جندي في عيد الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة “واقعية”
وجدتُه جالساً على الرصيف، ينادي بصوت مبحوح: ” حاجه لله يا محسنين.. أي حاجه يا مؤمنين”.
تحسستُ جيبي، فوجدت بضع قطع نقود فضية، فانحنيت ، وألقيت إليه ما بيدي من نقود..
جعلتني تلك الانحناء أقترب إليه أكثر.. فتبين لي أن كلتا قدميه مبتورتان من أعلى الرُكبة… فأثار مظهرُه شفقتي عليه، ففتحت المحفظة، وسلمته جميع ما معي من النقود.
انتبَه إليّ ، فأسرع في القبض على ساعدي بكلتي يديه.. محدّقاً فيّ باندهاش????
قال هامساً والدموع تتسابق على خديه: ” إنه هو.. إنه هو..”
سألني بلغةٍ رقيقةٍ : أأنت هو ؟
دُهشت لسؤاله فسألته مستفسرا: عفواً لم أفهم ما ترمي إليه.
قال بنصف إبتسامة ارتفعت معها الشقُّ الأعلى من جانب شفته اليمنى فانكشف جانب من أسنانه التى ملأ المحيط نتانتها: انت هو الصبي الذي عضّني؟
في الواقع لم أعضّ طوال حياتي سوى شخصين..
أحدهما كلبة كانت قد ولدت بالقرب من منزلنا، فحاولت خطف أحد صغارها، فأغارت عليّ بكل ضراوة، فاغرةً فاها تنوي إلتهامي، فبادرتها بعضّةً على أنفها، صرختْ على إثرها صرخة أرغمت جميع سكان قريتنا على التجمهر فوق “كوشة” المواشي النافقة ،الواقعة وسط أشجار العُشر، على مسافة غير بعيدة من منزلنا، لإنقاذ الكلبة من قبضة أسناني الباترة.
أما العضةُ الثانية فكانت من نصيب جنديٍ كان قد أوجع أبي ركلاً وضرباً بمؤخرة سلاحه “كلاشنكوف”، برفقة ستة جنود آخرين ، في ذات الهيئة و العمر والحجم، وذات العيون التي تخيف النارَ حمرتُها..
كنت يومها في السادسة من العمر، حضرتُ لاهثاً من المدرسة التي تقع في الجانب الشمالي من القرية، حيث قُبلت بها في الصف الأول، بعد أن تم رفضي في السنة التي قبلها بحجة أن أسناني لم تقتلع بعد.
قطعتُ كيلو متر ونصفا، أخيط الدروب مسرعاً، بعد أن دق جرس الفطور، آملاً في أن أعود إلى حوش المدرسة المحاطة بسورٍ من أغصان أشجار “الكِتر” و “السيال”، قبل أن يسبقني ذلك المعلم ذو الشارب المنتوف بالوقوف على باب المدرسة شاهرًا سوطه الحاقد، الذي لم يتردد في الرقص على ظهور المتأخرين متى ما اقتضى الأمر ذلك.
أقامت حُبيبات العرق مهرجاناً على رأسي، والتقتْ بأخواتها اللائي جئن عابرات بمجري سلسلتي الفقرية تحت قميصي البالي، محتفلةً بعيد يوم الشمس الأعظم، بينما ضلت الأخريات طريقهن لتسيل مدراراً على وجهي، قافزة بانتحار نحو الأرض من أسفل ذقني وشحمتَي أذني، كما دأبَتْ على فعل ذلك في شهر أبريل ومايو والنصف الأول من يونيو من كل عام.
حبات الرمل الدقيقة التي غطت صفحتي خدي وصدري مستنجدة ، لا تزال ماضية في الاعتجان بحبيبات العرق، علها تنجو من من بطش العواصف الخاطفة.
أنفاسي ما فتئت تعلو وتهبط باحثة عن سبيل لهدوء مؤقت.. لهيب الأرض ما انفكت تلسع إحدى قدماي بعد أن انخلع رباط حذائي بفعل الرمال الدافئة… إلى أن انتهت بيّ الخطى أمام متجر والدي القابع وسط السوق.
في البداية لم ألحظ سوى أبي ورجلين كانوا جلوساً على “بنابر” تحت المظلة، أمام المتجر.. حركتُ شفتاي لأقدم الطلب الذي حملني على قطع كل تلك المسافة:
– ” أبوي، جئتُ أريد حق الفطو…”
وقبل أن أكمل الجزء الأهم من الجملة؛ فوجئتُ بيدٍ جريئة تمتد مباشرةً صوب عمامة أبي الناصعة البياض!
