خصومه يعتبرونه «خميرة عكننة» ومن صقور الحركة الشعبية
يعتبره كثيرون إحدى الشخصيات السودانية النادرة، من بين الجنوبيين والشماليين على حد سواء، بعد زعيم ومؤسس الحركة الشعبية الراحل دكتور جون قرنق. وقد ظل يرفع مع أستاذه قرنق، شعار وحدة السودان – على أسس جديدة – يتساوى فيها السودانيون بقيم العدالة والحرية والكرامة. ولأن باقان أموم أكيج نشأ في أسرة كبيرة، ووالده من القيادات التقليدية في قبيلة «الشلك»، ثالث قبائل الجنوب وهو عمدة أحد فروع القبيلة، فإن سلطة القبيلة غرست فيه روح المسؤولية والقيادة على أساس التربية الباكرة التي تقوم بها الأسر العريقة في القبائل الأفريقية. كان يجلس ضمن مجالس شيوخ القبيلة وهو في سن صغيرة. وكان يحضر أيضا محاكم السلاطين، حيث تعلم الحكمة من والده السلطان. لكنه شب عن الطوق القبلي لاحقا، ولم تصبح القبيلة هي منطلقه في حياته السياسية والفكرية، بل أصبحت قبيلته «الحركة الشعبية» و«الجيش الشعبي»، حسب وصف أحد الذين عملوا معه في الحركة الشعبية. لكن خصوم باقان في الشمال، خاصة المؤتمر الوطني، يعتبرونه خميرة عكننة، ومن صقور الحركة الشعبية. واللقب الذي أطلق عليه ومعه نائبه في الأمانة العامة رئيس كتلة الحركة ياسر عرمان ووزير الخارجية دينق ألور بأنهم «أولاد قرنق» لتمسكهم بأفكاره حول تحقيق السودان الجديد، وبناء وحدة السودان على أسس جديدة.
عرف أموم (54 عاما) التمرد في وقت مبكر من حياته. وهو اليوم متزوج من امرأتين، إحداهما تقيم مع أبنائها في استراليا، والأخرى دكتورة سوزان ابنة أخت قائد الاستخبارات الخارجية السابق للجيش الشعبي ادورد لينو. وكما يقول السودانيون، فإنه دخل «الغابة» (أي التحق بالتمرد) التي تتميز بها مناطق جنوب السودان لكثافتها. وجماعة التمرد في الجنوب يذهبون إلى الغابة في حرب «الغوريللا» أو العصابات، حيث يصعب للقوات الحكومية تعقبهم. وعندما تمرد باقان أموم كان عمره لم يتجاوز العشرين سنة، وكان حينها طالبا في السنة الثالثة في كلية القانون بجامعة الخرطوم، أعرق الجامعات السودانية.
يقول عضو البرلمان عن الحركة الشعبية دينق قوج لـ«الشرق الأوسط»، إن أموم تمرد وحمل السلاح في عام 1982 مع مجموعة من الشباب الجنوبيين تركوا مقاعد الدراسة واتجهوا إلى الغابة. ويضيف أن أموم عرف العمل السياسي في المدارس الثانوية حيث درس معظم مراحله الدراسية في شمال السودان، بدءا من كوستي – وسط السودان وتقع جنوب الخرطوم – ثم بورتسودان الثانوية في أقصى شرق السودان، ومن ثم جامعة الخرطوم التي يكمل تعليمه فيها. وأسس باقان أموم ونأشقاك الذي قتل في إحدى المعارك ضد القوات الحكومية عام 1985– وكان قد تزوج شقيقة باقان يانقوتي القائدة العسكرية في الجيش الشعبي وعضو برلمان الجنوب حاليا – وكذلك كان معهم القائد لوكورنيق، أسس ثلاثتهم ومعهم آخرون، تنظيم الجبهة المتحدة لتحرير جنوب السودان. ووقتها كانوا جميعا في المرحلة الثانوية. لكن فكرة التمرد على الحكومة كانت تسيطر عليهم لرفضهم سياسات نظام الرئيس الأسبق الراحل جعفر نميري الذي حكم السودان في الفترة (1969 – 1985).
