العالم ،وجرتها في خلافات ومتناحرات مع المجتمع الدولي بمختلف هيئاتها القضائية والاقتصادية والثقافية ،فما من مؤتمر عن الجرائم الدولية أو العابرة للحدود أو الفساد …الخ ،إلا وكانت السودان في قمة أجندتها، وحتي باتت دولة تسبب قلق وجراحات مُستمرة لدي كيان المجتمع الدولي .ويعبر هذا الشعار عن الأمل المُتجدد بإمكانية التغيير والثورة ،فهي عبارات حُفرت من عمق التجربة السودانية، ومن صُلب المآسي ،وهي صادقة نابعة عن وجدان كل الشعوب السودانية ،وتستنهض هِمَمَها نحو التواطؤ علي عمل مشترك لإنجاز مرحلة الثورة السودانية ،لذلك كانت لوحة فريدة من نوعها ،تشكلت فيها كل الوان الطيف الاجتماعي في السودان ،وقدمت مثلا ودرسا يُهتدي بها في الأدب الثوري .
وتقف شعار تحقيق العدالة من ضمن شعارات الثورة المجيدة، تُراثا وثقافا وروحا وظل سماٍء وجُموحِ نفس ،الي تحقيق ما تلقته من أماثيل تمددت إليها من الأديان والفلسفات والنظريات والمذاهب ،ولكنها لا تكتمل إلا اذا انفسحت لها الأرض ،وتكونت بنيات وهيئات ،وانهمرت طاقات ،واستوت الممارسات علي مستوي الإرادات الجادة والأدوات العدلية الفاعلة ، ليس منها الزائفة والصُورية ، وتُري أن مسار العدالة مُحدقة بتحديات جِسام ،بعضها مُرتبطة بطبيعة الدولة العميقة ،والبعض الآخر مُتعلقة بغياب أدوات مُحاسبية فاعلة بما فيها الآليات القضائية الحقيقية .
بدأت خُطوات إنزال بعض شعارات الثورة علي حيز التطبيق علي الصعيد السياسي ،ومنها إصدار قانون تفكيك النظام نظام المؤتمر الوطني المقُبور عليه، ولكن لم تعبقها إجراءات عملية لتجفيف كل بؤر الفساد ومُلاحقة الأشخاص المُشتبه في ارتكابهم هذه الجرائم ،حيث ظلوا طُلقاء أحرار، بل ظل بعض فاعلي الثورة، عدم احترام القوانين التي جاءت بدماء الشهداء ،مثل مُحاورة رموز النظام المُبادة في قنوات التلفاز ،علي الرغم من صدور قانون العزل السياسي في حقهم ، كان يستلزم علي قيادات الثورة ،بل تقع عليهم واجب أخلاقي وقانوني واحتراما لمنجزات الثورة عدم الظهور والحوار مع رموز النظام البائد ،بل اكثر من ذلك ؛ يتوجب قانونا من أي جهة إعلامية سودانية أو أجنبية تعمل في السودان الامتناع عن فعل ذلك !.
إن الخطر الأكبر علي مسار تحقيق العدالة في السودان ،هي أن ثورة لم تمس قطاعات ومؤسسات حيوية والتي قامت الثورة السودانية أصلا في إحداث تغيير في بنيتها ،وقد تغاضت الوثيقة الدُستورية عن هذه النقطة الجوهرية ، ولم تمنح سلطات وصلاحيات للسلطة المدنية الانتقالية لأجراء إصلاحات جوهرية في الأجهزة العسكرية والأمنية والشرطية ،حيث بَقَت هذه المؤسسات كما هي عليها ، بقيادتها الدموية ،وبنهجها وعقيدتها القائمة علي فلسفات النظام البائد ،وبمنظومتها الفاسدة ،هذه المؤسسات مجرد بِيُوتات بعينها ،بشبكة شركاتها المالية وعلاقاتها الخاصة بها ، وما دامت هذه المؤسسات بقت علي حالتها ،فمن الممكن أن تُعيد التاريخ نفسها بكل مآسيها، حيث لا يكمن ضمان إحداث تحول ديمقراطي حقيقي في البلاد ما دامت المؤسسات العسكرية والأمنية التي ارتكبت ابشع الجرائم في حق الإنسانية جمعاء لم تطالها أي تغيير ،وان اكبر تحدي لهذه الثورة كانت ومازالت كيفية تحييد المؤسسة العسكرية عبر إجراء إصلاحات جوهرية ،وجعلها مؤسسة قومية ضمن مؤسسات الدولة وخاضعة للقرار السياسي !.
