د. الوليد آدم مادبو
حرصت ثورة الإنقاذ في بيانها الأول، وما تلته من بيانات علي تربيع اسم الرئيس، للتأكيد علي جهته وقبيلته وسلامة عرقه من الشوائب. وكلما أمعنوا في تلكم العصبية والعنجهية كلما انكشفت سوءتهم لأن المرء كلما بالغ في المحاولة لإثبات هويته كلما كان ذلك مدعاة للتساؤل. إلي أي مسيد (شيخ طريقة) ينتمي هذا السارق، وتحت أي لواء (نحاس) يحتمي هذا “المقطوع” الذي سيصبح من بعد مظلة لكل “المقاطيع”؟ للمقاطيع مقدرة فائقة علي التلون، لأنهم ليس لهم قيم تمنعهم من الانخراط في أي منظومة. كما ليس لهم ثوابت تمنعهم من التنقل من معسكر إلي أخر، وفي أي وقت. وها هم العسكر الذين أشرفوا على حرب الإبادة في دارفور يتم استدعائهم لقمع كل من تُسَوِّل له نفسه التطاول على “الأسرة الحاكمة”!
الغريب أن كارل ماركس في حديثه عن الطبقة العاملة يميز بين البوليتاريا الرثة والبلوتاريا المنضبطة التي ربما ساعدها الميراث النضالي وتراكم الخبرة الصناعية (مروراً بالمراحل الثلاثة، الميريكانتالية، الإنتاج شبه الصناعي، والصناعة الحديثة)، في اكتساب تقاليد لم تتوفر للبوليتاريا الرثة (المهلهلة)، التي برعت في التخريب والسرقة والحرق متما سنحت لها الفرصة. يوازي البوليتاريا الرثة في مجتمعاتنا المقاطيع الذين لم ينشئوا في بيئات توفر لهم فرصة اكتساب القيم أو تعينهم علي ممارسة الفضيلة في بيئات تعنى بالوازع اكثر من الرادع، وترعى حق الشارع (المولي عزَّ وجل) في فعلها أكثر من اكتراثها بحيل المانع. المقاطيع لا يعرفون قيم الإباء فهم لم يتربوا عليها ولا يتصورون سبباً لانتفاض الشعوب على جلاديها فهم لا يعيشون إلا في كنفهم. تراهم إذا حُصِرُوا يستعينون بفرد من أفراد الطبقة العليا عله يعينهم علي فك شفرة الحراك الشعبي ويبين لهم سبلاً لإجهاض الثورة، في هذه الحالة النخبة التي تتحرك بوعي أو دون وعي مُفسحة لهم الانضمام إلي صفوف الأحرار.
تكلم الدكتور (صيدلي) أبو الحسن مصطفى سيد أحمد دون أن يتلفت (يوم أن أتيحت له الفرصة في المحاضرة التي أُقيمت في جامعة جورج تاون بتاريخ 14/فبراير/2019 بمدينة الدوحة)، مبيناً أوجه الشبه بين الظروف التي سبقت اندلاع الثورة المهدية والظروف التي يعيشها السودان اليوم، وهي ثلاثة: الجبايات المفرطة، الاستبداد المتخذ من الدين متمثل في المؤسسة الرسمية قناعاً، والتعذيب الذي لم يسبق له مثيل. بل أن هنالك تطابق بين الدوافع التي جعلت إسماعيل باشا يوغل في الأراضي السودانية باحثاً عن الذهب حتي بلغ مناجم بني شنقول، وبين الدوافع التي جعلت الإسلاميون يئدون التجربة “الديمقراطية”. استنكف إسماعيل باشا انتفاضة السودانيين في سنار وتتبع قادتها بشير ود عقيد وحسن ود رجب حتي تمكن منهم فأعدمهم في الخاذوق، كما استنكفت الإنقاذ رفض بولاد وطرّادة (كلاهما من أبناء الفور الذين اغتالتهم أيدي الإسلاميين) للعنصرية واتخاذها الهرمية العرقية منهجاً للحكم، فتتبعت كلاهما وأعدمته في واديه دون أن تسلم جثته لذويه.
لا غرابة إذن أن تكون ردة الفعل واحدة، فقد هبَّ السودان بأكمله رافضاً أي تسوية أو ميثاق أو مبادرة تحول دون تحقيق رغبة الجموع الحاشدة لاستئصال المنظومة بجملها. بل إن السودانيين الأمس واليوم وغداً ما عادوا يأبهون بالمخاطرة الماثلة مثل التدخلات الخارجية أو التحالفات الداخلية ويعتبرون أن مجرد التعاطي في هذا الشأن مع العصابة يعتبر خيانة لأنه يُشَرْعِن لها خزيها ويقوض فرصة الاستئصال الكامل للسرطان.