يقول أحد القيادات الجنوبية التي عاصرت فترة تمرد مجموعة باقان أموم، إن تلك المجموعة كانت ترفض الترتيبات الدستورية التي ابتدعتها اتفاقية أديس أبابا التي وقعها النميري مع التمرد الأول (الانيانيا الأولى) بزعامة جوزيف لاقو عام 1972، والتي أنهت حربا أهلية استمرت لأكثر من سبعة عشر عاما في جنوب السودان. ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أن العديد من ساسة الجنوب بدأت ثقتهم تهتز بسبب تنفيذ اتفاقية أديس أبابا، وأن تقسيم النميري للإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم أصبحت القشة التي قصمت ظهر البعير إلى جانب إعلانه أحكام الشريعة الإسلامية. ويقول إن باقان أموم ومجموعته تمردوا قبل إعلان أحكام الشريعة بوقت قليل، حيث إن الجبهة المتحدة لتحرير جنوب السودان أعلنت عن نفسها في العام 1982 في الفترة ذاتها التي أعلنت حركة «الانيانيا الثانية» بقيادة صمويل قاي توت عن نفسها. واتخذت الجبهة المتحدة منطقة جبل (بوما) قاعدة لتمردها.
إذن تمرد باقان قبل أن تعلن الحركة الشعبية بزعامة دكتور جون قرنق عن نفسها، والتي أعلنت تأسيسها في 16 مايو (أيار) من العام 1983. وروى في ذات يوم النائب الأول للرئيس السوداني الحالي رئيس الحركة الشعبية سيلفا كير ميارديت، أنه رافق رئيس الحركة وقتها دكتور جون قرنق إلى منطقة جبل بوما التي يتحصن فيها باقان ورفاقه لإجراء النقاش معهم لضمهم إلى الجيش الشعبي. وكان باقان قد سمع أيضا بالحركة الوليدة في الجنوب، وأنه كان يتحين الفرص للقاء قادة تلك الحركة، ولأن مجموعة باقان أموم كان هدفها تحرير الجنوب من حكومة الشمال على عكس ما طرحته الحركة الشعبية من شعارات وأن المشكلة ليست في الجنوب وإنما في الخرطوم. واستمر النقاش بين قرنق وسيلفا كير من جانب الحركة وباقان ومجموعته في الجانب الآخر لأكثر من ثماني ساعات انتهت بإعلان مجموعة باقان لاندماج مع الجيش الشعبي لتحرير السودان.
وعند استيعاب أموم في الجيش الشعبي بعد الاندماج، منح رتبة النقيب التي كانت من الرتب العليا، كما ذكر القائد في الجيش الشعبي عبد الباقي مختار لـ«الشرق الأوسط»، والذي عمل مع باقان أموم في عدة مواقع عسكرية وسياسية. وقال إن أموم مقاتل شجاع خاض معارك كثيرة في مناطق أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية كما خاضها في شرق السودان بعد أن نقلت الحركة مع قوى التجمع الوطني الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني المعارك إلى شرق السودان في منتصف تسعينات القرن الماضي.
وقد جرح أموم في إحدى المعارك بجراح كبيرة في ظهره وتم إرساله إلى كوبا. لكنه استثمر – حسب دينق قوج – وجوده في هافانا وواصل تعليمه الجامعي حيث حصل على شهادات في العلوم السياسية. ومن ثم أصبح ممثل الحركة في كوبا وأميركا اللاتينية، وفتح المجال لكوادر الحركة لنيل التدريب السياسي والعسكري، إذ إن الحركة وقتها في منتصف الثمانينات وحتى أوائل التسعينات كانت يسارية التوجه. وعندما عاد إلى مناطق العمليات في الجنوب، كان الانقسام الشهير الذي حدث في الحركة الشعبية بقيادة دكتور لام آكول – وهو لديه صلة قرابة مع باقان أموم ومن قبيلة واحدة – ودكتور رياك مشار وكاربينو كوانيين واروك طون اروك، والأخيران من القادة الأوائل المؤسسين للحركة الشعبية. ووقع هؤلاء اتفاقية الخرطوم للسلام، ولكن تفرقوا أيضا بعد ذلك، حيث قتل كاربينو كوانين في ظروف غامضة بعد عام من توقيعه الاتفاقية. ولقي اروك طون اروك حتفه في مدينة الناصر مع النائب الأول الأسبق اللواء الزبير محمد صالح في حادثة طائرة نجا منها لام آكول الذي انضم إلى المؤتمر الوطني، ثم خرج عنه وشكل حزب العدالة وانقسم عنه ليشكل حزب العدالة الأصل. وعاد مرة أخرى للحركة الشعبية قبيل توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا (كينيا) أواخر عام 2003، وتم تعيينه وزيرا للخارجية. وبعد إعفائه انقسم عن الحركة مرة ثانية وشكل تنظيما يحمل الاسم ذاته بإضافة التغيير الديمقراطي.
أما رياك مشار، فقد شغل منصب مساعد البشير، لكنه عاد بعد أربعة أعوام إلى الحركة الشعبية والآن يشغل منصب نائب رئيسها ونائب رئيس حكومة الجنوب. ويقول أحد قيادات الجيش الشعبي لـ«الشرق الأوسط»، فضل عدم ذكر اسمه بسبب موقعه الحساس، إن المنشقين قاموا بانقلاب على قيادة جون قرنق للحركة تحت مسمى انعدام الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنهم مارسوا أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان من قتل على الأساس القبلي في مناطق واسعة في الجنوب.
ويقول القائد العسكري نفسه، إن باقان أموم كان من القادة المهمين في إفشال مخطط الانقسام وإنه وقف بصلابة ضدهم، وعمل جهدا كبيرا في كبويتا وغيرها ضد الانقساميين، خاصة أنه كان ضابطا للتوجيه المعنوي وعمل في عدة مواقع وكتائب عسكرية منها «الجاموس» في منطقة أعالي النيل التي ركز الذين انشقوا عن الحركة معظم نشاطهم فيها. ويشير إلى أن المؤتمر الأول للحركة الشعبية والجيش الشعبي في عام 1994 قام باختيار باقان سكرتيرا للإعلام في اللجنة التنفيذية العليا للحركة. ويقول إن قائد الحركة الدكتور جون قرنق كان يعطي أموم دائما المهام الصعبة لأنه يعرف أنه سينجزها وأنه يتفهم ما يطلب منه. ويلفت إلى أن اختيار أموم لقيادة الجبهة السادس في شرق السودان في العام 1996 كان سببه أن باقان أموم درس في المدارس الثانوية في بورتسودان بشرق السودان ويعرف طبيعة المنطقة، وأنه استطاع أن يخلق علاقات قوية مع قوى التجمع الوطني الديمقراطي، ومن ثم تم نقله إلى الجنوب مرة أخرى ليتم تعيينه سكرتير التجارة والأعمال (وهي توازي وزير التجارة).
ويتفق القائد هاشم بدر الدين، الذي عمل تحت قيادة باقان أموم، في ما ذهب إليه سلفه، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن أموم عاد مرة أخرى للجبهة الشرقية قائدا «للواء السودان الجديد» الذي أسسته الحركة مع قوى التجمع الأخرى. ويضيف أن من أهم مميزات أموم، العمل الجماعي وأنه رجل حوار من الطراز الأول ومتواضع وليست لديه نزعة ديكتاتورية بل هو مرن حتى مع خصومه. ويقول إنه استطاع بقدراته خلق تفاهمات كبيرة بين أطياف التجمع وتقوية لواء السودان الجديد الذي استطاع أن يحقق انتصارات عسكرية كبيرة في شرق السودان. ويضيف «بل هو استطاع أن يضع خطة مكنت الجيش الشعبي من دخول كسلا ثاني أكبر مدن شرق السودان وتلك كانت رسالة بالغة وسياسية كذلك على نظام البشير». ويقول إن قرنق اختار نيال دينق نيال ليشغل منصب الأمين العام للتجمع، إلا أن قادة التجمع طالبوا قرنق باختيار باقان أموم للمنصب لمعرفتهم به ولقدراته في تحقيق الاتفاق في الحد الأدنى بين مختلف القوى ولأنه شخصية تميل إلى الحوار والإقناع. ويرسم القائد العسكري أوغستينو لـ«الشرق الأوسط» صورة مقربة لباقان بحكم عمله لفترة طويلة معه في مواقع مختلفة، ويقول إن باقان يجيد لغات عديدة في الجنوب إلى جانب لغته «الشلك»، ومنها النوير والدينكا والانواك المورلي. كما أنه يتقن اللغات العربية والإسبانية والانجليزية وجميعها بطلاقة كتابة ونطقا، إلى جانب أنه شاعر كتب شعره باللغة الإسبانية وتمت ترجمتها إلى الإنجليزية والعربية في كتاب مشترك مع ادورد لينو وكورباندي. ويقول إنه أكثر القادة في الحركة الشعبية اقتناعا بوحدة السودان على أسس جديدة وبوحدة الإنسانية ويمكن أن يكون متشددا في ذلك وأن لديه قدرة على التأثير بشكل كبير لكل من حوله. ويضيف «لذلك كان يقود التجمع الوطني الديمقراطي ويحافظ على وحدته، واستطاع كسب قادة التجمع لأن لديه عقلية متفتحة».