إن الخطر الأعظم في مسار تحقيق العدالة في السودان ،هو بقاء المؤسسة القضائية علي ما هي عليها، لم تطالها أي تغيير ، حيث تعرضت هذه المؤسسة طوال فترات النظام الدموي لأعلي درجات الدمار والفساد والهلاك العدلي ،وشهدت اختلالات بنائية ووظيفية لا مثيل لهافي تاريخ النظم القضائية ،حيث كانت سيف وأداة لقهر الخصوم السياسيين ،لذلك ظهرت اكبر حالات المسخ القضائي في تاريخ الشعوب والأمم ،من المحاكم الخاصة الجائرة ومحاكم الطوارئ ،وظهرت زُمرة سيئة السُمعة من قُضاة الطوارئ والنظام العام، وهم أصلا قيادات في الأجهزة الأمنية والدفاع الشعبي وغيرها من الميلشيات النظام المجرم الذين كانوا لا يفهمون سوي لغة الظلم والأذلال للأشخاص ،تسلقت هذه الزمرة سيئة السمعة الي اعلي درجات السلم القضائي ،فمنهم الآن في رئاسة الأجهزة القضائية ،وبعضهم في محاكم الاستئناف والمحكمة العليا ، والمحكمة الدستورية ،هؤلاء الذين مارسوا ابشع الجرائم في حق العدالة ،بل هم من قاموا بتسخير المؤسسة القضائية لصالح السياسات الاستبدادية طوال فترات النظام البائد، لذلك لم تكن المسألة مثيرة للدهشة لدي أي أنسان ، حينما رفضوا هؤلاء الفئة الضالة من بعض قضاة المحكمة العليا ، مقترح قانون مفوضية الإصلاح القانوني التي قُدِمت بشكل خجول من قبل الحكومة الانتقالية بغرض وضع يد علي هذه المؤسسة الخَربِة ،لكن رُفض هذا المقترح من قبل رئيسة القضاء في السودان المُعينة والمُبارك عليها من قبل المجلس العسكري بعد رفض تعيين “مولانا عبد المجيد ” الرجل النزيه ،وفي هذه استفهامات كثيرة !……المهم في الأمر أن رئيسة القضاء الجديدة تعترض القانون المقترح لإجراء إصلاحات في المؤسسة القضائية بمنطق غريب جدا ،باعتبار أن هذا القانون المقترح تمس سيادة ونزاهة واستقلالية المؤسسة القضائية،،،،الي متي كانت المؤسسة القضائية مستقلة ومحايدة ونزيه … وكأنها لا تعلم أنها تقف عارية وسط خراب امتدت سنين عددا … لكنها بالطبع هي زيل المؤسسة العسكرية التي دفعتها لتمرير أجندتها، ولا خير يُرتجي من مثل هذه المؤسسة!.
وتتوالي مُحدقات العدالة وتضرب الثورة في عُمقها الاستراتيجي، وفي مؤسسة النيابة العامة والشرطة السودانية ،والتي كانت يوما ما من اقوي أزرُع النظام البائد ،لا تختلف كثيرا عن المؤسسة الأمنية التي كانت تستخدم العنف المادي لتصفية الخصوم السياسيين ،حيث كان معظم وكلاء النيابة وطريقة تعيناتهم وتسلقهم في السلم الوظيفي لا تختلف كثيرا عن المؤسسة القضائية التي اسلفنا الحديث عنها ،وذات المعيار، أن هؤلاء الزمرة ما زالوا في مواقعهم التي نالوها بصورة غير مشروعة ،والمثير للعجب جدا لدي مؤسسة الشرطة السودانية ،كانت تُوزع الرُتب في الموائد والولائم الأسرية ،وكانت اكبر جهاز بوليسي مُكرس لقمع الثوار بعد الأجهزة الأمنية ،حيث قتلت المئات من الضحايا تحت إمرة هذه القيادات الكرتونية التي صنعتها ظروف الصدفة التاريخية …وكذلك لم تسع مشروع الثورة السودانية إجراء تعديلات جوهرية علي منظومة القوانين الجنائية في السودان التي وضعتها حكومة الإنقاذ والتي تغلب عليها الطابع الأيديولوجي المُتصلب ، وصُمِمِت خِصيصا لحماية مصالح النظام البائد ، وفي هذا، فلا عجب ،يوم أن اصدر القاضي الحكم في مواجهة الرئيس المخلوع بالسجن لمدة سنتين ،استنادا الي هذه المنظومة القانونية الجنائية الكيزانية ،فلا عجب أيضا ،إن اُجري محاكمات مُستقبلية صُورية تحت ذات المنظومة القانونية واُطلقت صراح جميع المتهمين بعدم كفاية الأدلة أو سقوط الجرائم بالتقادم أو عدم وجود المسئولية المباشرة للقيادة وغيرها من عيوب القانونية في النظام القانوني للنظام البائد !.
هذه الاختلالات البنيوية والوظيفية لنظام العدالة في السودان ،قد تُؤكد بما لا يدع مجالا للشك ،أنها غير قادرة علي مُحاكمة الأشخاص المُتهمين بارتكاب جرائم تندرج تحت طائلة القانون الدولي ،من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية ،وعلي ضوء لجنة تقصي الحقائق الدولية في دافور ،والتي كُونت من الأمم المتحدة برئاسة القاضي الإيطالي “كاسيوس” :،تم إحالة قضية دافور بواسطة مجلس الأمن الدولي لدي محكمة الجنايات الدولية ،وأجري مدعي محكمة الجنايات الدولية وقتها ” اوكامبو” تحقيقا مكثفا ،وقام بتوجيه تُهم في مواجهة الرئيس المخلوع وبعض أفراد طاقمه السياسي والأمني ،وان مطلب الثورة السودانية الآن تستدعي تسليم هؤلاء المجرمين فورا لدي المحكمة الجنائية الدولية ،مع الوضع في الاعتبار أن أي اقتراح آخر بتكوين محكمة سواء كانت مختلطة أو محكمة دولية لم تكن مُجدية لعدة اعتبارات منها المالية وغيرها ،فعليه ،ولمصلحة السودان ،أن يتم تسليم هؤلاء المجرمين فورا لدي محكمة الجنائيات الدولية، وهي الأقدر بذلك ،والأفضل لمركز الضحايا.
عبد العزيز التوم إبراهيم
[email protected]