أدناه مقتطفات مطولة من وثيقة أمنية رسمية، تتحدث عما يسمى بـ(موجهات التحطيم المعنوي)! وتكتسب هذه الوثيقة أهميتها من عدة نواح- من أهمية الموضوع، حيث، وكما يرد لاحقاً، فان التحطيم المعنوي يهدف الى شل عزيمة المستهدََفين، مما يجعل جهاز الأمن يقتصد في استخدام الإجراءات (العملياتية) الأخرى ، كالاعتقال والمحاكمات والتعذيب، او القتل، كملاذ أخير(!).. أو غيرها من الإجراءات التي ربما تستثير الرأي العام ومنظمات حقوق الانسان، وبالتالي فان سياسة تحطيم المعنويات لهي السياسة الأكثر استخداما وخطورة وثباتاً واستمرارية!
* كما تنبع أهميتها من كونها وثيقة رسمية، صيغت بصورة رسمية، وننشر كلماتها حرفياً، فلم نصل الى محتوياتها من تعميم الملاحظات او عبر الاستنتاجات! وكذلك فإنها تصف بدقة طرائق وممارسة أجهزة الأمن في النظم الشمولية، وبالتالي، والأهم، أنها تصف أوضاعنا حالياً في السودان، ومدى ما وصل إليه تخريب الحياة السياسية والمدنية.
* تسمى الوثيقة (موجهات التحطيم المعنوي) وتعرِّف هذه السياسة بالآتي:( تهدف اجراءات تحطيم المعنويات الى اشعال والاستفادة من التناقضات والاختلافات بين القوى ذات التوجهات السلبية المعادية، وعبر هذه الإجراءات يتم تقسيم تلك القوى وتخريب صفوفها، وعزلها، بحيث ان انشطتها المعادية، إما يتم عكسها أو تقييدها أو وقفها بالكامل.
ويمكن توجيه إجراءات تحطيم المعنويات ضد المجموعات والتجمعات والمنظمات، كما يمكن توجيهها نحو الأفراد. وتستخدم كإجراءات مستقلة نسبياً، ضمن إجراءات الحسم النهائية، في الإجراءات العملياتية، أو في ارتباط مع الأنواع الأخرى من أنواع إجراءات الحسم..
ويجب إستخدام إجراءات التحطيم المعنوي، تحديداً، حين تنهض دلائل على جريمة ضد الدولة، أو أية جريمة أخرى، ضمن عملية متابعة عملياتية، ولكن يكون الأفضل، لأسباب سياسية، أو سياسية عملياتية، بحسب تقديرات تحقيق منفعة اجتماعية أعظم، يكون الأفضل ألا تحول هذه الإجراءات الى نيابة الجرائم..)
* ثم تنص الوثيقة على أهم أساليب تحطيم المعنويات (المجربة)، التي يجب استخدامها:
( التشويه المنظم لسمعة (المستهدفين)، ولمكانتهم واحترامهم وتقديرهم، ولمقامهم الاجتماعي، وذلك على أساس حقائق ومعلومات مشينة متحقق منها، يتم ربطها مع بعضها البعض، وكذلك على أساس أكاذيب، ولكن الأكاذيب التي يمكن تصديقها ويصعب التحقق منها، وبالتالي تستخدم بنفس القدر كمعلومات مشينة.
* التخطيط المنظم لفشل “المستهدفين” مهنياً واجتماعياً، بهدف تحطيم ثقتهم في أنفسهم.
* الإضعاف الممنهج لقناعات المستهدفين، خصوصاً، في علاقة القناعات مع المبادئ، والاشخاص القدوة، وخلق شكوك لدى الأفراد حول تصوراتهم ومنظوراتهم.
* خلق مناخ من عدم الثقة والشكوك المتبادلة داخل المجموعات والتجمعات والمنظمات.
* خلق وتقوية واستخدام الخصومات داخل المجموعات والتجمعات والمنظمات، وذلك عبر الاستخدام المخطط لنقاط الضعف الشخصية لدى الأفراد.
