آثمة تلكم المدينة لأنها لم ترع حق المسكين، آثمة لانها ترمي الأطفال في القمامين، آثمة لأنها أرتضت حكم الرويبضة، آثمة تلكم المدينة لأنها لم تكتف بالإستئثار بمال الفئ إنما عملت علي تصدير الرعب إلي الآخرين. هي تستشعر الخطر في كل دهر وحين وتحدث ربكة لأنها توقن بالا سبيل للحيلولة دون وقوع النذر فيما أصاب مثيلاتها من العاديات “وإن من قرية إلاّ نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً” ((سورة ألإسراء، ألاية: 58)). سيما أن هذا التجلي القدري يسنده منطق شرعي: لقد أمُهلنا كثيراً كي نعتبر فنعي المشكل (وهو ماثل أمام اعيننا) لكننا تمادينا في العماية، بل آثرنا الغواية بإتباعنا ذات المنهجية التي أوردتنا المهالك من قبل؟ فهل عقمت المدينة من نجيب ينذرها مغبة التمادي ويرشدها سبل المفازة؟ لا، لكنهم أصبحوا ضحايا تفكير مركزي لا يري ثورية خارج الأطر التقليدية ولا يرون ريادة إلاَّ لنقوش سطرتها دور العبادة (وإن كانت لغير الله).
لقد زرت مطعماً في مدينه سان أوغستين ( فلوريدا/الولايات المتحدة) التي كان أول مهاجريها من المسلمين، فكان أول مشهد لآيات قرآنية رأيتها معلقة بالمعكوس في ناحية من المطعم الذي احيل الي البار. قلت في نفسي لو أن صاحب المطعم عرف ما يستلزم فعله لتقديس مثل هذه الآيات (والتي لا تعني له أكثر من لوحات) لوضعها في المكان الذي يشار إليه من قبل معتنقي الديانة ولنآي بها عن أي موائمة ديكورية قد تحزن أصحاب الملة. هذا ما خبرته عن الأمريكان كمواطنين من توقير لمشاعر اصحاب الديانات، طبعا باستثناء بعضا من اصحاب العاهات العقلية والنفسية. إن ما يحدث من إساءة من البعض للإسلام ولنبي الاسلام امر لا تقره الثقافة العامة كما لا يحظره القانون. ما يحزن حقاً أن أصحاب الديانة أنفسهم لا يجعلون لمعتقداتهم حرماً يصونها من الدنس، بل ويتعمدون بخس الآيات معانيها والتنكب علي روح النص (وإخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننَه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون) ((ال عمران:187)).
مما إسترعي إهتمامي بعد حادثة هجليج حديث لخطيب مفوة (تستلذ منه بالعبارة ولا تخرج منه بالِعبرة) مافتئي يحرض أهل التخوم علي الجهاد حتي حرم عليهم مجرد التواصل الإقتصادي مع “الأعداء”.وقد علم أهلنا بعد لئواء وشدة من هم الأعداء؟ تمشياً مع قرائته الإسطورية للتاريخ والإنتقائية للجغرافيا، فقد تناول الخطيب الذي إعتمد مؤخراً قمينا علي مسجد النور، هذا الموضوع ذو الحساسية البالغة، من زاوية الولاء والبراء. علماً بأن الجنوبين لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا (بل دعموا اهلنا واستضافوا قرانا). فقد ذهبت منذ زمن غير بعيد وذلك قبل الإنفصال ضمن وفد من المجتمع المدني لحضور مؤتمر في جوبا، وكان ذلك قبل الإنفصال، ولم أعلم أن أحداً قد آذانا أو جدع أنفنا وقد كنا الوقود لحرب راح ضحيتها إثنان ونصف مليونا منهم، دعك من إنتهاك الحرمات وسرقة الثروات وإن كان بعضنا لم يزل يعتقد بان ليس لهم حرمة ولا يرقبون فيهم إلا وذمة إلا من دواعي النفاق الذي إحترفته القيادات السياسية الدينية. إن المروءة لا تقف عند حدود الاحتراف بالاخر انما ايضا إحترام ما عنده. إن نبل الجنوبيين لم يمنعهم من إستضافتنا وإكرام مثوانا، وقد كنا انا وكمال الجزولي وطه جربوع نتنقل في الاسواق وكأننا لم نرتكب جرما(الجرم المجازي حتي لا يلاحقاني قضائيا المحامين القديرين بإعتبارانا نخب نيلية لم تحث اللهيب حتي وطئت جمرته). لا أخفي سرا اذا قلت بأنني احس قربي فكرية وحميمية انسانية عندما تجمعني الظروف للإلتقاء مع اتيم ومجاك وباقان لا احسها حالة ألإلتقاء النادرمع إسلاموي الوسط الذين لديهم انفة لا تسندها وقائع التأريخ او مخرجات الواقع التجريبي (يكفي ان تقرأ لشيخهم حتي تعلم أنه يهرب من الوقائع هروب حُمُر من قسورة، كما إنه لا يقيم حوارا مع أنداد إنما سجالا مع رب الأنداد وتلكم هي آفة التدين في كل العصور وجميع الديانات) وقد حزنت لذهابهم وان كنت لأنتظر لحظة إيابهم او ذهابي اليهم فلم اعد احتمل مكوثا مع الفئة الباغية. ذلك أنني قد خرجت من سجن النص والتقيت مع روحه التي تستدفعني لموالاة قيم الحق العدل والإحسان والبرأة من الفحشاء والمنكر والبغي. واذا نظرنا الي الجانب المصلحي في هذه العلاقة بين الجنوب وقبائل التمازج فإن أهلي من الرزيقات، المسيرية، الحيماد، ولاد حميد، يجوبون ديار هؤلاء “المشركين” لمدة لا تقل عن ال8 أشهر فلا يعترضهم إلاَّ غشيم قد خرج عن طوع إدارته أو ولهان قد لعبت بنت البان برأسه. فلا يجوز أصلاً أن نسقط فهم تاريخي علي واقع سياسي وإجتماعي متبدل (إن كان حامل الألواح يعي هذه المصطلحات ويدرك دلالتها ليست فقط اللغوية -لأنه مستظهر بارع لنصوصها- إنما أيضاً المفهومية).
