حسن اسحق
كان الصباح بهيا كوجه سلمي ، اول اشراقة شمس اطلت بنورها علي اطراف حديقة سايمون ، تحمل تنبؤات يوم سيكون ثقيلا علي نساء كادوقلي وام دورين بمنطقة جبال النوبة . الساعة تجاوزت العاشرة والنصف صباحا القنوات تبث انفاس المدينة المتقطعة ، الاذاعات تشجب ، المنظمات الاممية تدين دون التأثير علي قرارات المركز التي قصمت ظهر البسطاء الفارين ، الارض اصابها النسيان ، جموع العجزة تنظر الي السماء ، ترجو ان يرسل اليهم المسيح المنقذ ، فتاة سمراء تحمل اخاها الرضيع تتجه صوب التلال العالية ، خوفا من النمل والباعوض ، والذباب ، الطفل يصرخ ، الفتاة لا تبال بصراخه ، ومن خلفها امرأة تحمل جوالا به قطع خبز اصابها اليأس وقارورة بها نمل ، قالت المرأة للفتاة :لا تركضي اخاك سيسقط سهوا في الطريق.
احتشد العابرين وجوههم فيها بريق من الذعر ، وارجلهم متسخة ، ثيابهم مبتلة بالعرق ، يحملون علي ظهورهم امل الخروج من القرية ، اما السير نحو الجبال ، او التقدم شمالا حيث اسراب الجراد تطوق السماء ، ومداخل الكنيسة ، وابواب المخبز تكسرت ، والدقيق صار رمادا ، اخت الطفل تحلم بقطعة خبز يابسة ، وقلبها علي امها المفقودة منذ اسبوع ، ألرضيع يصرخ يصرخ يصرخ من يبالي ؟
العم دومو يجلس علي مكتبه وسكرتيرته تدخل اليه ، رائحة عطرها فرضت قانون الطوارئ الداخلي ، سيطر علي اركان المكان باتجاهاته الاربع ، الروائح تتسرب خلسة ، وعقله ياخذه بعيدا الي مناطق الجسد المصلوب بتابوهات السلطان ، وباوهام المرضي من كبار المسؤولين.
قالت السكرتيرة ، سيدي ، لماذا تنظر الي المرآة ، لا ،بل انظر الي الماضي ، كيف اضعت فرصة تعييني وزيرا في بيت المال ، والسلطة كالنار تشتعل فجأة ، والنفوذ كالخريف في كادوقلي ، والدلنج حبلي بالخضرة ، السماء كخبز احترق جزئيا ،الوديان كفتاة في ربيع بلوغها ،قائلا للسكرتيرة :اه ياسعاد لو انصت قليلا لواقع العمل والزمن وحساباته ، لما ادخلني في نفق تسيطر عليه الثعالب والذئاب ،وصراع الافيال ضحاياه الورود والسنابل ،الحقول الصفراء ،لكني لن اسكت ،بذلت جهدا كبيرا في وزارة بيت النقود ،هل تعلمين ان الفقراء يدفعون دم حياتهم ،العائد يسير باتجاه القصر دون النظر الي الخلف ،باعتباره مكلف حسب زعمهم.
الطفلة ككا المسكينة ماتت بالسرطان في احدي مستشفيات الخرطوم بالعاصمة ،الدواء غائب ،المدخل يحرسه افراد يجتهدون في جمع المال وتحصيله من العابرين الي جحيم المستشفي ،ككا غابت الي الابد ،اول واخر ضربة جزاء في حياتها الزوجية بعد عشر اعوام من النضال الزوجي المرير ،انجبتها وخطفها الموت ،صراع المال ،جشع الحياة ،عوضية ام ككا تبكي تصرخ ،اعيدوا الي ككا بذرتي وردتي في حقل تحيط به الغام السلطة.