* اشغال المجموعات والتجمعات والمنظمات بصورة كاملة بقضاياها (الداخلية مع نفسها)، بهدف تقييد أنشطتها المعادية السلبية.
* وضع قيود تتعلق بالزمان والمكان والعلاقات المتبادلة بين الأفراد، وبذلك بإستخدام إجراءات قانونية صحيحة، كمثل تحديد مكان العمل، أو التكليف بمهام عمل في مناطق بعيدة.. الخ) انتهت المقتطفات.
* والوثيقة المنشورة أعلاه، من وثائق جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية إبان سيادة النظام الشمولي – وقد بلورت كسياسة عملية للجهاز في عام1976م، ونشرت ضمن وثائقه التي تم فتحها للجمهور والباحثين بعد سقوط النظام أوائل التسعينيات. وقد صدرت في سلسلة منشورات (المفوضية الألمانية الاتحادية لوثائق جهاز أمن الدولة) في كتاب يحمل عنوان:(جهاز أمن الدولة في ألمانيا (GDR): درع وسيف الحزب)، من إعداد (جينس جيسيكي)، برلين2006م، بالانجليزية ص48. وقمت شخصياً بترجمة الوثيقة من الانجليزية الى العربية، وقد رأيت تأخير ذكر مصدر الوثيقة، حتى يتأمل القارئ في حقيقة انها لا تتعلق بألمانيا الشمولية وحدها، وانما بكل الشموليات، بما فيها وعلى وجه الأخص، أوضاع السودان حالياً، وهذا طبيعي، فسواء شرقاً او غرباً، يميناً او يساراً فان الشمولية واحدة، ربما تختلف في شعاراتها، ولكنها في الجوهر واحدة – ذات المؤسسات، وذات الأساليب، وبالتالي ذات النهايات!
* وأبرز ما يميز النظم الشمولية تمدد وشمول الوظيفة الأمنية لكافة مناحي الحياة – الفكرية والسياسية والاجتماعية.. الخ- ذلك ان الشمولية انما تهدف الى صوغ كافة مناحي الحياة بصورة شاملة وعلى اساس رؤية الحزب الشمولي، وجهاز الأمن في هذا الإطار انما (درع وسيف) هذا الحزب الشمولي! فيتمدد ليلامس كل شرايين المجتمع، ولأنه يتمدد من أجل (السيطرة والتحكم) او (اعادة الصياغة) فانه يمتص ما في شرايين المجتمع من قدرة على المبادرة والاستقلالية اي يمتص ما فيها من رواء ودماء وعافية! وهكذا كلما انتصر جهاز الامن الشمولي في تحقيق مهامه كلما انهزم المجتمع، وفي النهاية, يتحول المجتمع الى غابة من الأفراد المعزولين عن بعضهم لا يعنون ببعضهم البعض ، ولايثقون في بعضهم البعض! أفراد كالذرات المنفصلة , بلا روابط قيمية أو أخلاقية أو اجتماعية، وبلا قيادات أو رموز – فالجميع يتم تشويه سمعتهم , وبالتالي ينتج أفراد خائفون أذلاء، يبحثون عن سلامتهم الشخصية بكل ثمن، حتى ولو بخيانة قيمهم وجماعاتهم وأهاليهم، بل وأسرهم! (في ارشيف جهاز أمن الدولة الالماني كثير من الوقائع المذهلة والمحزنة عن أفراد من الأسرة الواحدة يبلغون عن اقربائهم!) ومع كل ذلك فان النظام الشمولي ينهار في النهاية! لأنه ضد طبائع الأشياء وضد اتجاه التاريخ! ولكنه ينهار بعد ان يحطم كل أعمدة المجتمع – من استقامة ونزاهة وتضامن وروابط قيمية وقدوة أخلاقية! ولذا فانه لايكلف المجتمعات حاضرها وحسب، وانما كذلك