يجب ان انوه هنا الي مسألة ترسيم الحدود والتي يجب تفويتها علي امراء العقيدة، الحرب والمال لأنها تفتقر في مثل الظروف الي المهنية الاخلاقية والروح التفاوضية، سيما نيل مبتغاها من التكامل الاجتماعي، الثقافي والاقتصادي. إن الاستراتيجية التي ندعو اهلنا للتمسك بها هي في الولوج الي عمق الوجدان الجنوبي (وليست الإكتفاء ب 16 كيلومتر جنوب بحرالعرب) مصطحبا إرثهم وحضارتهم الاندلسية العربية والافريقية الزنجية، كما لا يثبط من همتي اقوال المنكرين امثال محمد ابوالقاسم حاج حمد (له المغفرة والرحمة) الذي زعم ان البقارة هم مجموعة من الاوباش (راجع جدلية التأريخ) او حسن مكي الذي يؤمن بغايية إيكولوجية مفادها أن حضارة الشعوب إقتصرت علي وادي النيل (لقاء تلفزيوني ضم الاخير والكاتب). وليعلم القاري بأني لا اعتز بذاتي قدر إعتنائي بحمل راية من شأنها ان ترد قومي عن هزيمتهم المعنوية (وقد إزورت مورياتهم عن وقع القنا بلبانها وشكون ليَ في عبرة وتحمحم)، فلا يدبر الرجل حين يدبر وهو يعلم بأن لديه من قيم يجب ان يرافع عنها، ولكن عندما يعلم انه إنما يزود عن حطام وقد وحمله. قال لي أحدهم أن الأمنجية كانوا يمنًون علي حرس الحدود (الجانجويد سابقا) فيقولون لهم لولانا ما ركبتم العربات ولا ترفهتم في العمارات، والحق انه لولا الجانجويد ما عرفت العصابة العنصرية سبيلا الي السيطرة والحكم وقد كان اسلافهم يتجرون الشطيطة في وقت كان فيه الجكراي يرخي اللجام لجواده فيشرب في احواض سبدو لبنا وعسلا (معرض سبدو؛ 17 نوفمبر 1960).
أمَّا عن الإنتقائية الجغرافية (والتأريخية معا)، فلعله قد غاب عن ذهن الراوي مشهد الجيش الإنجليزي وهو يشيد خطوط السكة حديد، حتي إكتملت له طرق الإمداد عبر صحرا الشمالية وقد كان متوجساً من المناوشات التي قد تعترض مهمته من رجالات القبائل وقطاع الطريق، حتي طمأنه الملك نصر الدين، ملك الميرفاب (فرع الجعليين الأفخم وإن كانوا ليتباهون بالمك نمر إلا ّأنني أري أن سيدهم وعنوان مجدهم هو الشيخ برير ود الحسين، وما ذلك لتحيزي للسادة المتصوفة ولكن لإدراكي لحقائق التأريخ التي تقول بأن المك طلب العافية لنفسه وجلب المذلة للأخرين، فهو لم يفعل ما فعل صونا للحرمات إنما إفشاءًا لغيظه وإلا كيف نفهم مكوثه لاجئاً في الحبشة وتركه لعشرات الالاف من بنات عمه وبنيهم يسامون سوء العذاب، إلا اذا اعتبرناه موطنه الاصل)، لحال الأهالي الذين لن يقنعوا فقط بالتعاون، إنما سيشدوا عضد القائد بالتهليل. فهل كان الملك نصر الدين عميلاً عندما أشار عليهم؟ لا، لأنه زعيم خبر حال قوم استكانت همتهم بعد أن أهينت هامتهم. إنني حتماً لا أعقد مقارنة بين “المجاهد قرنق” (كما أطلق عليه بعض زعماء العشائر من قبائل التمازج -التي أسموها زوراً قبائل تماس- في غمرة حماسهم وقد بين لهم أنه يعمل علي نصرتهم كما يعمل علي نصرة قومه) والقائد كتشنر، فالأول زعيم وطني والأخير مستعمر غازي، كما أنني لا أحتاج إلي مصوغات كي أدلل عل مستقبل العلاقة الإستراتيجية مع جنوب السودان وقد استبان لي من رؤي قادته بأنهم يخططون لتفعيل هذه الكيانات كي تقوم بدورها الرسالي والحضاري في الربط المعنوي والمادي بين عرض القارة وطولها، إذ أن هذا اندياح طبيعي لعلاقة أزلية راسخة، كي لا تلتبس علي القارئ بالمفاهيم الأيدولوجية مثل “الجسر” و “بوابة أفريقيا” (الصورة الزائفة والقمع التاريخي، جنوب السودان في المخيلة العربية، د. منصور خالد، 2009م)، لكنني أود أن أقول بأننا جماعة مدنية تتجاوز الحدود القطرية لتحقيق غايتها الإنسانية في وئام لا يتحقق إلا بالقسط في القول والعمل.
لا يمكن لنا أن نهمل ذواتنا ونلغي ماهيتنا بإسم المُجز الوطني، بل لا يمكن لنا ان نستمر في تقبل المهانة بإسم الغايات الاخروية التي لو صلحت لصلحت في تسكين شَرَهم الدنيوي وإستطالتهم حتي أن أحدهم لا يكتفي ببناء كوزي (قطية او نوعاً من أنواع القطاطي في اللغة الامية) علي دحول بحر العرب، إنما ينتفخ جيبه بمال الحجيج حتي لا يرضي “النخيل” (منتجع في مدينة دبي ومرفأ من مرافئ الاسلاميين المُخلَصين) بديلاً لسكنته. سيما أن ملوحة الخليج العربي يستعاض عنها بمياه معدنية، اما اهلنا فيشربوا ماءاً يستنكف هو عن الإغتسال به (ليت ضمائرهم تغتسل قبل جوارحهم، هؤلاء المنافقين)، وتفترش نساؤنا حصيراً يأبه هذا المنعم عن إنتعاله. ما الذي يملك أن يفعله شبابنا، شباب قبائل التماس/التماذج، غير السمسرة في المواد البترولية والتموينية وقد تعمد المركز إهمال بوادينا بل إستغفلها حتي يسخر إعتمادتها لصالح الإستثمار في اراضي بور وفي وتعلية سدود (دون النظر إلي أولويات التنمية) إمعاناً في الجور إذا لم نقل رغبة في الفجور. إن التنمية التي لا تقوم علي أسس علمية ولا تسترشد بهدي رؤي أخلاقية لا يمكن ان تثمر ناهيك عن أن تكتب لها الإستدامة. مثلاً، إن سلب النوبة أراضيهم من خلال اشتراط التمويل وتوفير ذلك للمحاسيب الذين “بوسعهم إستصلاح الأرض”، قد أشعل ناراً لم ينطفئ أوارها بعد (فحتي عندما يعمل النظام علي تنمية أرض فإنه يفعل ذلك وفق منهجية عقيمة يرفدها منظور عنصري ورثه عن أسلافه) (جمعة كوندا كومي، الحرب والسلام في افريقيا،2010م) ولا أظنها تنطفئ حتي تنعدم أو تفني المنظومة (ليست فقط النظام) التي تدعم مثل هذه التوجهات. لا يمكن لعاقل أن يتجاوز البشر إلي الارض، ويحسب انه ناج من اللعنة (من أقطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) ((حديث شريف)). ينطبق علي أراضي الفور والمساليت ما ينطبق علي أراضي النوبة والنوبيين.
