محجوب حسين
إستفهامنا كالآتي : كيف يمكن لنا أن نفسر خطوط التوازي والتقاطع والتعارض في المحنة السودانية اليوم والتي وصلت إلى مرحلة إنسداد إستثنائية وهي المحنة التي أراد لها رسل ‘دولة’ السماء من السودانيين الحاكمين في أن تتوقف دورتها هنا دون أي إنتقال آخر سلبا أو إيجابا لإنجاب جديد ضدا على سيرورة تفسير الطبيعة للظواهر والأشياء والأفعال – وبها ومعها تتوقف كل ديناميات الخصوبة والإنتاج والتي يمكن أن تعمل على فك طلاسم شفرات المحنة السودانية والتي هي بنيوية وتاريخية ذات أنساق ومرجعيات عديدة تمظهــــرت في إشكاليات يعيشها ‘دولة’ المشروع و’الشعب’ المشروع في مشروع الدولة من جهة مقابلة.
أعود إلى جوهر إستفهامي، ودون توصيف للمشهد السوداني والذي بات واضحا في ملامحه وأسس صراعاته وما هو مرتقب وقادم ووشيك الوقوع وما هو واقع فيه أيضا ….. إن تفسير خطوط التوازي والتقاطع والتي بلغت نهاياتها مع مفارقاتها كذلك والتي تجسدت في شكل الصراع الدائر الآن بين السوداني / السوداني والسوداني مع الجنوب سوداني مرده يعود إلى الإنسحاب أو الحرب مع أدوات شرعنة المشروع ‘ الوطني’ السوداني لصالح بناء دولة مجاورة أو حربا مستعرة في ما تبقى منه شمالا -، وبالتالي الصراع اليوم حول مشروعين وطنيين فقط في السودان تمكنا من الوصول إلى التصفيات النهائية بعد أكثر من نصف قرن من الزمان، وبالضرورة أن يتصادما وفق أدوات عنيفة أو مرنة قصد تحديد المنتصر ويبدأ معه تركيب وصناعة الدولة من جديد وفق رؤى شعوب سودانية متفرقة وتطمح في أن تصل إلى شعب سوداني واحد ومن ثم أمة سودانية واحدة بعيدة عن غسيل الأيدولوجيا القاسية والقهرية في السودان والقائمة أصلا على ثنائيات حدية ومضادة معلنة ومسكوت عنها أو جاهزة للجهر بها في أي زاوية حادة تقع.
الجبهة الثورية مع عقلية الرسوب الوطني
هذان المشروعان، الأول فيهما قديم ومغلوب على آمره ومتآكل بدأ مع إستقلال السودان في خمسينيات القرن الماضي، مجددا أدوات شرعنته من فترة إلى أخرى وبين نظام وأخر، وبين تحالفات ومساومات وتسويات وترميمات إلى أن وصل إلى درجة عالية من الإنحراف مثلتها منظــــومة الإسلام السياسي الحاكمة تحت سلطة السماء ومبعوثيها إلى الأرض السودانية والتي أكملت معها حلقة تشويه الوطن / المشروع سياسيا وجغرافيا وتاريخيا وخلخلت معها منظومة القيم السياسية والثــــقافية والإجتـــماعية والإقتصادية والدينية ودفعتها نحو وعي الغنيـــمة والعرق، حيث أصبحت الأخيرة هي الثنائية المنتجة لكل الأفعال والسلوكيات والتصرفات التي تنتج سودانيا سواء عبر مؤسسة الدولة أو الأشخاص أو بعض مؤسساتها العاملة في تفريخ منتجها الثنائي لفرز الوعي الجمعي السوداني في ثنائية خطرة وهي العروبة أو الزنجية أو ما بين الأحرار والعبيد وتنسحب معها ثنائية لاهوتية هي الإسلام أو الكفر، حيث الأول يتبع الأول والثاني يتبع الثاني، لتغيب معها كل أسس ومكونات الدولة وبنيات سلطتها وحكمها وإنتهت معها حتى كليشهات العقد الإجتماعي الغير رضائي، فلم تعد هنا إذا الديمقراطية ولا الحريات ولا مؤسسات مجتمع مدني ولا عدل ولا مساواة بل فســـاد كلي وشامل وبنيوي مع حرب التجفيف الشامل لكل معاقل الوطنية في السودان .لنخلص مما تقدم ومن خلال الفعل التراكمي لما يعرف بالمشروع الوطني السوداني منذ الإستقلال إلى يومنا هذا، كان حاصله الرسوب والسقوط عمليا دون أن يبقى في رصيده شيء، حتى الشرعنة عبر إنتاج الكذب سقطت وهنا تتوجب المغادرة ولكن كيف ؟
