17 مايو 2019
المفارقة الأخلاقية بين الجيش والمليشيات وتمثيلها فيما جري بميدان الاعتصام
بقلم د. سعاد مصطفي الحاج موسي
يسمي الجيش في أية دولة بالقوات المسلحة والتي تتكون بشكل أساسي من القوات البرية وفروعها التي تشمل المشاة والمدرعات والمدفعية والطيران والمهندسين العسكريين واتصالات عسكرية وامدادات والدفاع الجوي. ويتمحور عمل هذه القوات في البر والبحر والجو الأمر الذي يفصلها الي وحدات منها الجيش كوحدة عسكرية والقوات البحرية والجوية وحرس الحدود. والمهمة الأساسية للجيش هي حماية الدولة من الاعتداء الخارجي والمحافظة على حدودها البرية ومياهها الإقليمية إن وجدت، ومجالها الجوي. ولكن أحيانا قد يتدخل الجيش في الساحة المدنية وذلك في حال فشل أجهزة الأمن المدنية في أداء دورها في الحفاظ علي السلام والأمن الداخلي.
غالباً ما تتكامل الوحدات العسكرية في تنفيذ مهامها حين تدعو الحاجة الي أن تهب الي مساندة الجيش الوحدات الاخري، أي سلاح البحرية وسلاح الجو وكذلك الأجهزة العسكرية الاخري، كما شهدنا داخلياً في الحروبات التي شنت فيها حكومة الانقاذ حرباً برية بواسطة قوات الجيش والمشاة في دارفور، والتي أُستُهِلّت بغزو منطقة طويلة براً عام 2004 مدعومة بالطيران الحربي التي قامت بقصف وحرق آلاف القري والمدنيين العزل بالقنابل وبراميل المسامير الحارقة والمتفجرات وردمت الآبار والحفائر التي يشرب منها الانسان والحيوان وقضت علي الزرع والضرع وعلي كل أخضر ويابس في أرياف دارفور. تلكم العمليات التي دعت الحركات المسلحة حينها لمهاجمة مطار الفاشر واحراق طائرات الأنتنوف الحربية والروسية الصنع التي كانت تقلع منه لضرب القري والمواطنين، وقد قامت برصد وتصوير تلك الضربات الجوية الفظة قنوات أجنبية خاصة وبثتها في عدد من القنوات التلفزيونية منها BBC البريطانية ليشاهدها كل الناس. وقبلها ما حدث في جنوب السودان وإن لم نشاهدها صوراً حية لعدم توفر وسائل التكنولوجيا المتاحة حاليا وقتها، أعقبتها جبال النوبة حيث رأينا كيف هرب المواطنون من الأطفال والنساء وكبار السن الي الجبال واحتموا بكهوفها ومغاراتها المظلمة والمرعبة. أما سلاح البحرية فلم يُكْتَب لها المشاركة الفاعلة في هذه الحروب لبعد أماكن الصراع من البحر السوداني ولكنا رأينا كيف تكامل سلاح البحرية الأمريكية مع وحدات الجيش الاخري في العراق وليبيا وما يدور من صراع الآن في الخليج بين ايران وأمريكا حيث أرسلت الأخيرة اسطولاً بحرياً الي الخليج ترقباً واستعداداً لصد أية تحركات قد تبدر من ايران التي هددت، عقب العقوبات الأمريكية، بضرب أهداف أمريكية واسرائيلية اذا تعرضت لهجوم من خصيمتها.
ذلك ما كان من أمر الجيش، أما المليشيات فقد عُرِفَت بأنها مجموعة من القوات الأهلية الغير محترفة والتي عادةً تتكون من مجموعة متطوعين يقومون بمساعدة الجنود المحترفين ويتم عادة استخدامهم من قبل المؤسسة العسكرية لسد النقص، اذا ما حدث، في القوات العسكرية الرسمية، وقد يتم تدريبهم بالحد الذي يمكنهم من أداء واجب المعونة ولكن لا يرقي الي مستوي الكلية الحربية التي يتخرج منها القادة العسكريين، ولا يقارب التدريبات العسكرية التي يتلقاها الجنود في معسكرات التدريب الخاصة بجنود القوات المسلحة، اي الجنود المستجدين. هؤلاء الجنود المتطوعين يتم الاستعانة بهم للمساعدة في حالات الطوارئ من حرائق وفيضانات وسيول وبراكين وغيرها، أي انها مليشيات شبه وطنية خيرية ولذا لا توجد الا في الدول المتقدمة والديمقراطية. ومن ضمن منظومة المليشيات تلك التي تشبه العصابات والتي تستخدم عادة في الحروب غير النظامية، مثل الصراعات الأهلية والحروبات القبلية والصراعات التي تهدف لتقويض سلطة حاكمة أو نفوذ لمجموعة غير مرغوب فيها، وهي قد تتبع لمجموعات أو أُسر أو أفراد. وتعتمد أساليب هذه المجموعات علي استراتيجية حرب العصابات التي ترتكز علي خوض اشتباكات صغيرة والإغارة والكماين والكر والفر.