بالقدر الذي تنطلق فيه التنمية من قيمة سماوية عليا، فإنها تلبي حاجيات ارضية مثلي، إبتداءاً من إستنطاق المواطنين (أصحاب الشأن الأصليين) عن رؤاهم لواقعهم المعاش، استنظارالأمل الذي يراودهم (ليست صحيح ان ألاهالي متعنتين ولذا فيلزم تجاوزهم كما يدعي السيد المتعافي لأنهم توصلوا مع الإنجليز في مشروع الجزيرة الي صيغ مرضية، لكنهم يميزون بين التفاوض والفهلوة – اذا لم تسعفهم مرآتهم التي أجلتاها عبقرية الزمان والمكان، فمكر تزول منه الجبال يكفي)، إستلهام المختصين لهذه الرؤي، تفعيلها عملياً من خلال التخطيط والتنفيذ لرؤية قطاعية متكاملة. فلا يجوز أن تُقوَم محطة بترولية في ابو جابرة مثلا دون أن يعبأ المختصين بالأثار البيئية المترتبة عن ذلك، ودون أن يعمدوا علي ترفيع المجتمع اقتصاديا وترقيته حضارياً، ويوم أن يحدث اشتباك “قبلي” مسلح (من الذي سلحهم في الأصل؟) يشير اليه صحفيو المركز علي اساس انها مشكلة بين مجموعات قبلية اثرت التناحر دوماً علي التفاكر! هكذا يكتفون، بل ينأون بأنفسهم عن تحليل المشكلة سياسياً حتي لا يتحملوا وزر التواطؤ أو يتهموا ببلادة التفكير خاصة من عصابة تعمَّدت إفقار أهل دارفور مادياً حتي يبقوا في خانة العبودية، وهم في ذلك تبعاً لسادتهم من الفرنجة والترك الذين ضربوا علي دارفور عقوبات جزائية امتدت باليوم لأكثر من 130 عام.
إن المؤتمرات التي تقيمها السلطة الإقليمية أوالإحبولة الإنقاذية هذه تفتل في ذات المنوال، فهي تسعي لإقامة مؤتمر دارفوري – دارفوري بوصاية إنقاذية شأنها شان جميع سلطات المركزالتي سعت دوماً لإفتعال “مشكل قبلي” لتحقيق تسوية سياسية تجعل اهالي دارفور في خانة الموصي عليه. يحضرني في هذه السانحة “مشكلة” الرزيقات والمعاليا التي سعي لتأجيجها آل المهدي (بالتحديد ألامامين احمد والصادق) حتي يقعدوا اهل دارفور عن مناقشة شروط إنتمائهم للوطن ولسان حالهم يقول “إذا ما تقدرون ترتبوا حال بيتكم إيشلونكم تطالبون بوزارات ورئاسة لجان برلمانية؟”. في هذا الصدد يجب أن نقول بأن الأنقاذ لا تمثل الشائهة الاولي ولكنها أقبح تمثلات الطائفية. إن التسوية بين أهل دارفور يجب أن تتم وفق رؤي اخلاقية تنتصف للنازحين من مجرمي المركز وزبانيتهم في الهامش، لا أن تكتف بإطعام الإنتهازيين والفضوليين. يقيني أن د. السيسي ومجموعته من الأفندية لا يملكون حتي مجرد الرؤية ناهيك عن أن تكون أخلاقية وإلاَّ لما لجاؤا للقيام بدور الكومبارس ولما سعوا لإضعاف وحدة الصف الدارفوري، وهم يعلمون يقيناً بان حق أهل دارفور، بل حق اهل السودان، لايؤخذ من هذه الطغمة إلا علي رأس الأسنة. وإني إذ أنصحهم بعدم جدوي التماهي مع الباطل فإني أخاف عليهم من مآل رجل وإن كنا لا نشك في صدقه وإخلاصه لإهله، ذاكم هو المرحوم مكي بلايل. فليس أخطر علي المرء من موالاة المجرمين وفي ذلك يقول المولي عزَ وجل (ولا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار ثم لا تنصرون)، علما بأن الركون هو مجرد الميل القلبي، فكيف بالممالأة والكذب وتزوير الحقائق، كأن يقول أحدهم بأن “دارفور آمنة” وهو لا يقوي علي التجوال في مناحي مدينة الفاشر. اي سلطة اقليمية هذه التي تريدون ممارستها من الخرطوم؟ إنتهوا خيركم لكم فإنما الله آله واحد سبحانه ان تكون له قرابة من احد وسيروا سيرة آبائكم، فلن تشفع لكم قرباكم من الثوار إلا كما نفعت شيبة قرباه من بُنياه يوم بدر.
مواصلة للنهج ألإجرائي للتنمية الذي ذكرت آنفا فإن التمويل يرصد لمشاريع أقرها الشعب عبر ممثليه وفق اولوياته الوطنية، وليست حسب ما تستلزمه اللحظة الآنيه أو ما تتطلبه النزوة الشخصية. لقد بلغ الخلل مبلغاً تحدد فيه الأولويات وترصد فيه الميزانيات، دون النظر إلي الغايات، النتائج والمخرجات. بل، لا أبالغ إذا قلت بان غرا من غرائر الإنقاذ — اولئك الذين أوكلت لهم الإمبريالية ألإسلامية فرصة إستثمار أموالها — يملك من الفاعلية الإقتصادية مالا يملكه شعب البطانة، شعب الرزيقات (التي هي اكبر قبيلة اليوم بعد إنفصال وإكتفاء الدينكا بقطرهم الذي نرجو له النماء والازدهار، لكنه كُبرأشبه ب “كبير إخوانه!” الذي يتواجد دون فاعلية في إمعاء البهيمة)، والنوبة أو النوبيين. بعد ذلك كله يأتي احد “ممثلي الانقاذ عرب دارفور” بل هو رئيس هيئتهم البرلمانية فيقول لنا في اجتماع جمع بعض اعضاء المجتمع المدني ويردد بعض ماقاله نافع (رغم ان الاخير مخلص لمشروعه الرامي لبناء دولة شمال نهر النيل): “هما خياران لا ثالث لهما، سودان علماني يقوده الزنج وأخر إسلامي يقوده العرب!” دون الخوض في هذه الثنائيات المخلة والتي تسقط عند أول إختبار بالنظر إلي مرامي الإسلام، العروبة، الزنوجة، العلمانية، إلي آخره: فكم من عربي غير مسلم، وكم من زنجي مسلم، تضافرت جهودهما لبناء 19 جامعة هي الأولي في تاريخ الأندلس وفي اوربا قاطبة. لكنها إمكانية المرء لخداع ذاته او الدربة للإستفادة من خانة الإصطفاف العرقي.