أما المشروع الوطني الثاني وبالنظر إلى الواقع السياسي السوداني اليوم يجسده مشروع الجبهة الثورية السودانية تحالف بين كل القوى المسلحة والديمقراطية السودانية لتأسيس المشروع الوطني السوداني الجديد والقائم على مراجعة التاريخ والإستفاده منه بموضوعية وعقلانية قصد ملء الفراغ المرتقب سياسيا وجماهيريا ومؤسسيا لأجل صناعة دولة سودانية جديدة قوامها وطن مؤسس على معايير العدالة والمساواة الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية ودولة الحق والقانون وكل أسس ومعايير الدول الحديثة في عقد إجتماعي سوداني موائم وملائم يؤمن بالمواطنة أساسا لكل فائض القيمة السياسي والإجتماعي والإقتصادي والديني والثقافي وإنهاءا لفكر ومشروع ودولة ‘الأباطرة’ السودانية.
التصادم لأجل الحقيقة السودانية
هكذا، وفي ظل رسوب وسقوط المشروع الوطني الأول والسائد حاليا، وأمام أهلية وشرعية المشروع الوطني السوداني الجديد والذي يصفه فريق الرسوب والسقوط الوطني ‘ بالعنصري والزنجي واللاديني والجهوي واللاسوداني ….. إلخ ‘ كمجال للحرب نجده اليوم تموقع وتمفصــــل في فعل يومي وحراك مستمر للإستعداد للمفاصلة النهــــائية، حيث بالضـــرورة كما تقول الأرقام السياسية من منتصر واحد ولفائــــدة مشروع واحد، وهو مجال للصراع والتصادم السودانيين ما بين أصحاب الرسوب والسقوط في كل أشكاله وما بين مشروع السودانيين وهو المشروع الوطني الجديد والذي تمثله كل القوي الديمقراطية والقوي المسلحة السودانية في نهاية لما يعرف بصراع المركز والهامش السوداني وإنهاءا لمركزية دولة ‘غردون السائدة’ مع تأكيد أن مجال التصفيات النهائية قد لا يقع في الأطراف أو الأطراف الوسطي وإنما في مركز التمركز والذي به أنتج كل فعل الرسوب السوداني ومعها تنتهي مساءلات الوطن العديدة والتي تبحث دوما عن فرضيات لتصدير الأزمة . وفي هذا الإتجاه أشار أحد كتاب الأعمدة السودانيين في عاموده ‘آخر الليل’، بقوله ‘…. ويبقى أن الوطني الحزب الحاكم -، عليه الآن إما أن يقوم بإلقاء القنبــــلة هذه في جيب الجنوب أو أن يذهب .. لأنه إن لم يذهــــب ذهبوا به ..’، بمعنى عليه ببدء الحرب بإلقاء القنبلة الأولى في ‘جوبا’ عاصمة دولة دولة جنوب السودان ومــــن ثم تغيير منحنيات الصراع من الحرب حول أسس الدولة في الشمال إلى الحرب ما بين دولة الشمال والجنوب قصد تمييع الحقيقة السودانية مجددا، ولأجلها نعتقد أن منــــهج التصادم هـــو الواقعي والأقل فاتورة ما دام عامل الزمن هو الذي يحدد شكل الإنتصار ونوعه. إذا هو مجالا سودانيا إنتفت فيه أسس الحوار وإدارته إلى التصادم لإفراز قد يكون جديدا، دون أن يكون مضــــادا أو في شراكة جديدة ومنتجة. مع إن مجال دولة الرسوب ومشروعها جاهزين لذلك ضمن هذا ‘الإنحدار التاريخي’، ولكن يبقى إستحقاق المشروع الوطني الجديد هو الأصل والعقد والفلسفة وكذا الحروب السودانية هي أداتها على ما يبدو دون إجتهاد سياسي سوداني عقلاني مخبا.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن