د.الشفيع خضر
مصطلح تأسيس، أو إعادة بناء، دولة ما بعد الإستقلال، يقصد به التصدي لإنجاز القضايا والمهام التأسيسية التي بموجبها يتم بناء دولة ما بعد خروج المستعمر، إي استكمال الاستقلال السياسي في هذه الدول ببناء الدولة الوطنية المستقلة التي يتوافق الجميع على العيش فيها بمختلف مكوناتهم القومية والفكرية والسياسية والايديولوجية. وهذا التوافق يتطلب ويشترط الإتفاق والقبول بناتج وإجابات عملية التصدي لتلك القضايا أو المهام التأسيسية للدولة المستقلة حديثا، ومن بينها قضايا شكل الحكم، علاقة الدين بالدولة، الهوية الوطنية، مؤسسات وهياكل الدولة وقوانينها، الدستور الدائم…الخ.
ومن الواضح أن كل الدول التي لم تنجز مهام التأسيس تلك، دخلت في أزمات حادة حد الحروب الأهلية المدمرة، وهذا للأسف، حال السودان، حيث منذ فجر الإستقلال وحتى اللحظة، فشلت كل القوى، المدنية والعسكرية، التي تعاقبت على حكمه في إنجاز مهام تأسيس دولة السودان الوطنية المستقلة. وبسبب ذلك، وخاصة في ظل نظام الإنقاذ الذي تصدى لمهام التأسيس هذه بمعالجات قاصرة وفق نظرة ايديولوجية ضيقة مما أوصل الأزمة إلى مداها الأقصى، دخلت البلاد في نفق مظلم، نشهد فيه مظاهر التفكك والتشرذم، والذي بدأ بانفصال الجنوب، مثلما نشهد إستيطان الحرب الأهلية ونتائجها المدمرة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.
صحيح أن القوى السياسية والاجتماعية السودانية تختلف رؤاها لتحقيق مشروع إعادة بناء الدولة السودانية، فهنالك من يسعى لذلك وفق مرجعية دينية إسلامية، وآخرون من منطلق مشروع التنمية الرأسمالي، وهناك من يطرح البرنامج الوطني الديمقراطي، والذي تلتقي فيه شعارات قوى اليسار السوداني مع شعارات وبرامج العديد من القوى التي تناضل من أجل تغيير جذري في البلاد لصالح المجموعات أو القوميات التي تعبر عنها، مثل حركات دارفور وحركات الشرق..الخ. لكن، من الضروري جدا الإشارة إلى أنه خلال مسيرة الصراع السياسي والإجتماعي والإثني في السودان، أصبحت كل القوى السياسية والحركات الإجتماعية، ماعدا تلك المجموعات المستمسكة بمرجعيتها الدينية، تطرح العدالة في المشاركة في السلطة وفي توزيع الموارد وإقتسام الثروة، وتطرح الديمقراطية المرتبطة بلقمة العيش أو ذات المضمون الإجتماعي، كما تتحدث عن إدارة البلاد وفق صيغة أو معادلة تعكس التنوع والتعدد في إطار الوحدة. والدعوة لإعادة بناء الدولة الوطنية السودانية، تلقي بواجبات وتحديات ضخمة في جبهات عديدة، في صدارتها خلق وحدة حقيقية لما تبقى من السودان، ورتق نسيج المجتمع السوداني، وكل ذلك على قاعدة التنوع والتعدد الإثني والثقافي والديني واللغوي…الخ. إن تأسيس الدولة الوطنية السودانية ما زال هدفا ينتظر التحقيق منذ الإستقلال، وهو هدف مشترك يجمع كل القوى السياسية والإجتماعية، ومن هنا دعواتنا المتكررة حول المؤتمر القومي الدستوري، ومشروع الإجماع الوطني، فبناء الوطن أكثر تعقيدا من أن يتم وفق وجهة نظر طرف واحد، أو أيديولوجية بعينها.