أهم ما يميز المليشيات العصاباتية، ومنها كالتي استنفرتها ونظمتها ,وسلحتها ساسة الانقاذ في السودان، والتي لوحظ تواجد الكثير من منسوبيها حول وداخل مواقع الاعتصام، هو عدم التزامها أخلاقيا بحقوق الانسان واحترامها لها لأنها تقوم أصلا علي مبدأ الولاء للقائد وعقيدته التي تهدف الي سحق الخصم/العدو وازهاق روحه أو شل حركته دون رأفة أو شفقة ومنها التمثيل بجثته اذا أمكن. ولنا في ذلك الكتير من الوقائع التي يشيب لها الولدان عما ارتكبته وحدات من هذه المجموعات في دارفور من ذبح وبقر للبطون وشق للصدور وقطع لأثداء النساء المرضعات وقتل الرضع الذكور ورميهم أحياء في مياه مغلية كما حكاها الكثيرون من من شهد تلك الأحداث الدامية، سلوكيات ليست أقل فظاظة عن تلك التي مورست خلال المجزرة التي طالت الدينكا بالضعين في فترة الديمقراطية في 28 مارس 1987 عندما أُحرِق الناس داخل عربات القطار وبُقِرت بطون الحوامل من النساء وطُعِن الأطفال بالرماح الملتهبة وأُلقي بعضهم في أًتون النار المتقدة (راجع: في ذكرى ضحايا مذبحة الضعين .. بقلم: د. عشاري أحمد محمود خليل، (sudanile.com!
لذا فأفراد تلك المليشيات لا يعرفون الرأفة أو الوطنية ومنهم من يجهل معني أن تحمي من لا يمت لك بصلة اسرية أو قبلية أو عشائرية أو عقائدية. فالأسير في عقيدتهم يجب قتله ولذا استغلتهم الانقاذ كما أبان ذلك الفيديو الذي بثته قناة الجزيرة في ابريل 2012 حيث شاهد الناس وسمعوا حاكم جنوب ولاية كردفان وقتها أحمد هارون، والذي هو خارج منظومة القوات المسلحة، وهو يوجه الجنود المليشنجية بقوله “أمسح، أكسح، قشو، ما تجيبو حي،” في تعدٍ صارخ لمهنية القوات المسلحة والإساءة إليهم تمثيلا وتوجيهاً. فتلك المجموعات قد اختارت واعتادت علي أن تقتات من رماحها وليس بسبب قضية أرض أو وطن يؤمنون بها ويستميتون من أجلها، ولذا لا يتورعون عن قتل النساء والأطفال والضعفاء وانتهاك حرمات المجتمع وهم في ذلك يستمتعون بتلك الأفعال المنكرة ويرقصون ويبتهجون علي صرخات المعذبين وأصوات استغاثتهم وأنينهم. ذلك الاستعداد الوحشي لارتكاب الفظاعات والمقرونة بالرعونة والجهل، هو أيضاً ما دعا الانقاذ الي استنفار مليشيا الجنجويد وأجازت لهم استباحة الأرض والعرض في دارفور والجنوب وجبال النوبة ومنحتهم الحصانة من المسائلة والمحاكمة. لأن ما يمكن أن ترتكبه هذه المجموعات من وحشية، قد يتعفف من ارتكابها أفراد الجيش بحكم وعيهم والتزامهم الأدبي بأخلاقيات المهنة، بالرغم من أن لكل قاعدة شواذ!
