د. سليمان زكريا سليمان عبدالله*
تناقلت الأخبار عبر العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية الصادرة صبيحة يوم الثلاثاء 5 ديسمبر 2017م (أنظر مثلاً صحيفة الصحافة، العدد 8428) خبراً جاء ملخصه كما يلي: وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي: خبراء أمريكان شهدوا أن التعليم بالجامعات السودانية هو الأفضل. وقد أتى ذلك الخبر رداً من سعادة الوزيرة على إتهامات بعض نواب البرلمان للوزارة في التسامح والتساهل مع الجامعات التي لا تطبق الشروط والمعايير المحددة. إنتهى ذلك الخبر تاركاً وراءه العديد من علامات الإستفهام، فكما يبدو عليه ظاهرياً أنه يحمل العديد من مظاهر ومؤشرات تميز الأداء بمؤسسات التعليم العالي في بلادنا الحبيبة، غير أن نظرة فاحصة متأنية لواقع تلك المؤسسات تفضي بنا إلى إستنتاج العديد من الحقائق التي تخالف ما جاء في صياغ ذلك الخبر، وهذا ما سيشكل مضمون هذا المقال.
دعونا نبدأ تعقيبنا بالإشارة إلى أن هناك إتجاهاً عاماً بين المهتمين وال
متابعين لقضايا التعليم العالي في السودان بما يشبه الإجماع على أن قطاع التعليم العالي يواجه في الوقت الراهن العديد من التحديات والمعوقات غير المسبوقة والتي ألقت بتأثيرات سالبه على أداء مؤسسات التعليم العالي دونما إستثناء. ولعل أبرز تلك التحديات يتمثل في ما يشهده القطاع من توسع كبير في إنشاء الجامعات والكليات الجامعية والإقبال الكبير والمتزايد من قبل القطاع الخاص على الإستثمار فى التعليم الجامعي، الأمر الذي أدى إلى تضخم هائل في معدلات الإلتحاق بتلك المؤسسات لم يصاحبه نمو موازي في المباني والمرافق والتجهيزات والتقنيات. هذا الوضع – ضمن عوامل أخرى- أدى إلى خلق ضغوطاً متزايدة على تلك المؤسسات في مساعيها وتطلعاتها في تحقيق الجودة في أهم مخرجات نظام التعليم العالي المتمثلة في خريج جامعي مشبع بالمعارف والمهارات قادر على الإسهام الفاعل في دفع عجلة التنمية التي ينشدها المجتمع السوداني. ولعل أبرز الإفرازات أيضاً ما آلت إليه جامعاتنا من تصنيفات متدنية وخجوله بل ومتراجعة عاماً بعد أخر على المستويين الإقليمي والدولي. وحتى يكون المنطق مرجعية لهذا الإدعاء، أنقلكم الى لغة الإحصائيات التي لا تكذب ولا تتجمل، فمثلاً جاءت أول جامعة سودانية – وهي جامعة الخرطوم- في المرتبة 1216 عالمياً وذلك حسب تصنيف ويبوميتركس (Webometrics) لشهر يناير من العام 2012م، وقفزت الجامعة إلى المرتبة 2795 في نفس التصنيف لشهر يوليو من العام الحالي (2017م). في ذات الإتجاه، إذا إستعرضنا توزيع أفضل 100 جامعة على مستوى الوطن العربي حسب أحدث تصنيف لـويبوميتركس لتكشف لنا بصورة أكثر وضوحاً الواقع المؤسف الذي تعايشه الجامعات السودانية. فحسب ذلك التصنيف، جاء توزيع الـ 100 جامعة كما يلي: 23 جامعة من جمهورية مصر، 17 جامعة من المملكة العربية السعودية، 15 جامعة من الجزائر، 10 جامعات من الأردن، 9 جامعات من الإمارات العربية المتحدة، 6 جامعات من المغرب، 4 جامعات من لبنان، 3 جامعات من فلسطين، 3 جامعات من العراق، جامعتان من كل من سلطنة عمان، الكويت، قطر وتونس، وأخيراً جامعة واحدة من البحرين ومثلها من السودان!!!. علماً بان الجامعة السودانية الوحيدة التي ظهرت ضمن أفضل 100 جامعة على مستوى الوطن العربي (وهي جامعة الخرطوم) جاءت في المرتبة رقم 68!!!.