وكما أسلفنا في عدة مقالات سابقة، نحن ننطلق من فرضية رئيسية، ومن المؤكد يشاركنا فيها الكثيرون، تقوم على أن الصراعات الدائرة اليوم في السودان، سواء ذلك الصراع الممتد على مساحة الوطن بين حكومة الإنقاذ ومعارضيها، أو الصراعات و«التمردات» التي تدو رحاها في هذا الإقليم أو ذاك، وما تفرزه من حروب أهلية في البلاد..، هي ليست مجرد صراعات حول السلطة بين المعارضة والحكومة تنتهي بإسقاط النظام، كما لا يمكن حصرها في أنها معركة بين الحكومة المركزية والحركات المسلحة في الأطراف، مثلما لا يمكن توهم حلها بمجرد وقف القتال بين المتحاربين، أو بمجرد توقيع القوى المختلفة على ميثاق سلام شامل، فضلا عن أنها لم تحسم ولم تنته بانفصال الجنوب. كل هذه الصراعات، ترتبط، بهذا الشكل أو ذاك، بغياب المشروع القومي، منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم، الذي يتصدى للمهام التأسيسية لبناء الدولة الوطنية الحديثة.
هذا هو جوهر الأزمة الوطنية في السودان. ومن هنا، فإن أي مشروع للتغيير في واقع البلاد الحالي لا يخاطب هذا الجوهر، ولا يهز، في نفس الوقت، البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي الراهن، سيظل مشوها وناقصا، ويحمل في طياته إمكانية الانتكاسة، موفرا الوقود اللازم لاستمرار الحلقة الشريرة. ومن الواضح أن أي مشروع لانتشال الوطن من الهاوية، والنهوض به للحاق بركب الحضارة والتقدم نحو بناء الدولة الوطنية السودانية الحديثة، يتطلب ويشترط تنفيذ عملية ذات ثلاث مراحل متداخلة ومتشابكة: وقف الانحدار نحو الكارثة، والسعي لإصلاح الحال، ثم الانطلاق لتحقيق مشروع البناء. هذه العملية بمثابة مهمة تاريخية، ومن غير الممكن أن ينجزها فصيل أو فصيلان، بقدر ما هي مهمة الشعب بأسره. صحيح أن حجمها وما يواجهها من تحديات، كفيلان بإشاعة الإحباط، وربما اليأس، لدى أكثر الناس همة وحماسا. لكن، البديل لهذه المهمة التاريخية هو الانزلاق إلى هاوية الهمجية المرعبة، حيث التفتت والدمار الشامل. وعموما، قد يكون الإحباط في حد ذاته حافزا للإرادة، إرادة العمل من أجل وقف الانحدار نحو الكارثة.
لكن، هذه الفرضية الرئيسية حول جوهر الأزمة السودانية لا تعني تجاوز، أو القفز فوق، الصراع الآني المتفجر بين مجموعة الإنقاذ الجاثمة على صدر هذه البلاد بقوة الحديد والنار قرابة نصف فترة الاستقلال، والتي ترفض الاعتراف بالفشل، والجماهير التي تطالب بأبسط حقوقها، وعلى رأسها حقوق المواطنة والعيش بحرية وكرامة.
فبالنظر إلى إنحدار البلاد نحو الكارثة، حيث الدمار والخراب طال كل شيء، على المستوى المادي المحسوس ومستوى القيم، من جراء سياسات وممارسات نظام الإنقاذ، فإن التصدي لعلاج الأزمة السودانية، أزمة بناء الدولة الوطنية، يبدأ بالتغيير وذهاب هذا النظام.
وعموما، فإن التاريخ البشري أثبت، بما لا يدع مجالا للشك، إن أي مشروع يدعي امتلاكه لمقومات قيادة عملية النهضة الحضارية، وفي نفس الوقت يقوم على تطوير أدوات قمع وسحق الآخر، لا يمكن أن يكون مصيره إلا الزوال.