لا يختلف الامر كثيراً عن الأمس، فقد كانت هناك جماعات تسعي لكسب مكانة جديدة في شكل التشاكس مع الغازي وهو نوع من أنواع “التعاطي السلبي” الذي أعقب معركتي كورتي وكرري، اللتان ضربتا مثلاً في البطولة النادرة والشجاعة غير المنظورة من شعب أعزل يواجه آليه حربية متطورة. بموت الأبطال، وجد المقاطيع فرصتهم للتصعد، فقد فرغت الساحة، ولم يجد المستعمر غير المنتسبين يتعامل معهم. وبقية القصة معروفة فقد شرحها خالد الكد في كتاب الأفندية. الأمر يختلف بعض الشيء هذه المرة، لأن البوادي السودانية تترقب الموقف، ولن تكون تحت رحمة المقاطيع هذه المرة، فالمنبَّتين كاد أن ينقض سامرهم وأوشك أن يندحر حلفهم الذي بات يعول علي الخارج أكثر من تعويله علي الداخل الذي لا تربطهم به أواصر.
بمجرد أن تسقط دولة المارقين، سيصبح المقاطيع أثراً بعد عين، وستبتلعهم الأرض كما ابتلعت جيوش الظالمين عبر التاريخ. لن يفلت المقاطيع من العقوبة إلاَّ إذا حدثت شقة بين قوي التغيير والهامش وهذا ما عولت عليه العصابة ففشلت، وهو ما ستظل الطائفية تعمل علي تحقيقه لأنها ببساطة ليس لها مصلحة في التغيير وقد أحست بتربص قوي الهامش بها. كان الهبوط الناعم وسيلة لاستبدال قوي الهامش الحقيقية بقوي هلامية، وفرصته أخيرة لتدارك الخطر المحدق. لكن هيهات فقد جاءت الرياح بما لم تشته السفن. من الأن فصاعداً يجب أن تتحالف قوي الهامش كافة (القوي المتمردة على الاستعباد) وقوي التغيير (القوي المنتفضة على الأكذوبة)، لمحاصرة الرجعية والإمبريالية الاسلامية، أمّا البقية من قوي النخب المركزية فستكون مع المنتصر لا محالة. وقديما عبّر الهدّاي عن حال هؤلاء بقول بليغ واصفا إياهم بالاتي: أم جلبة حبل الغيطان كان لقيته عندي القاضي يقول ليك كس غادي، وكان لقيته في الدكان يقول ليك يعني واذا كان، وكان لقيته في الغابة يقول ليك يابا، وكان لقيته وحيده يبيع ليك وليده.
إن الهامش لا يمكن أن يهزأ بقوي التغيير لأنها حليفه الوحيد في الوسط النيلي بل إن اليسار الفكري (حتما ليس السياسي أو العسكري) كان دوماً نصير المستضعفين وكان اليمين حتى زمن قريب وما زال حليف الرجعية؛ أمّا قوي التغيير فيلزمها أن تعي أن الهبّة بدأت في 13 ديسمبر بالدمازين، أمّا الثورة فقد أوقدها الغرب يوم أن جعل الزرقة أجسادهم فتيلاً لشعلتها. هؤلاء هم من قدموا أعظم التضحيات وأي محاولة لتجاوزهم أو استتباعهم ستكون هي قاسمة الظهر. بمثل هذه الصراحة وهذا الوضوح يمكن ان يحدث السودان انفراجه ويحقق استقرارا مثلما أحدثته دولاً مثل رواندا وأثيوبيا وماليزيا، إلي آخره. قد يستطيع السودان حينها أن يتجه نحو التنمية بعد أن يكون قد نجح في تحقيق التسوية الوطنية الشاملة، وبغيره فسيطول دوراننا في هذه الساقية.
هل ستشمل التسوية اختيار رئيس وزراء ممثلاً عن الهامش مثلما فعلت إثيوبيا؟ هل بإمكان الهامش تحديد شخص مقتدر يمكن أن يمثل بفكره ونبله وأريحيته معبراً نحو المستقبل؟ ما هي الترتيبات الدستورية والمؤسسية اللازمة لضمان عدم حدوث ارتكاسه؟ هل الديمقراطية هي حكم الاغلبية أم ضمان عدم احتكار الأقلية للسلطات؟ ما هو السبيل لتفكيك هذه السلطات بحيث لا تكون سلطة تابعه لأخري إنما هي مُعَضِدَّة/ ممتحنة لها؟
إن اختيار بطلا وزن الريشة مثل الاستاذ صلاح شعيب (نسبة لاستخدامه ألة خفيفة الوزن جليلة الأثر مثل القلم)، ممثلاً لتجمع المهنيين بادرة ممتازة تشير إلي أننا متي ما سنحت لنا الفرصة فسنحسن الاختيار، غير مهملين للأوزان الإقليمية/المناطقيه، لكننا غير منكفئين أو خاضعين لإملاءاتها التي طالما خَرَّجَت أناس خانعين، مستلبين وغير مفيدين رغم ما حملوه في مرحلة ما من مؤهلات أكاديمية، وما أدرجوه من خبرات في مؤسسات أممية. فقد اكتسب الأستاذ/شعيب قيمته من الانحياز لقضايا شعبه لا تكسباً منها، ونال ثقة الجماهير مِراساً لا احتباساً. صلاح شعيب من المثقفين الدارفوريين الذين لم ينشغلوا بتوجيه أصابع الاتهام نحو المركز النيلي الحاكم أو المستعمر الداخلي المُتَنَفِذ، لكنه ومن خلال اهتماماته الثقافية الكثيرة والمتنوعة كشف بجلاء عن أنماط تفكيرنا وطرائق تناولنا للقضايا ومباعث همومنا المشتركة. وقد تحدث كثيراً عن تاريخ دارفور وامجادها دون أن يكون ذلك مدعاة للانكفاء أو محفزاً للازدراء.