مع كل ما تعانيه جامعاتنا من تحديات وإستصحاباً للمؤشرات السابق ذكرها (وغيرها من مؤشرات لا يسع مجال هذا المقال لذكرها) فإن الحكم على أن التعليم العالي في السودان هو الأفضل يصبح بمثابة محاولة للقفز على الحقائق ولربما يشير إلى تعجل القائمين على أمره في البحث عن تميز لا تدعمه معطيات الواقع حتى وإن أتي من قبل “خبراء أمريكان”. وهنا أرجو أن تسمح لي سعادة الوزيرة بالتساؤلات التالية: ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها المجتمع السوداني من الحكم الذي أصدره هؤلاء الخبراء الأمريكان؟ ثم… أليس من الأفضل أن نحكم نحن السودانيون أولاً عن واقع تعليمنا العالي ودرجة أفضليته قبل البحث عن إعترافات خارجية؟ ثم ما هي تلك المقارنات التي أجريت وعلى أساسها جاء حكم “الخبراء الأمريكان” بأفضلية تعليمنا العالي؟ وما هي تلك المؤشرات التي تم الإستناد إليها في تفنيد إدعاءات نواب البرلمان؟ وهل تمتلك الوزارة قائمة من تلك المؤشرات تستخدمها في الحكم على مدى تقدم الجامعات والكليات الجامعية في ضمان الجودة في عملياتها ومخرجاتها؟. إن كانت تلك القائمة متوافرة… فلماذا لم تكن واحدة من مرجعيات سعادة الوزيرة في تفنيد تلك الإدعاءات، وإن لم تتوافر تلك القائمة، فما الدور الذي تقوم به المفوضية الوطنية لتقويم وإعتماد مؤسسات التعليم العالي بالوزارة (ومن قبلها الهيئة العليا للتقويم والإعتماد). وهذا ما يقودنا إلى التساؤل حول الأثر الحقيقي الذي أحدثته الهيئة العليا للتقويم والاعتماد منذ نشأتها في العام 2003م في الإرتقاء بمستويات أداء مؤسسات التعليم العالي في السودان. وهنا يجدر الإشارة إلى أن المتابع لأنشطة وبرامج الهيئة لا يكاد يرصد لها إنجازاً حقيقياً يدعم رسالتها المتمثلة في الوصول بالتعليم العالي إلى المستويات العالمية المتميزة… وهذا بالضرورة لا ينفي الجهود التي بذلتها الهيئة والمتمثلة في إصدار دليل المعايير الوطنية لضمان الجودة في التعليم العالي في يونيو من العام 2008م والذي كان مخططاً له أن يكون مرشداً لمؤسسات التعليم العالي في تنفيذ عمليات التقويم الذاتي المؤسسي، تمهيداً للتقويم الخارجي، هذا بالإضافة إلى تنفيذ بعض البرامج التدريبية في مجال ضمان الجودة. ولكن يبقى باب الأسئلة مشرعاً… كم عدد مؤسسات التعليم العالي في السودان التي قامت بتنفيذ التقويم الذاتي مؤسسياً كان أم برامجياً إستناداً إلى تلك المعايير منذ إطلاقها في العام 2008 وحتى مطلع العام 2017م الذي شهد نهاية مفاجئة لتلك الهيئة ودليل معاييرها؟ ثم ما الأثر الذي أحدثته البرامج التدريبية لتلك الهيئة في نشر ثقافة ضمان الجودة والاعتماد وبصفة خاصة بين مجتمع أعضاء هيئة التدريس؟ الإجابة متروكة لوزارة التعليم العالي!!!