ويلفت هاشم بدر الدين إلى أن قدرات باقان أموم الفكرية والسياسية والقيادية فرضتها علاقته مع الآخر وليس القبيلة ولأنه متجاوز الإطار القبلي فإن قدراته قومية. ويقول إن علاقات باقان مع المتصوفة لا تنطلق من نزعة سياسية لأنه عاش في الشمال لفترة طويلة من حياته. ويضيف بدر الدين – الذي لديه علاقة قوية بالتصوف وهو متدين – إنه عندما كان قائدا للجبهة الشرقية تعمق أكثر في علاقاته مع المتصوفة، ولقربه الشديد من زعيم الطريقة الختمية محمد عثمان الميرغني، إلى جانب أن لديه معرفة واسعة بالأديان واطلع عليها. ويشير إلى أنه ليس غريبا أن يذهب باقان إلى أهل الصوفية لأن علاقته معهم قديمة ولديه فهم عميق للتصوف. ويقول «في شهر رمضان عندما كنا في الجبهة الشرقية يأتي باقان أموم ليوقظ الضباط والجنود من المسلمين لتناول السحور إلى جانب أنه يضاعف من الميزانية في ذلك الشهر». ويشير إلى أنه يوقف الاجتماعات وقت صلاة المسلمين ولديه احترام كبير للشعائر الدينية، وأنه يحرص على الاحتفال مع المسلمين في الأعياد. ويضيف أن أموم أسهم بشكل كبير في تثبيت مفاهيم حقوق الإنسان في الجيش الشعبي وحارب المظاهر السالبة التي انتقلت من الجيش الحكومي إلى الجيش الشعبي، وأنه لا يمكنه أن يكون جالسا وهو يصافح شخصا.
وقد كتب أشد أخصام باقان، وهو رئيس حزب منبر السلام العادل الطيب مصطفى، في عموده اليومي – وهو خال الرئيس عمر البشير – مقالا حول زيارات الرجل إلى المتصوفة، ومما جاء في العمود: «باقان الذي لا تنقضي عجائبُه لم يفوِّت فرصة عيد الأضحى فقام في إطار ممارسته لهوايته في احتقار عقول شيوخ الطرق الصوفية باعتبارهم «حيطته» القصيرة التي يظن أنهم يسهل خداعهم… قام بزيارة لبعض الشيوخ وجلس القرفصاء وأشاد بدورهم وبالطبع لا يذهب الرجل لزيارة الشيوخ إلا وهو محمَّل بجوالات السكر والدقيق وغير ذلك من احتياجات خلاوي القرآن!! بالطبع هذه الزيارة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة لشيوخ الطرق الصوفية ولم أستغربها البتة».
كثيرون من الذين عملوا مع باقان يتفقون على أنه حريص على إيجاد التفاهم المشترك مع الآخرين، ومع ذلك فإن خصومه لا يتوانون في الهجوم عليه، ويعتبرونه من المتشددين. ويقولون إنه شخصية خلافية ويصطنع الخلافات وأنه عنيد في مواقفه حتى داخل الحركة. ويشير هؤلاء إلى أن باقان لديه طموحات بأن يصبح قائد الحركة الشعبية وأن لديه خلافات مع رئيسها، وهو ما ينفيه الذين عملوا معه. وذهبوا إلى أكثر من ذلك ويرون أنه عندما اختلف قرنق مع نائبه سيلفا كير في عام 2004، قبيل توقيع اتفاقية السلام بشهر واحد وفي ذلك الاجتماع العاصف في مدينة رومبيك معقل الجيش الشعبي والذي شد انتباه العالم وكانت أنفاس الجميع محبوسة لما يمكن أن يقع بين رفاق السلاح والثورة، انبرى باقان وقال حديثا طويلا أعطى لسيلفا كير حقه في أن يكون لديه كامل الصلاحيات. ويستشهد هؤلاء بأن قواعد الحركة في المؤتمر العام الثاني الذي انعقد في جوبا العام الماضي فرضت القواعد باقان امينا عاما للحركة.
عندما سئل باقان في حوار مع «الشرق الأوسط» إن كان هو قرنق القادم، كان رده: «لن يحل شخص محل جون قرنق، فقد كان شخصية تاريخية مميزة لن تتكرر. يمكن أن يظهر للدكتور جون قرنق تلاميذ تشربوا بفكره، يمكن أن يوصلوا ذلك الفكر، والحكم متروك للتاريخ. لا أدري إن كان بإمكاني أن أكون قرنق. أنا سعيد بالتلمذة على يديه لمدة ربع قرن كرفيق وكزعيم، وبعد رحيله عملنا على مواصلة النضال لتحقيق السودان الجديد بقيادة رئيس الحركة سلفا كير ميارديت، الذي قال يوم تشييع الدكتور جون قرنق، إننا قد ودعنا جثمان قرنق لكننا سنواصل المشوار لإكمال ما تبقى من المهمة والرسالة».
الشرق الاوسط