دعا الأستاذ/ هارون سليمان يوسف في سياق مشابه للنظر إلى الأزمة الدارفورية من زاوية مغايرة وحرض على ملامسة الجرح بشجاعة ومهنية ونبه إلى ضرورة كشف الخلل الداخلي قبل الحديث عن المركز النيلي ومستقبل حكم السودان. وهذا يتطلب حسب قوله تحرير أنفسنا من الافكار الهدامة ومن التكتلات القبلية والسياسية والأسرية ومن التبعية السياسية العمياء كي نستطيع تصحيح الكثير من ممارساتنا، عندها قد نتأهل إلى مرحلة مواجهة المستعمر “الوطني” ونعمل سوياً على تصحيح الاختلالات التاريخية فنصنع دولة المواطنة بأيدينا. لا داعي حينها للمعاناة النفسية والشكوى غير اللازمة من الأخر. فمراهنة البعض على حل المشكلة السودانية بذهاب نظام وقدوم اخر غير مجدية، لأن المشكلة السودانية حسب رأيه تبدأ من حل مشكلات الأقاليم داخلياً ومن ثمّ تَحُول النخب كافة من ادوات تدمير ذاتي واستيلاء سياسي نفعي إلى صنع الحدث والقرار في الدولة السودانية (قروب في الواتسب بعنوان “إعلاميو وكتاب دارفور”).
أود أن أختم بقصة (بَيِّن) التي استحالت عبر الأيام إلى أسطورة شعبية شاءت الأقدار استعادتها بطريقة تراجيدية وهزلية في آن واحد، عل ذلك يخفف على القارئ وطأة الألم ويزيح عنه السأم والضجر، سيما فقدان الأمل .
اجتمع بعض اللصوص في كترة (غابة) وأذاعوا أن كبيرهم (بَيِّن) قد مات. لم تمر الأيام حتى أشاع بعض النفر في الحلة أن (بيّن)، كبير اللصوص ذاك، قد بُعث من مرقده وأنه بات يعترض المارة وينهب أموالهم كلما مروا بالغابة. فكان الناس إذا مروا بوكر اللصوص ذاك يستعيذون بالله من “البعاتي” بقولهم، “الله يَطَّلِعْنا من كترة بَيِّن والباقي هين.” الشاهد أن الإسلاميين اختلفوا فيما بينهم فاختلقوا في اللحظة الأخيرة “وصاية العسكر” وفكروا في إخراج مسرحية علها توهم الناس أن الأزمة قد تم تجاوزها وأن البلاد مشرفة على حقبة جديدة كي يستمروا في النهب تحت سلطة البعاتي، لكنهم نسوا أن (بيّن) لم ينس لهم تشويه سمعته. وأن سنن الله في الأرض باقية، وقد قال النبي (صلى): من أعان ظالما سلطه الله عليه.
وفي ذات يوم تأخر اللصوص (الملكية) فداهمهم الليل قبل أن يتجاوزا الغابة. خرج عليهم (بيّن) وهم قد نسوا أن يتحصنوا منه، وكيف يستعيذون منه وهو من صنع أيديهم وفتل أناملهم؟ أحاطهم (بيّن) بزملائه اللصوص (من ذوات البذة العسكرية) الذين جردوهم من موالهم، وسلبوهم خيلهم وبغالهم، وهم في تلك الحالة خرجت جموع الحَلال (جمع حِلة) غاضبة إذ سمعت الهرج والمرج، فناوشتهم بالهراوات والسكاكين والعصا، ظنّاً منها أن هذه الجموع الهاربة هي (بَيِّن وجماعته) ولم يَتَبَيَّنوا أمر جيرانهم (جيران السوء)، حتى قبض عليهم جميعاً. من وقتها لم يُرَّوع فقير، فلاح أو امرأة، فالبعاتي (بَيِّن) قد افتضح أمره وذاع خبره في الأرياف المجاورة ولم يعد هناك من يهابه أو يخشاه.