وفي الأثناء التي يحاول فيها البعص التعرف على الأثر الذي أحدثته الهيئة العليا للتقويم والإعتماد في تحقيق الجودة، تطل علينا الوزارة في مطلع هذا العام (2017م) من خلال الإعلان عن مرحلة جديدة في مسيرة الإرتقاء بجودة التعليم العالي تمثلت في إنشاء مؤسسة علمية حكومية تسمى المفوضية الوطنية لتقويم وإعتماد التعليم العالي تحل محل الهيئة العليا للتقويم والإعتماد. يتمثل أهم أغراض تلك المفوضية في إجراء تقويم دوري شامل للمؤسسات والبرامج وفقاً للمعايير القياسية لضمان الجودة (المصدر: الموقع الإلكتروني للوزارة). ويبدو من خلال ما توافر من معلومات حول تلك المفوضية كأنها ولدت لتسير على نفس خطى ونهج الهيئة الذي لم يكتب له التوفيق في إحداث التغيير النوعي المطلوب الذي تتطلع إليه الوزارة. ولعل أبرز ما يعزز هذا الإدعاء ما لجأت إليه المفوضية من إلغاء دليل المعايير وإستبداله بمشروع المعايير القياسية لتقويم وإعتماد المؤسسات الأكاديمية دون التريث والتروي وتقييم تجربة ذلك الدليل والذي قيل عنه أنه أتى نتاج تجارب إقليمية وعالمية ثرة ومتميزة وشارك في إعداده نخبة من خبراء الهيئة ومستشاريها وما يقرب من 200 من أعضاء هيئة التدريس والقيادات الإدارية بالجامعات وذلك على مدى سنتين متتاليتين (المصدر: وثيقة دليل المعايير الوطنية لضمان جودة التعليم العالي في السودان، صفحة رقم 5) وهو ما يوضح حجم المخصصات المالية التي أهدرت في إعداد ذلك الدليل. وهنا سؤال موجه لسعادة الوزيرة: ما هى تلك العقبات التي حالت دون تنفيذ معايير ضمان الجودة كما نص عليها ذلك الدليل؟ الإجابة على هذا السؤال تعتبر ذات أهمية قصوى تبرر في حدها الأدنى الحاجة إلى إصدار وثيقة جديدة من المعايير لتكون بديلاً لوثيقة الدليل السابقة والتي كانت تنظر إليها الوزارة بمثابة نقطة التحول في الإرتقاء بمستويات جودة أداء مؤسسات التعليم العالي… سعادة الوزيرة إن جاز لنا إصدار بعض الأحكام التقييمية لأمكننا القول وبكل ثقة أن أحد اشكالات تطبيق معايير ذلك الدليل تمثل في التوقعات والتطلعات العالية التي لم تواكب واقع الجامعات السودانية، الأمر الذي أدى به لأن يبقى حبيساً في الأدراج وعلى الأرفف بالوزارة وهيئتها إلى أن تم إلغاء العمل به بمجرد إنشاء المفوضية في بداية هذا العام والتي كان لها منتجاً جديداً ترى أنه الأصلح في الإرتقاء بمستويات الجودة في مؤسسات التعليم العالي.
سعادة الوزيرة… مع كامل تقديرنا للجهود التي بذلت في إعداد مشروع المعايير من قبل المفوضية إلا أن تطبيق تلك المعايير ومؤشراتها (البالغ عددها 263 مؤشر) سيواجه بعقبات عديدة حتى وإن تم اسقاطها على جامعات مثل جامعة الخرطوم، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة الجزيرة للحكم على مدى قدرتها في إستيفاء متطلبات المفوضية في الحصول على إعتمادها، ناهيك عن اسقاطها على الكليات الجامعية التي إنتشرت خلال السنوات القليلة الماضية… والسؤال المنطقي هنا: ما الحد الأدنى من تلك المؤشرات التي يستوجب أن تستوفيها مؤسسات التعليم العالي حتى تحصل على إعتماد الوزارة؟ فمشروع المعايير بوضعه الحالي صعب التطبيق، هذا بالإضافة إلى صعوبة فهم العديد من مكوناته من المؤشرات والشواهد والأدلة!!! وهنا يمكننا الإشارة إلى أن صياغة العديد من المؤشرات والشواهد الأدلة أتت على غير ما تنص عليه أدبيات ضمان الجودة مع عدم واقعيتها في بعض الحالات (سنعود في مقال لاحق لتفصيل ذلك وتوضيح التحديات التي يمكن أن يواجهها مشروع المعايير القياسية). هذا بالإضافة إلى إحتوائه على العديد من الإخطاء الطباعية واللغوية التي ربما تشير إلى عدم إخضاع وثيقة مشروع المعايير إلى عمليات التدقيق والمراجعة من قبل متخصصين في اللغة العربية. وحتى ندعم زعمنا القائل بعدم واقعية بعض المؤشرات والشواهد والأدلة، نشير إلى المثال التالي: في المعيار الثالث المتعلق بالتعليم والتعلم ومصادرهما، ورد بمحور أعضاء هيئة التدريس أحد المؤشرات معبراً عنه بالنص: ما نسبة أعضاء هيئة التدريس الأجانب في المؤسسة؟ وعدد جنسياتهم (المؤشر رقم 3-3-10 في الصفحة رقم 32)، وفي الصفحة رقم 38، ورد الشاهد والدليل الذي يتوجب على المؤسسة إستيفائه كما يلي: كبر نسبة عدد هيئة التدريس من الأجانب تدلل على دخول المؤسسة إلى عالم التنافسية ومقدرتها على إجتذاب أساتذة من خارج البلاد!!!!!!!!!!!!! (أنظر الشاهد والدليل رقم 3-3-10). التعقيب على واقعية هذا المؤشر متروك للوزارة ومفوضيتها!!!!!! أما ما يلينا في هذا المقال فهو القول بعدم سلامة صياغة المؤشر وشواهده (مع تحفظنا الكامل عليه)، فما هي القيمة المرجعية التي يتم على أساسها الحكم بأن تلك النسبة كبيرة!!!