لا نملك غير أن نقول له ولأمثاله من المتوهمين بأن هنالك خيار ثالث هو الذي سيغلب، وهو رغبتنا في تجاوز كل هذه العقبات لتشييد سودان قائم علي اسس عقلانية وليبرالية تحترم الحقوق الفردية دونما أدني تغول علي الحقوق الجماعية. إننا ندعو الي ناد يتشكل علي انقاض وليست من خلال النادي السياسي القديم. ليست أوفق من طه عبدالرحمن في تعريفه للفاعلية العقلية للإصلاح التي تستلزم حسب تصنيفه “إيجاد نموذج بصير بشؤون المراقبة متحقق بالفهم متمرس بالتجديد”، لانه بذلك يؤطرالليبرالية بسياج قيمي وأخلاقي ويفسح المجال غير محدوداً للعقل كي يسهم في حل المعضلات التي تعتري البشر.
لماذا نسعي لتشييد احزاب جديدة، إذا كانت هنالك أحزاب عتيقة قائمة لها ارتباطاتها المشيدة واواصرها المديدة؟ اليس من الأجدى، يجب أن نقر اولا بأن هذه الارتباطات كانت إرتباطات عائلية، كما أن الإمتدادات كانت إمتدادت ريعية. فلا يمكن تحقيق عدالة إجتماعية من خلال الانتماء لهذا النادي القديم (أو معارضته لأنها تمثل اعادة إنتاج للأزمة). ثانياً، لابد من الإعتراف بأن كل محاولات الإدماج القسري قد فشلت لأن هذه الأحزاب مؤسسة وقائمة علي هرمية عرقية لا تقبل بغير الإنصهارإحتواءا أو إقصاءا. لعل في أحداث حزب الامة الاخيرة اكبر مثال لوقائع بينتها في مقالتي، حزب الامة والانجاز الاسطوري للوقائع: ما الذي احدثه السامري في شأن الاثني عشرة نقيب؟ هنا يلزم التمييز بين العنصرية المسطحة والتي ظل يمارسها اهل الكاتب وعموم السودانيين — منهم الامي حضاريا وذاك الامي ابجديا اذا جاز لنا ان نستخدم تعبير د. محي الدين صابر– وتلكم المركبة التي تمارسها النخبة عن وعي وغير وعي. وإذا أيست جموع الريف من سبل التدافع السلمي فقد لجأ أهل الغرب منهم خاصة إلي حمل السلاح. فلم تلبث مؤسسة المركز أن نعتتهم بنعوت مثل الجهوية، العنصرية والأثنية القصد منها تحييد الأغلبية الصامتة إذ عجزت عن تعبئتها. السؤال هل يحتاج الريف إلي حمل السلاح والزحف نحوالمركز خاصة أن دارفور وكردفان متواجدتان في المركز (بنسبة جعلت كبار العنصريين يتوجسون من تواجدهم في الأطراف)، تنقصهما فقط الذخيرة المعنوية أو التعبوية؟
إن إحداث تواصل جماهيري حيوي وعقد تحالفات سياسية ذات فاعلية يتطلب أولاً التخلص من ثنائية شمال- جنوب لأنها معطوبة تحدث هوة شعورية (إذا لم نقل إستعلاء ثقافي) تجعل من الشمال (المتمثل في شلليات المركز تحديدا) أوصياء علي الغرب، الشرق، الوسط، إلي آخره، خاصة بعد إنفصال الجنوب. ما الذي يحوج والي شرق دارفور مثلا للجوء إلي الخرطوم حتي يتواصل مع حاكم بحر الغزال؟ هل ثمة شيء غير التبعية؟
للرد علي سؤال العسكرة والمأسسة، أود أن أقول ان الحق لابد له من سيف يحميه، أما الإكتفاء بالسيف دون الحجة التي تهئ لتحالفات ناجعة فعجز سيقضي علي صاحبه لا محالة كما حدث للمجاهد خليل إبراهيم. كيف عجز خليل فيما نجح فيه قرنق؟ ودون المحاولة لعقد مقارنة بين الرجلين يمكن أن نقول بأن قرنق كان صاحب مشروع أممي وأمَّا الأخر فكان صاحب رؤي قطرية (وإذا شئت محلية)، قرنق كان متريثاً يؤمن بسياسة النفس الطويل، أما خليل فكان عجلاً يؤمن بمراس الضربة الخاطفة، قرنق كان مشفقاً علي هؤلاء “الجلابة” يريد أن يستنقذهم من عللهم وأمراضهم المزمنة، أما خليل فيتهم بأنه كان مغاضباً يريد أن ينتقم منهم. حتي لو إمتلك جبريل (من بعد خليل) ملكة وعبقرية جون قرنق فإنه لن ينجح فيما نجح فيه الأخير، لأن مهمته أعسر، رغم ما احدثه من تواصل مذهل مع المجتمع المحلي والدولي، وذلك قبل حادثة الإغتيال. فالمتلقي، في الحالتين لم تكن نخب الوسط النيلي (خاصة الليبرالية واليسار منها) تري في قرنق وجماعته خطراً لأن الجنوبيين ليست جزءا من التكوين السياسي والإجتماعي للشمال (او كذلك حسبوا). كما أنهم، أي الجنوبيين، حسب التراتيبية العرقية (التي لم يرتضوها فآثروا الإنفصال) ليست نداً للعرب القحطانية او العدنانية، وإلا كيف تفهم ذهاب هؤلاء الناشطين والناشطات إلي جوبا أفواجاً وعجزهم عن التواصل مع جماهير أم بدادي (أم بدا بلغة مترِيفة)، والتي هي علي مرمي حجر؟ إنها ليست أذان المتلقي إذن إنما أيضاً بلادة ضميره (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)((الانفال:23)). إن إفصال “الكوبس” يصيب البصيرة بعطب لا تنفع معه التدابير الاخري.