ودون أية مقدمات، أحكمتْ تلك اليدُ قبضتَها، وفي عجالة سحبت العمامة إلى الأرض، لتتسبب في انقلاب “بنبر” أبي، فانهار مرتطمًا بالأرض بقساوة لم أرى لها مثيلاً!
وقبل أن يتمكن أبي من النهوض، وثب عليه الجنود السبعة كالضباع، فأمطروه ضرباً بالسياط ومؤخرات السلاح، وسط سبٍ وشتمٍ لم تعانق أذني مثلُها من قبل ولا بعد.
وسط تلك الجلبة، سمعتُ صوتَ أبي يشقّ قرع السياط المتواصلة على ظهره، قائلاً بسخرية: ” يا اولاد، إبني جندي في مثل عمركم، لكنه رجل، يقاتل الآن مع الرجال في المعارك، لا يفعل كما تفعلونه أنتم بالمواطنين العزل والسكارى المقهورين”.
وكان لا يزال ملقيًا على ظهره، فوضع أحدُهم قدَمه الكبير على صدره حتى تقيأ دمًا!
في هذه الأثناء، طار صوابي وتملكني الغضب، فانقضيتُ عليه بسخط، وعضيته في ساقه من الخلف بكل ما أوتيتُ من قوة..
وما هي إلا لحظات حتى سمعت صريخا أشبه بصراخ خنزير بري، أعقبه ضربة قوية على عنقي، أظنها كانت بمؤخرة البندقية، فوقعتُ مغشيا علي بجانب أبي!
لم أدرِ كم لبثتُ قبل أن أفيق.. ربما يوماً أو بعض يوم، أو لربما ما زلت مغشي علي..
و عندما فتحت عيني، أخبرني الرجلان بأن الجنود قد أوثقوا أبي بعمامته واقتادوه إلى مركز الشرطة.
فانطلقت كالسهم نحو مركز الشرطة، وهناك رأيت أبي خلف القضبان، و الدم يسيل على كل جزء من أجزاء جسده، بينما أحيل الجندي المعضوض إلى المركز الصحي لاسعافه!
بعد ساعتين من ذلك، جاء أحد الضباط وأمر بإطلاق سراح أبي، ثم اعتذر له، قائلاً: ” سامحنا يا الشيخ ، فقد أخطأ الجنود في القبض عليك.. لأنك كنت ملثم بعمامتك، فحسبوك من النهب المسلح”!
حاولتُ حينها عض الضابط، لو لا تلك الطاولة الحديدية التي كانت تفصل بيننا.
يا إلهي!
هل يعقل أن يكون هذا المتسول مبتور الساقين هو ذلك الجندي نفسه؟
أعدتُ النظر إليه بصمت، محاولا تخليص ساعدي من قبضته المُحكمة.. فتأكد لي بأنه هو..
لكن… ما الذي جرى له؟
تغيرت ملامحه، وابتلع الدهرُ تلك الوسامة التي كانت ترقد على محيّاه، وحلت محلها خيرانٌ من التجاعيد، وأتلالٌ من النمش السوداء والبنية، وانكفأت الجفنتان منسدلة بارتخاء نحو المقلتين اللتين يعلوهما حاجبان أبيضان كثيفان..
شكراً أيتها الذاكرة، حيث لم تبخلين عليّ بأدق تفاصيل تلك الحظات التي التقت فيها عينانا الغاضبتان لأول مرة!
تجلّت تلك التفاصيل التي تعود إلى ثلاثة عقود أو يقلّ بقليل، مُنقشعة أمامنا كقلادةِ ماس غمرها الظلام ، إلى أن لاحت فجاة بلمعة برق ظهرت للتو..
فأجبته: إذن أنت هو ذلك الجندي الذي وضع قدمه على صدر أبي؟
فأومأ برأسه مجيبا بنعم..
ثم أردف قائلاً: “انت بتلك العضة خلقت في حب الأطفال.. ولَكَم تمنيتُ أن أنجب إبنا يدافع عني مثلك”.
فقلت: وانت قد قتلت فيّ حب الجندية.. ولَكَم تمنيتُ أن أبتر تلك الساق التي اعتلت صدر أبي.. لكن يبدو أن أحدهم قد سبقني إليها”.
*احمد محمود كانم
بولتون/إنجلترا
24 سبتمبر 2021