سعادة الوزيرة… على الرغم من مجهوداتكم المقدرة في وضع الأطر النظرية لضمان الجودة في مؤسسات التعليم العالي في السودان، إلا أن واقع تلك المؤسسات يشير بجلاء إلى أنها تعاني العديد من الإشكالات التي لن تحلها فقط الأنظمة والتعليمات والإشراف الوزاري دونما الإهتمام بالتطبيق الإيجابي والفعال… فقد آن الاوان للخروج من دائرة التنظير فى التعاطي مع قضايا ضمان الجودة. وإن جاز لنا التقدم ببعض المقترحات في هذا المجال فهي كثيرة جداً، يقدم هذا المقال أربعة منها.
المقترح الأول: أنتم محتاجون وعلى وجه السرعة لمخاطبة أهم مشكلات تطبيق معايير ضمان الجودة في السودان والمتمثل في توفير الدعم المالي اللازم الذي يتيح لوحدات وإدارات ضمان الجودة بالجامعات القيام بمهامها التي وضعت في إطار جهود الوزارة في ذلك المجال.
المقترح الثاني: كما تعلمون تمام العلم أن تطبيق معايير ضمان الجودة يتطلب أولاً الوقوف على المعوقات التي يمكن أن تواجه عمليات التطبيق، فينصحكم هذا المقال بالتريث قليلاً قبل الشروع في تطبيق المعايير كما اقترحتها المفوضية، ومن ثم الشروع فوراً في إجراء دراسة ميدانية هدفها قراءة الواقع وتحليله بدقة وعناية وذلك لكافة مؤسسات التعليم العالي الحكومية منها والخاصة على حد سواء وذلك بهدف الحصول على قاعدة عريضة من المعلومات والبيانات التي تمكنكم من الوقوف على مؤشرات القصور والقوة لكل مؤسسة، فمثل تلك المؤشرات تعتبر بمثابة نقطة الإنطلاق الحقيقية لعمليات ضمان الجودة كما تخططون لها عبر المفوضية.
المقترح الثالث: أنتم محتاجون للتفكير بصورة جدية في عقد مؤتمر علمي يقترح له هذا المقال عنواناً نصه: واقع ضمان الجودة في السودان: الممارسات، السياسات وتحديات المستقبل يتم الإعداد له على وجه السرعة، على أن يتم عقده منتصف العام 2019م مع ضروروة التركيز على أن يأتي هذا المؤتمر العلمي متميزاً في كافة مراحله. المقترح الرابع: أنتم محتاجون لتبني عمليات متابعة حقيقية لعمل وحدات وإدارات ضمان الجودة بالجامعات والكليات الجامعية والتعرف عن قرب عن العقبات والإشكالات التي تواجهها ومن ثم وضع السياسات المناسبة.
نقطة أخيرة… ما رأي سعادة الوزيرة وتوقعاتها للعلاقة بين الزيادة الكبيرة في الترقيات إلى درجات الأستاذ الدكتور(البروفيسور)، والأستاذ المشارك ومستوى الجودة المتحققة لمؤسسات التعليم العالي بناءً على المساهمات العلمية التي يفترض أرتباطها بتلك الترقيات؟ الواقع يشير بجلاء إلى علاقة عكسية: حيث زادات الترقيات في السنوات القليلة الماضية بصورة كبيرة وذلك تزامناً مع التراجع المستمر الذي شهدته الجامعات السودانية في التصنيفات التي تعتمد أساساً على البحث العلمي في تحديد موقع المؤسسة التعليمية مقارنة بنظيراتها سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. فأين ذهبت تلك الأبحاث التي على أساسها منحت تلك الترقيات!!!! وهنا دعوة لمراجعة الشروط المطلوب إستيفائها للترقي وبصفة خاصة درجة الاستاذ الدكتور!!!!!!! السودان في الوضع الراهن ليس بحاجة إلى كم هائل من تلك الدرجات الرفيعة، بقدر ما هو في أمس الحوجة إلى مخرجات علمية تساهم في نهضة المجتمع السوادني وتقدمه.
وفقنا الله وإياكم في خدمة المجتمع السوداني
أستاذ مساعد بجامعة السلطان قابوس – سلطنة عمان
رئيس سابق لوحدة التقويم الذاتي والإعتماد الأكاديمي بجامعة بخت الرضا (الدويم)