إنني اشفق عليهم اذ أراهم يستضافون في القنوات الفضائية وهم يتلعثمون رغم براعة بعضهم الفكرية واللغوية فلا يحسنون اكثر من التشدق بعبارات مثل غياب الديمقراطية، انتهاك حقوق الانسان، اضطهاد المرأة، وهي مسالب تكشف تواطئهم ان هم دفعوا بها الي نهاياتها المنطقية والموضوعية وذلك قبل ان نلج الي سويداء فؤادهم فنري تلجلج اليقين وآثار الحنث علي اليمين. سألت احد الاخوان عن حال رجل اقسم خمسين مرة بأنه لم يرتكب جريمة ما، علما بأن الحنث بواحدة تعمدا يكفي للخلود في النار، فقال لي متندرا “لربما اراد التنزه بالدخول والخروج خمسين مرة!” يحمد لهذه النخب الاستحياء هذه المرات عن التفوه بما اعتادت ان تمارسه جهرا، وهو التكلم باسم الجماهير لآنه لم يعد لديها جماهير–خاصة بعدما افتضح الغطاء الايدوليوجي والذي حصر المعترك افقيا لنصف قرن من الزمان في تراشق غير مجدي بين يسار مفلس ويمين مدلس، ممهدا السبيل لظهور الاستقطاب الرأسي بين ريف وهامش؛ مما دفع بالحوجة الي مراجعة المنظور الاحادي والذي يقضي بالتحكم عوض عن المنظور الشمولي الذي يفي بالإحكام (او التحكم فلسفيا في مرابيع الحكم الاربعة) ((راجع كتابتي عن الحكمانية)). هذا مما يفسر، عل الاقل عرضيا، بعض حالات الرعاش العصبي الذي انتشر مؤخرا وسط هذه النخب إذ لجأت من فرط مناظرتها لصور بهية تعجز عن الوصول اليها الي الاستمناء الفكري.(إذ أن اللغة والفكر لا تعضوان المرء عن بلادة الضمير). إما ان نصدر اعمالا تحدث تغييرا في بنية الوعي الجمعي او نؤثر الاحصان والعفاف ونرجو من الله المثوبة.
ظللت اقول واكرر بأن كل داء له دواء إلا العنصرية، لأن صاحبها لا يدر ما به من علة، وإن دري فهو يتباهي بها حد الهلاك. خشية وصول المهمشين إلي السلطة، فإن نخب المركزتريد أن تتوهم بأنهم، أي الغرابة، غير موجودين حتي عندما تخاطبهم فإنها تخاطبهم عبرآخرين، مثل الحركة الشعبية او المنظمات الاقليمية او الوكالاتٌ القُطرية حتي لا تعطيهم حق الندية وإنها لحيلة لا تجدي صاحبها عن الإستدراك الاتي:
“إن جموع الريف قادمة وهي غاضبة وحق لها ان تغضب لأن السلطة لم تكتف فقط بعدم توفير الخدمات لهم إنما ايضا ضربتهم بالطائرات، وإنها إن قدمت وأخذت حقها بالقوة فإنكم ستفقدون إمتيازاتكم السياسية والإجتماعية، بل الإقتصادية (لا داعي للخوض في الظرف التأريخي المعقد وتداعياته الثقافية/الفكرية)، فمن الأولي لكم أن تتنازلوا عن تكبركم واستعلائكم وتقبلوا بتسوية لا تساوي بين الغاصِب والمغُتَصب، كما لا تنكر إصطناع التاريخ وما سببه من هزيمة نفسية جعلت الأمة في خدمة ربتها. “هذا إن كان من بينهم ديكليرك، وان كنت لا اثق في صدقيتهم او جدارة من ينتدبونه دوماً لمثل هذه المهام(لأن توقيتاتهم دوماً خاطئة وتوقعاتهم دوماً ماجنة، فهم يريدون ديكليرك في ثياب القديس مانديلا). هيهات ان تنخدع الشعوب بعد اليوم!
إن مثل هذه المقولة لا يمكن أن توقف الزحف لكن من شانها أن تدرأ الآثار المدمرة له. إن أي قول غير هذا يعتبر حيدة عن الجادة وطمس للراية عن الطريق القويم. اتصلت بي حينها منظمة طوعية طالبت الخروج في وقفة تضامنية مع سيدة حكمت بالجلد بسبب لبسها البنطال فأفحمتهم حجة لم تحوجهم الي مراجعتي: كيف بهن يتعاطفهن مع سيدة أعتمدت علي الإنتهازية في تحقيق كافة إنجازاتها الإقتصادية، الإجتماعية والسياسية ولا يتعاطفن مع النسوة اللائي يحملن السدابة ملؤها مونة، خلف بيت السلطان بحرالدين في دار مساليت التي ستظل دارهم ما بقيت المرؤة، وهن حوامل في شهرهن الخامس أو السادس؟ هل تبرعت هذه السيدة بمال ولو ان يكون دولار الي اخواتها النازحات في شرق البلاد وغربها مما جنته من كتاب روجت له الصحافة الفرنسية بغرض الإساءة الي الاسلام وليست فقط انصاف المستضعفين؟ في هذه الظروف والتي تعايش فيها بلادنا المسغبة وتشهد الملحمة في الغرب، الشرق، جبال النوبة والانقسنا، فإننا لا نملك إلا أن نقول لكم هذه معركتكم مع الاسلاميين او مسرحيتكم فخوضوها بإيي الادوات شئتم فلسنا نعبأ بأي الاودية هلكتم. وانا هنا لا ادعو الي مفاصلة إثنية او مقاربة جهوية إنما تمايز فكري يجلي ضبابية الموقف. مثلا، لقد كان الرئيس السابق لاتحاد الكتاب السودانيين واحداً من ابناء دارفور عندما اعتدي علي ضابطا امنياً بالضرب بدوافع سياسية فلم يجرؤ هذا الشاعر الرقيق الذي تهز الفراشة جنبات وجدانه علي الادانة لأنه ببساطه كانت تحركه إرادة مركزية إرتأت أن هذه مشكلة شخصية. وقد ظللت مغتما حتي إنبري لهم كاتب شجاع اسمه عثمان سراج الدين لم تكن تربطني به علاقة حينها فكتب قائلا في جريدة الاحداث “إن ضرب الوليد في بطنه هي صفعة لكل الكتاب في وجوههم.” وإذ أن الاخلاق لا تتبعض فإنها لا تتعنصر، لان سراج الدين لم يكن من المرحال الغربي او الشرقي لبادية الرزيقات، بل احسبه من الشريط النيلي. وإن كان الاخير ليموج بكافة المخلوقات، اروعها تلك التي انتدبها حسن الترابي لحكم السودان!