ما أظهرته أحداث الثالث عشر من مايو 2019 بساحة الاعتصام، وموارد التهلكة التي أوردها الفاعلون علي الثوار ضرباً بالرصاص بنية ابادتهم، ما هو إلاّ عرضٌ صريح وفاضح للمفارقة الأخلاقية بين التنظيم الرسمي للمؤسسة العسكرية ومنظومة المليشيات الغير مؤهلة أخلاقياً ولا وطنياً والتي لا تتورع عن القتل بالنفس البارد عندما تتواجد في ساحة لتجمع مواطنين، لا يهم إن كان سوق، مجمع تجاري أو مستشفي، ناهيك عن أن يكون مكان اعتصام عام يعج بالثورة ويغلف سماءه هتافات ونداءآت الثوار الذين هم أساساً الهدف والغرض من وجود تلك المليشيات في تلك الرقعة. ولذلك لا يستطيع أفراد المليشيا، أي كانت تسميتها، استيعاب معني أن تكون ثورياً لأنهم لا يستوعبون معني أن تكون جندياً وطنياً، ولا غرابة فقد غُسِلت أدمغتهم فلم يعودوا قادرين علي التمييز بين الخطأ والصواب، وما يجوز وما لا يجوز في حق الوطن والمواطنين لذا فهم لا يجيدون الاّ القتل والعنف لأنهم قد طُبِعوا عليها وشُرٍعَت لهم ما لا يجوز من الوسائل لتحقيق أهداف قادتهم واخضاع ما يرونه عدوا لهم، ولا يرون في ذلك الاّ دوراً بطولياً يستحقون عليه وسام الشجاعة والاقدام ويتسابقون لنيله، خاصة صغار السن منهم! كمية الذخيرة التي ضُرِبت في تلك الليلة الظلماء وطريقة افراغها التي تدلل علي الشغف والمتعة النفسية والابتهاج، كان برهاناً سافراً علي حالة سَعَر ووحشية لاسالة الدماء، ومثل هذه الروح اذا أُطلق لها العنان مرةً اخري، فإنها قد لا تُبقي ولا تذر.
ولكن دعونا نري كيف علل المعللون هذه الحادثة التي أُلصقت في البداية بالحركات ولكن سرعان من سُحبت التهمة (الصلبتة) لعدم اتساقها مع الأحداث (فما مصلحة الحركات في ضرب الثوار الذين يطالبون بمثل ما ظلوا هم أنفسهم يناضلون من أجله منذ قرابة العقدين من الزمان؟) ليجري البحث عن شماعة اخري دون التجاسر علي تسمية مليشيات الظل التي هدد وأوعد بعض قادتها نهاراً جهاراً عن استعدادها لحماية الانقاذ بأرواحهم. هؤلاء الثوار وعموم الشعب السوداني قد اجتاز سياج التجهيل والاستغفال الذي شيدته الانقاذ لسجنهم، ودخلوا الي ساحة العقل والعقلانية والاستنارة الوطنية، فرشوا دفاترهم وأقلامهم ورسموا طريقهم وحدودهم وصمموا وسيلة نقلهم الي وطن الحرية والسلام والعدالة، والتي يصعب محوها برصاصات وقنابل متصدئة بوحل من خيبة مستجلبيها فنجدها مهما قتلت وأصابت من أجسام وحصدت من أرواح، فلن تستطيع اصابة العقل والايمان بالقضية وروح نضالها في مقتل. وجود أفراد من القوات المسلحة داخل الاعتصام هي تأشيرة اطمئنان بوجود مؤسسة الجنود الوطنية بجانب الثوار كما يأمل ويثق فيها أبناء الشعب السوداني. لذا اذا أراد الشعب لثورته أن تنتصر ولأبنائه أن يعيشوا في سلام وأمان، فعليه أن يستنجد بالقوات المسلحة فقط ولا غير، أي بالجيش أولا وثانياً وعاشراً، وعلي القوات المسلحة أن تهب الي نجدة شعبها ووطنها بكل الأخلاقية التي تعلموها في الكلية الحربية ومراكز تدريب الجنود، والتزموا بها، والتي صقلتها تجاربهم الوطنية والعملية، ودعمتها ما تربوا عليها من أخلاق في بيوت وحيشان الاسر ومدارس الوطن وشوارعه وساحاته ومحطاته واسواقه ومزارعه ومصانعه في مدنه وقراه وكل شبرٍ فيه. أما المليشات بكل أنواعها فيجب أن تبعد أولا ثم تستبعد من المنظومة العسكرية، أو تدمج في القوات المسلحة بعد اخضاعها الي عملية مكثفة تُعني بالصحة العقلية، وإلاّ ستقصم ظهر بعير وطننا وناقته علي السواء!
سعاد مصطفي
[email protected]