سمع دوي طائرات تتربص بالمتحركين ،وتقصف في كل الاتجاهات ،المسيح حرق في الداخل ،مريم العذراء يوسف ،الدخان يتسلل عبر النوافذ المنكسرة ،والمسامير تتساقط،السقف يتهاوي ارضا ،احد الرجال يصيح ،المسيح في الداخل انقذوه من الحريق ،هو ماتبقي لي في هذه الفترة ،اتوسل اليه ان ينقذني ،احفادي فوق الجبل ،انقذني يايسوع من اسراب الطيور الكاسرة ،من اجلهم ابعدني عن الموت .امرأة تضرب تضرب بيديها الارض فجأة توقفت ،الجميع ينظرون في ذهول المسكينة فارقت مأساة كادوقلي وام دورين ،حلقها اخترقه العطش ،ونبضها سرقه فقدان ابنائها الاربع.
اخرس ايها الثرثار ،هكذا رد احد ابواق النظام والمتواطئين من الداخل ،اني احاول ان اتفادي النظام ،وانت بافكارك اليسارية ،احاديثك التي تنصب لصالح الفقراء ،هل تعتبرهم ملح الارض والموسيقي والتلحين ،ان الدهماء في هذه البلاد خارج حسابات الدواء والغذاء والتدريس ،التفت الي الشاب صائحا :الزمن يسرقك ،المستقبل امامك يناديك ،تعال ،طرقاته مضاءة ،استثمر المعاناة لصالحك ،لا تكن غبيا .اسمع ايها الاحمق ،الشرف ما تعاهدنا به مع تيتو ،التجرأ علي النظام ينزلق بصاحبه الي جهنم ،اياك اياك اياك ،الضيعة لها قوانينها ،اشطب والغي كل حديث يحرج حبيبي السلطان ،ويشكل عقبة للاعلان ،قائلا للسكرتيرة هؤلاء الشباب حمقي ،المستقبل المضئ امامهم ،لكنهم موبوءون بافكار يسارية ،حرية التعبير ،حقوق الانسان،لا تضع مثل هذه المعادلات حدا بين مايتمنونه ويعايشوه من واقع.
خرج الشاب مرجله يغلي في داخله ،من تيتو هذا الذي ملأ الارض بقوانين تحرمنا ،مانريد الافصاح عنه ؟الم يسمع بمقولتي بنجامين فرانكلين الشهيرتين : تبدأ مصادرة حرية الامم ، بمصادرة حقها في التعبير ،ومن يريد اطلاق حرية شعب ،يجب ان يبدأ باطلاق حرية الكلام ،حقي ، لن اصمت كالجبان ، واتواري خلف قضبان الخوف من التعذيب والاعتقال ،لست فأرا كي اهرب ، عندما اسمع مواء القطط من الاف الاميال ، دون ان تدري القطط ان كان الفأر موجودا ،الشاب يخاطب نفسه متحسرا ،عقدة الخوف لا مستقبل لها في افكاري التي تردد حرية حرية حرية تعبير ،حرية حرية رأي ،حرية عمل ،خرج الشاب تحاصره امواج الغضب ،في ميناء رأسه مئات والاف وملايين الافكار ،الاسئلة ،هل الوذ بالفرار ،كما اختفي رفيقي سايمون في غابات الاستوائية حيث الحرية والامن ،اما انا حيث قوات التدخل السريع في الانداية ،اقتحام غرفتي بقانون النظام السام.
الاوراق علي الطاولة يتفحصها المدير بغضب .الشاب لا يأبه بكلامه ونبرات حديثه الانتهازية كالخوف غير المبرر من اغلاق الصحيفة ،الحرمان من الاعلان ،النسيان يعتقل الشباب ،واضواء المدينة تتلاشي خلف ابواب المسؤول العضود ،ويردد عبارة ناظم حكمت ،قلبه يحترق علي ككا وسايمون ،قائلا بصوت يملوءه الحزن والتأسي علي الحرية:
اذا لم احترق انا
وتحترق انت
فكيف نخرج من الظلمات الي النور
[email protected]