لا بأس من ذكر طرفة في هذه السانحة علها تلخص جزء من الازمة التي نعانيها. يروي ان بعض الاهالي اصابتهم مسغبة فاستأذنوا علي الامير يونس ود الدكيم، احد امراء المهدية، وقد اغضبه الحاحهم فتنبر قائلا “انا يونس ود الدكيم بظرط (يبلع باللغة الفصحي) البحر بخلي بلابطيه (كل ما يحتويه) بره” فامر الحراس فكربوه واشار الي تركاشه (الحربة الصغيرة) فجلبوه له ومن فرط إفلاسه وقف وقفة متأهب للقتال وامر بهم فأدخلوهم.
فابتدرهم قائلا:من انتم؟
قالوا نحن اهلك سياد البحر
قال بغلظته المعهودة:ورلَة، تماسيح، غرنتي، شنو؟
قالوا: نحن اهلك الجعليين
قال: الله لا تجعل فوكو بركه!
صمتوا
كافئهم علي استكانتهم وامر لهم بالطعام
ان القصة تكاد تكون مطابقة لما فعله الطبيب مجذوب الخليفة مع قادة التمرد من دارفور في ابوجا، والذي كان في معيته الحاج عطا المنان وعبدالله علي مسار. رآه احدهم وهو يختال في بهو الفندق قبل ان يصل الي الصالة المحددة للاجتماع فقال له: “يا دكتور مالك تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل؟” فرد قائلا: “هذه المشية خلقنا لها” (لا ادري ان كان يقصد الاكسومين او الجعليين)!
اذا كان ود الدكيم جاهلا، فمن يعذر هذا من الله الذي قال علي لسان لقمان (ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الارض مرحا، ان الله لا يحب كل مختال فخور) ((لقمان: 18)). (مشكلة دعاة الطهرانية في كل العصور أنهم يفتئتون علي الله. فقد كان ود الدكيم يضرب من يمشي بشماله بالصوط ويقول له “لا تمش اعسر هذا درب ابليس.” وهل كان إبليس محتاجا للتنزه في مدينتكم الفاضلة، الم يكتف بإبلائكم الي انفسكم؟). نود الان ان نستأنف الحوار ولندع ابليس وذريته الي حين:
قال المجذوب:دايرين شنو
قالوا: دايرين حقوقنا
قال: حقوقكم عن منو
قالوا: عندكم انتم
قال: ما عندكم حق واحد وانا حأفتتكم واحد واحد واشار الي شنطة من الدولارات كان يحملها،
خمش منها من حضر خمشته، لكنه صدق فيما ذهب اليه
وما المتأخرين الا في اثر الشنطه الاولي وقد غيب الموت صاحبها!
ان قصة الاستبداد واحدة لكن تفاصيلها مختلفة. ما لم يعمل الرواءين، المفكرين، المسرحيين، الشعراء، السينمائيين،الي اخر القائمة من المبدعين كما الاطباء النفسانيين علي تفكيك هذا الموروث، فإننا سنعمل علي إعادة انتاجه. يرتاع بعض الاصدقاء عندما اقول لهم ان فترة المهدية كانت فترة انحطاط اخلاقي وفكري وروحي، يعجبون لصدور هذه القناعة من حفيد اسرة لولاها لم تعشعش هذه الخرافة الشيعية في اذهان السودانيين، اهل الغرب منهم خاصة. فما زالت الجيوش تتردد حتي اتاها مادبو فحقق لها اول انتصارا في قدير، في وقت ظل الاخرون يترددون او يعقدون مناورات مع الاتراك، ولم تغيض خزينة عبدالرحمن المهدي حتي دعمها محمود موسي مادبو مسددا نصيب الاول في الشركة الرباعية والتي انكرها ابنه الصديق بحجة انه لا توجد مكاتبة فقال له الناظر محمود “وهل كانت بيني وبين ابيك مكاتبة، الم تعلم اننا اصحاب عقيدة؟ “(لقاء شخصي مع السيد أخمد مكي عبده، 1974)! لم يهنأ بها الصديق كثيرا فقد مات، ولا اظن ان بنيه يفعلون. ابتلعت دائرة المهدي ثروة قدرها اربعين الف رأس من الماشية هي الاكبر في تأريخ القطر –اذا لم نقل القارة، ظنها صاحبها أنها تصرف في التمكين ورفعة الدين. (ليست هذه شخصنة للآمور لان الشخصنة هي تعميم الخاص اما تشخيص العام بفك اضابيره والتعرف علي مدي تأثره بالشخصي فإنصاف للحقيقة من الجفاء او المغالاة. يجب ان لا ننظر الي هذه الحيثيات علي انها حيثيات متناثرة فهنالك حبل متين (وليست خط رفيع) يمكن ان ننضمه ليشمل كافة المحطات المهدوية والتي كان ديدنها الافك والاستغفال).
جاء رهط من الناس يطلبون بنت احد من اهلنا الحلفاويين — الذين لم تنطلي عليهم يوما هذه الحدوته لسلامة سجيتهم ولن تنطلي علي احد بعد اليوم — فقالوا له مزكين “ان ابننا يصلي الخمسة صلوات في المسجد”، فقال لهم: “هذا سبب للاستزاده من السؤال عنه قبل إعطائكم القبول!” المعلوم من الاثر انك لن تخبر حال رجل الا اذا صحبته في سفر، جاورته او اتجرت معه. وقد فعلناها كلها. فاذا كانت النخب النيلية لا ترضي في صاحبها فتنظر نظرة اسطورية واخري سطحية لتاريخ بلادنا، فلن نرضي في صاحبنا. مشكلة السودانيين انهم يظنون ان انفضاح هذا الموروث سيتركهم بلا هوية، الحقيقة اننا لن نتسق مع ذواتنا الا اذا تخلصنا من هذه التركة الثقيلة، واستلهما عبر التأريخ الكوشي متجاوزين سنار والبقعة. اقر بأن هذا الاجراء إصطفائي لكنه اصطفاء يتولد بالتركيز علي العناصر الجامعة وترك تلكم المستنفرة.