مستقبلها, على المديين القصير والمتوسط! ذلك أنه وبمجرد انهيار الروابط الشمولية البرانية تخرج من أقفاصها الوحوش الباطنية التي خلقتها الشمولية، ، لتبدأ حرب الكل ضد الكل، تماماً كما في الغابة، بلا روابط اجتماعية أو إنسانية، وانما بأقماط ما قبل الانسانية- أقماط القطيع- العرق و القبلية و الطائفية- فتدور طاحونة العنف والدماء الى ان ترهق الأطراف جميعاًّ. هذا ما حدث في يوغسلافيا السابقة، وفي الصومال، والعراق، بعد انهيار نظمها الشمولية! وشبيه كذلك بما حدث في التجارب الاخرى, حين تفسخ النسيج الاجتماعي وتهرأت الروح المعنوية للمجتمعات، فانهارت البلدان امام الاعداء الخارجيين، كما في ألمانيا وايطاليا- الفاشيتين- ومصر الناصرية! وحتى في الاتحاد السوفيتي (العظيم)، كانت (ثمرة) النظام الشمولي – رغم إختلاف جذوره الاجتماعية وبالتالي تحقيقه انجازات اجتماعية واضحة لصالح الغالبية – كانت ثمرته تمزيق الاتحاد السوفيتي الى عدة دويلات!
وهكذا فالأنظمة الشمولية بهزيمتها لمجتمعاتها تمضي بهذه المجتمعات إما الى الفوضي أو التمزق أو الإحتلال الأجنبي! والاستثناء الوحيد المانيا الشرقية- بحكم وضعها الاستثنائي- فقد كانت متجانسة قومياً، و وجدت مساندة استثنائية من الشطر الغربي الديمقراطي، والذي يحاددها كجار ، في وضع استثنائي! واما أسوأ الكوارث الانسانية فقد حدثت في البلدان المتعددة عرقياً وقبلياً- كما في البلقان والصومال والعراق- فلا تزال بعد سنوات- من سقوط الانظمة الشمولية، طواحين القتل تدور على أساس الهوية! والسودان كما لايخفى – بتعدده الديني والثقافي والقبلي- يحتاج الى أكثر من معجزة، كي لا ينزلق الى الفوضى والخراب الشامل!
* ولا تغرن أحد قوة أجهزة الأمن في النظم الشمولية- فهي قوة على حساب المجتمع، ضد قواعد الإجتماع البشري ، وضد اتجاه التاريخ، ولذا فإنها ومهما عتت فإلى زوال، ولكن زوال بأكلاف باهظة الأثمان. خذ كمثال جهاز أمن الدولة- صاحب الوثيقة المنشورة نفسه- كانت قائمة المرتبات للعاملين بدوام كامل به تضم91.015 عنصر اي انه بالنسبة لكل الف مواطن هناك 5.5 يعملون في جهاز الأمن! وله كذلك175 الف مصدر (بغير دوام كامل) اي (أمن شعبي)، وهؤلاء يفتحون عيونهم وآذانهم لكل ما يجري من حولهم ويسارعون الى التبليغ عنه، إضافة الى قيامهم بالمهام التي توكل اليهم ووضع منازلهم تحت تصرف جهاز الأمن كبيوت آمنة!.. فاذا جمعت العاملين زائدا مصادر (الأمن الشعبي) فان العاملين والمتعاونين يصلون الى 266 الف عنصر! فاذا حذفت الأطفال والعجزة من تعداد المواطنين فالنتيجة انه بالنسبة لكل الف راشد وفاعل من المواطنين كان هناك حوالي 30 عنصر أمن ومتعاوناً! ومع ذلك حين أزفت الآزفة انهار النظام الشمولي كبناء الكرتون! ولكن ألمانيا، محظوظة، واستثنائية، وأما في البلدان الأخرى، فقد ظلت الدماء (تبقبق) لسنوات وسنوات.. ألا فليحفظ الله السودان!