المركز والنظرية التخوفية من أبناء دارفور
٭ منذ أن عرف السودان عرفت معه دارفور بكل ايجابياتها وسلبياتها، وما حكم احد السودان إلا وكانت عينه على دارفور، اما ان تكون تابعة له ولكنها تابع ثقيل مضن قاسٍ على المسير، وإما أن تكون خارج سلطته وليست بالجار هادئ الطبع، وإنما جار شرس يقتنص الفرص حتى ينقض. لذلك أحياناً يتبع المركز مع دارفور سياسة شد الحبل حتى ينقطع، وكل شواهد التاريخ تشير الى هذا السياق، ففي الحكم التركي الذي لم يستطع السيطرة على دارفور بعد استعماره السودان الوسط، ظل يتربص بها وظل الدارفوريون يتربصون به لاستخلاص اخوتهم السودانيين من براثن الاستعمار، وظلت الحروب سجالا بين الاتراك والدارفوريين حتى أخضعهم الاتراك بعد ثلاثة وخمسين عاماً من الصراع، ولكن لم ينعم الاتراك بحكم دارفور إلا سبع سنوات قامت بعدها الثورة المهدية عام 1881م ليكون الجنود الدارفوريين وقوداً لها مع الوطنيين السودانيين، لينهزم الاتراك. ولما آتت الفرصة للدارفوريين لم يضيعوها، فكان حكم الخليفة عبد الله التعايشي الذي وصم بحكم الغرب، ولا زالت المذكرات التاريخية تتوالى حوله أهو حكم المهدية؟ أم حكم الغرب؟ ام حكم الدارفوريين؟ ام حكم التعايشة أم حكم الجبارات، وهو البطن الذي ينتمي اليه الخليفة في داخل قبيلة التعايشة.
ولما دان الحكم للانجليز الذي عرف بالحكم الثنائي في الفترة 1898وحتى 1965م، كان علي دينار ممثله في دارفور، ولكن علي دينار وبعد خمسة عشر عاماً من حكم دارفور الذي كان بعيداً عن الانجليز، رأى ان يعيد ملك اجداده، ومن ثم يزحف كما زحف جده السلطان تيراب الذي مضى في حروبه مع المركز حتى غزا ام درمان وهزم العبدلاب في الحلفاية، ولم يكتف بذلك حتى وصل شندي. فما المانع في أن يكرر علي دينار المنوال، فأعلن الاستقلال وخرج عن الطوع، بل اتحد مع السلطان عبد الحميد في الاستانة الذي كان في تنسيق مع المانيا في ما سمي بدول المحور ضد الحلفاء الذين تتزعمهم بريطانيا. ففكر علي دينار في السيطرة على الخرطوم، ولكن الانجليز كانوا له بالمرصاد، فغزوا الفاشر وانهوا حكم سلاطين الفور الذي امتد من 1405م وحتى 1916م، حيث قتل السلطان علي دينار على يد القائد البريطاني هدلستون في واقعة برنجية، وانتهى حكم الفور الى يومنا هذا.
ولكن لم يهنأ الانجليز بدارفور، فقد قامت الثورات تلو الثورات والحركات المناهضة، بدءاً من ثورة الفكي سنين بكبكابية التي شنها على السلطان علي دينار والحكم الثنائى في آن واحد، واعقبتها ثورة الفكي السحيني في 1921 بنيالا، مروراً بالانتفاضات وهروب المساليت وحرق العلم البريطاني في مسيرات صاخبة ضد الاستعمار عام 1948م. وهكذا حتى نال السودانيون الاستقلال باقتراح قدمه أحد أبناء دارفور، وهو الامير عبد الرحمن دبكة ابن الناظر عيسى دبكة ناظر البني هلبة.
ولما جاء الحكم الوطني كانت النظرية التخوفية التي تجيء دائماً بشخص ليس من أبناء دارفور لتحكم الاقليم. والنظرية التخوفية فن من فنون الحكم، فجاء ابو سن حاكماً لإقليم دارفور في السنوات الاولى لاستقلال السودان، ثم خلفه أحمد مكي عبده، ثم عثمان محمد حسين فالطيب المرضي، وكلهم من خارج الاقليم، ولما كلف أحمد إبراهيم دريج عام 1981 وهو اول حاكم من أبناء دارفور بحكم دارفور منذ سقوط علي دينار عام 1916، لم تكن حياته لبناً على عسل مع حكام مايو، وظلت الحالة السياسية بين دارفور والمركز في شد وجذب، فما أن يقرر دريج شيئاً إلا وتجهضه بطانة نميري تحسباً للنظرية التخوفية التي تعشش في ذهن المركز، حتى خرج دريج من السودان عام 1948م تاركاً حكومة كاملة في دارفور، وتعتبر ايضاً حكومة منتخبة بما فيها حاكمها دريج، إذ دخل في منافسة حقيقية رغم أنها في اطار الاتحاد الاشتراكي، ولكن منافسة صادقة مع عناصر أخرى في إطار الخلاف الايديولوجي في ذلك الوقت. فترك دريج كل هذه المقومات فاراً بجلده لا لسبب غير الإمعان في النظرية التخوفية التي زرعها التاريخ في ذهن المركز. وحتى في إطار النظام الديمقراطي لم تبارح تلك النظرية مكانها، فقد حكى لي احد الإخوة من دارفور وهو قريب جداً من القيادة الليبية، قال ان هناك مشاريع جئت بها من العقيد القذافي لدارفور من ضمنها طريق الكفرة الفاشر، وكان المرحوم د. عبد النبي علي أحمد حكماً على الاقليم، وما أن شرعنا في مناقشة هذه المشاريع، حتى جاءت شخصية مركزية قريبة جداً من حكومة السيد الصادق المهدي للفاشر وألغت كل هذه المشاريع بجرة قلم، دون ادنى مسوغ أو مبرر، ولا يعني ذلك إلا إمعاناً في تطبيق النظرية التخوفية. وفي عهد الانقاذ توالدت هذه النظرية التي قضت تماماً على مشروع طريق الغرب، بل بددت الاموال الخاصة بالطريق التي جلبت من حر اموال الدارفوريين. والأسوأ أن هذه الاموال بددت بأيدي أبناء دارفور بالتآمر مع المركز، بدليل ان د. علي الحاج وهو من ابناء دارفور، يقول «الحكومة عارفة هذه الاموال مشت وين»، واتحدى ان يحاكمونني، ولما سُئل اين ذهبت هذه الاموال، قال قولته المشهورة (خلوها مستورة)، والحكومة من جانبها قالت شكونا الذين أكلوا اموال طريق الانقاذ الغربي لله. فهل نصدق هذا؟!
كل هذه الفذلكة التاريخية التي سردتها، اردت بها ان اصل للخلاف الاخير الذي دار بين د. عبد الحميد موسى كاشا والي ولاية جنوب كردفان ووزارة الخارجية، والقصة خلاصتها ان الوالي عبد الحميد طرد بعض المنظمات التي رأى أنها منظمات مشبوهة، فقام موظف صغير في وزارة الخارجية بتوبيخ الوالي عبد الحميد، ولا ينتابني ادنى شك ان النظرية التخوفية لا زالت تلاحق أبناء دارفور، بمعنى لا تجعلوا عيونكم تغيب لحظة عن ممارسات حكام دارفور من أبناء دارفور، والقصة أشبه بسباق الخيل، فإذا كان هناك حصان سريع فالنظرية تقول على الخيل الاخرى ان تضايقه حتى لا ينفرد بالميدان، واذا ما انفرد فلا حصان آخر يمكن أن يلحق به.
عبد الحميد كاشا والي (وكمان منتخب) ويعتبر نائباً لرئيس الجمهورية في ولايته، كيف يوبخه موظف بأقل من درجة وكيل وزارة لولا هندسة المشاغلة الجانبية لتصرفه عن الأداء المطلوب حتى لا يفكر كأسلافه القدامى، وهذا خطأ واضح فضح النظرية بأسرها لأنهم لم يجيدوا الحبكة، فعبد الحميد طرد المنظمات المشبوهة في نظره من ولايته وليس من السودان، كما أن الرئيس نفسه أعلن صراحة امام الدستوريين من أبناء دارفور عندما كرموه أخيراً في قاعة الصداقة، أنهم مخولون بطرد أية منظمة مشبوهة. فكيف بهذا الموظف ينتقد هذا الوالي جهاراً نهاراً، مما يضطر الوالى لرد الصاع صاعين، ويعلن شكواه ضد وزارة الخارجية. ومن العجب تتوسط امانة المنظمات في المؤتمر الوطني بين الفريقين، قولوا لي بربكم ما دخل حزب في خلاف بين أجهزة الحكومة، إلا أن تكون الحكومة هى الحزب والحزب هو الحكومة (أنا الدولة والدولة أنا). وما يهمني في كل هذا تطبيقات النظرية التخوفية التي من المفترض ان تجعل حاكم دارفور مشتت الذهن مرعوباً من المركز، حتى لا يفكر في حاجة ثانية، طبعاً أخوينا ابراهيم يحيى طبقت فيه نفس النظرية عندما حاول أن (يفرفر)، ولم لا وهو سليل سلاطين دار مساليت، فتُرك جانباً وهو حاكم وجيء بالفريق الدابي ليؤدي الرسالة. فما كان من أخينا ابراهيم يحيى إلا أن التحق بالتمرد ليشفي غليله، ولا شك أن التمردين وتحسباً من التطويق الناعم بالثوب الحريري ثوب السلطة، كما فعل بأشياعهم من قبل، ذهبوا بعيداً ونسجوا خيوط مؤامرتهم بعيداً عن المركز ليصنعوا قنبلتهم التي انفجرت قبل اوانها لتحرق الاخضر واليابس وتقطع النسل، وعم خرابها الجميع، ولم ينجُ منها المركز نفسه الذي ركز بنظريته التخوفية على مجموعة السلطة، فجاءه غول التمرد من حيث لا يحتسب، وكما قال المثل المرض الذي يقتلك تحاول تجري منه ولكنه يلحقك. واعتقد قد آن الأوان للاستغناء عن هذه النظرية التي على الأقل انتهت بفعل التقادم، ولا بد من البحث عن نظرية جديدة تولد الثقة وتبدد الوهم وتفتح صفحة جديدة.