لكنهم، أي اصدقائي الذين تركتهم انفا في معية الحقبة المهدوية، يستدركون فيقولون “تقصد فترة الخليفة عبدالله!” فأقول ان كل الاعمال التي صدرت من الخليفة تم المصادقة عليها من قبل المهدي (It was mandated by the Messiah himself, not anyone else)، حتي لا يتعرض بالنقد للمشروعية الاخلاقية، الفكرية، والسياسية لدولة المهدية بنبري لنا “”أبو كلام” هذه الايام بحديث مفاده ان “ود تورشين” قد ارتكب خطأ تكتيكيا ادي الي الهزيمة العسكرية الماحقة ومن ثم نهاية الدولة المهدية. اين اذن كان الخطأ الاستراتيجي؟
انا أقول أن “ود تورشين” بذل كل ما في وسعه واهدر كل طاقته منذ اليوم الاول وحتي الأخير في ممانعة الكل ومقاومتهم بل والقضاء عليهم إن اجترأوا علي الكشف عن المستور الذي كان يستلزم (دون الحوجة الي الخوض في التفاصيل والتي ما زال يخفيها المحققون حتي اليوم) الانتقال بالدولة من الاسس الغيبية الي الاسس الوضعية؛ الأمر الذي يستلزم توفر جسارة فكرية لم تكن في الاصل متوفرة، انما فقط قتالية. وما يقال عن المهدي من انه كان مجددا فمحض إفتراء لانه انما الغي العمل بآراء الفقهاء دون الاعتماد علي أي منهجية فلسفية او فكرية مفسحا الفضاء لهواه ومستقويا بسيدنا الخضر الذي ومن عجب شهد كرري وجميع المعارك، لا ادري ان كان هو الاخير قد اصبح متهما من قبل “ابو كلام” بالتقصير. هنالك قصصا احيانا تشرح عبارة “المشروعية” دون الحوجة الي التفلسف. منها ما يحكي من ان احد الاتباع وقد تيقن من الهلاك عندما رأي الانجليز يقربون، فقال للخليفة مستبطئا:”ما القرار؟”، فقال له الخليفة:”حتي يصدر الامر من الخضر.” فقال ضجرا: “انا معرِت بجريرتي سويتا، الخضر جريرتا اسواها شنو؟”.
الشاهد ان كرري كانت ابهي تجليات الموقف واخسها. هي الوسام الذي وضعه الطغاة في صدورهم قبل ان يلجوا الي قبورهم. لعل ما قاله الشيخ حمد النيل لخليفة المهدي مستنكفا الاهانة التي بلغته من اتباع الخليفة وممتثلا للإرادة الالهية التي اصطفته تلخص هذا الامر: “انا بموت وجتتي ما بياكله الدود وانت بتموت وجتتة بياكله الدود.” من الناس من رآي رفاة الشيخ يوم ان نقل بعد ان داهمته السيول فشهد بصدقه، لكننا لم نشهد بعد إن كان جسد الخليفة قد غمره البلل. كل ما نعرفه ان قبتي المهدي وخليفته قد اقتضتهما ضرورات المكانة وليست شواهد البيان. حقيقة، ان هذا الامر لا يهمنا وليست من شأننا فعند الله تجتمع الخصوم ويؤخذ من كل جاني حسب تجاوزه. ما يعنينا هو معالجة الفصام الذي يعيشه الاحياء، فلا معني اصلا لأن يدفعنا لزوم الاحتفاء بأناس لم نزل نضمر لذراريهم السوء ونمعن في اذلالهم بعكس ما فعل الجزائريون مع احفاد المجاهدين. ان الفتاة التي وضع ابيها رأسه في فوهة المدفع المكسيم تعمل ست شاي اليوم في السوق الشعبي ام درمان، اما الشخص (حفيد سيدنا النبي) الذي كان ضابطا في الحملة واحد قادتها فيملك جنينة في شارع النيل وما زال فاغرا فاه للمزيد، كما ان الضباط الذين كانوا اعوانا له فان احفادهم يتنقلون اليوم بين شرفات القصر الجمهوري. لقد عمق الانجليز الهوة اذ استحدثوا نظام السخرة الذي لم يسع الي تطوير الاتباع وتوظيف طاقاتهم مثلما ما فعلوا مع الساموري (المقاتلين العظماء الذي جزموا علي مناجزة الانجليز بالسيوف وملاقتهم “ضحي سماح الشوف” بلغة اهلنا البقارة، لكنهم اورثوا ابنائهم دقة ترجمها المستعمر الي مهارة هي ذخر اليابان اليوم وبراءة اختراعهم للنيسان والتويوتا) ((Movie: The Last Samurai))، قدر ما سعوا الي تحييد القيادة المهدوية ودعم نفوذها باغلاق نافذة التحرر علي الاتباع من غرب السودان خاصة، ومن ثم تكريس مفهوم الجهوية والعنصرية.
عندما تلام عصابة الانقاذ علي معاملتها غير الكريمة لأهل دارفور يقول متعلمون منهم امثال قطبي المهدي بأنهم لا يريدون للمهدية ان تكرر، بمعني انهم لا يريدون ان يكونوا تحت رحمة اهل الغرب ثانية. وهذا نوعا من انواع التجيير غير المرضي للتأريخ بل المجافي لحيثيات الواقع. اولا، ان الغرب عاني من الظلم اكثر من معانتكم منه، كما سنبين لاحقا. ثانيا، ان الخليفة لا يمثل الغرب اكثر من تمثيلكم للشمالية. ثالثا، اذا كانت المهدية قد امعنت الدخول الي البيوت بغير ابوابها باستمالتها لاناس مثل ودنوباوي الذي تأمر مع الجهادية علي اقتياد سيد قومه وضرب رأسه بالسيف مستلذا بأسر نساء الكبابيش واذلالهن، فانكم قد كنتم اكثر تصميما اذ ازمعتم علي صياغة المجتمع بطريقة شوهته واضاعت مضمون رسالته. ان الانقاذ هي الوريث الشرعي للمهدية ليست فقط من حيث الجنيولوجية الفكرية انما ايضا من حيث تطابق النماذج البشرية.
لكي نعالج اثار هذا الانفصام بين ما نحسه تجاه المعركة وما نعقله من حيثيات سبقت وقوعها بالجرأة والامانة اللازمتين يجب ان نحترف بأن الاقتصاد الكولونيلي مدعوما بالالية العسكرية قد كرس لتبعية سياسية لم تزل هي السبب في نوع الاحتقان الاجتماعي الذي نعيشه اليوم، لعلها اللعنة التي اصابتنا بوطء الباصات والمارة لقبور الشهداء في موقف الشهداء ام درمان، بل الادهي التبول علي شواهدها دونما علم او علامة (الامر الذي نوه اليه مرارا الصحفي محمد عيسي عليو في عموده الاسبوعي).كما يجب ان نقر بجفاء الموقف السياسي عشية كرري عن أي موضوعية تستلزم عقد مفاصلة وطنية. فمن الرجال من لم يكن له خيار وهؤلاء هم الامراء (انطبق عليهم المثل: اضاغوا حلوها يضوغوا مرها)، ومنهم من سما فوق مستوي المناجزة الدنيوية الي مستوي المفاصلة الاخروية (نصرة المسلمين علي المشركين) وهؤلاء هم عوام السودانيين، ومنهم من آنف من خوض معركة خاسرة، كما رفض المرافعة عن قيم باطلة مذ اعليت رايتها مستندة علي قهر الرجال واذلالهم. لقد مات الشيخ حمد النيل وهو مقيدا بالسلاسل، كما ان اخرين طوبوا (اغلقت عليهم بناية من طوب دون اكل او شرب حتي الممات) لا لشئ الا انهم قالوا للاعور انك اعور في عينه ولو انهم فعلوا غير ذلك ما كانوا سادتنا وكبرائنا.
عشية الاستعداد للمعركه لم يجد الخليفة بدا من الاستعانة بالقيادات القبلية والتي كانت رهن الاعتقال. فقد اخرجت زعامات الشكرية والعبابده والجعليين كما اخرج اخرين من قادة الغرب امثال سنين الرضي زعيم التعايشة وعلي دينار زعيم الفور وأخذ عليهم الميثاق بأن ينضموا الي صفوف الجند بعد ان ازيحت عن ارجلهم السلاسل التي مكثوا تحت وطئتها ثلاثة عشر عاما شملت قتل الاباء وترحيل الاهل والرعايا، لكن الخليفة لم يكن ليطمئن لهم فوضعهم تحت الرقابة اللصيقة لعلمه ان كل قد اعد عدته للانسحاب قبيل انطلاق المدفع.وعزم في طلب الرزيقات (الجكره العزاز جيزان السروج، هكذا يسميهم أبناء عمومتهم) الذين يتكون منهم جل الجند؛ان كانت القبيلة لتستعرض الخمسين، المائة والمائتين وكان عيال رزيق يستعرضون عشرة الاف فارس. اليك الحوار الاتي بين الخليفة ومندوب الرزيقات والذي يلخص المحنة في غير لبس.
الخليفة: دايرنكو تداوسو
المندوب: نداوس ياتم
الخليفة: تداوسو الترك
المندوب: الدابي ما بداوس بلا رأس
الخليفة: راسكو ياتو
المندوب: ما عندنا راس بلا ود مادبو
ومن هنا كان قول الحكامة: (الجمرة وقعت في الحزة الزول بلا الاهل شن عزة)
ارسل الخليفة في طلب سلطان الصعيد (لقب موسي ود مادبو الذي اشتهر به وسط اهله) الذي اسندت اليه قيادة احدي الحملات الاستكشافية بغرض التخلص منه وفي معيته احد الجند من التعايشة. ما ان رآهم سلاطين باشا بالنظارة المقربة حتي امر بالتنشين فقتل رفيق موسي مادبو، احتمله موسي حتي وضعه علي الفرس ورجع به الي الخليفة. وقال لهم مقولته المشهورة “كان دورتوها بقت وكان ما دورتوها بقت.”
لا يلزمنا مطلقا محاكمة الرجال (او مناجزة الامم التي خلت) انما تقصي (حتما ليست تقفي) اثارهم كيلا يكون ارثهم عالة علينا،ولا نغتر بإستشهادهم فيغنينا ذلك عن النظر الي السبل التي اودت بهم الي هذا الختام فنكون عالة عليهم (فلا بد للمعني من بيت يحميه كما يقول ادونيس). وإذ هو تأريخ للبشر فلابد ان تعتوره النقائص التي في حد ذاتها زادا لاحاجي طريفةومادة لقراطيس شفيفة.مثلا، لا يهولني بالمرة إكتشافي ان عبدالقيوم الذي تسمي احدي بوابات امدرمان بإسمه كان قواداليست قائدا كي لا تلتبس علي القارئ الحروف لعلية القوم، كما لن تنتقص من اقدارهم الهفوات (ابراهيم فوزي، الخرطوم بين يدي غردونوكتشنر، 2000). اما ان نلبس هذا التاريخ قدسية فامر دونه المغالطات التي تحرمنا من استخلاص العبرالاتية:
1/ إن مجاعة سنة ستة لم تكن لتحدث لولا الحروب التي اشعلتها المهدية في الريف، واصرار الخليفة علي تزويد جيوشه ومعاركه الخاسرة عنوة بصوامع اهل الجزيرة. هؤلاء المسالمين الذين ظلوا نهبا لكل العهود. سئل احد مشيخة العرب عن سبب تعسر مشروع الجزيرة في بداية عهد الانقاذ فأجمل قائلا “اذا طلَعنا شوالين، واحد بياخدو شويطين يزود به المجاهدين في حربه ضد الجنوبيين، وواحد بياخدو مسيكين (كان وقتها) يستعين به علي شؤون العاملين.” الشاهد ان الحروب التي تقودها الدولة هي سبب غلاء الغلة اليوم.
2/ إن محاولة الخليفة لتجييش المشاعر العنصرية والجهوية لم يمنع ثورة اهل الغرب عليه، اولهم الامير مادبو ود علي الذي رفض إمرة الدهماء كما رفض فجور الامراء. إن صعود القادة وتسلقهم من خلفيات بائسة معنويا وماديا يجعلهم عرضة للإغراء خاصة في نظم تفتقر الي السبل المؤسسية للتصعيد.
3/ خطورة الانظمة التي تأتي الي الحكم بدواعي الفضيلة، لا يختلف كونها الدولة الخمينية في ايران او تلك المهدوية في السودان، انها تمعن التواري وراء هذا الشعار لعجزها عن مناقشة الاسباب الموضوعية (سياسة كانت ام اقتصاديه)والتعرض بالنقد لما قد يصيب المجتمع من اضمحلال اخلاقي سببه احتلال الدولة بالكلية للفضاء العمومي وحرمانها المواطنين من حقهم في مناقشة العقد الاجتماعي. كان النبي صلي الله عليه وسلم (ولم يكن غيره يوما)يحرص علي مناقشة العقد الاجتماعي (وإن كانت هذه لغة مستحدثة) كمدخل للأخلاق وليست العكس. وهذا لعمري هو الفرق بين الدولة الدينية وتلكم المدنية التي ندعو اليها. هل نكون بذلك قد شذذنا عن الافاق العالية والبعيدة؟ لا احسب. فعندما نقول ان الاخلاق السودانية علي ايام “ابو صليب” كانت افضل من اليوم فهل يعني هذا اننا ندعو الي تقنين الدعارة؟ لا، لكننا نقول ان دفع السياسة اخلاقيا اوجب واولي من دفع الاخلاق سياسيا. هل فكر احد في الاسباب التي ادت مهدي مصطفي الهادي مثلا الي إغلاق “البيوت” تعسفيا مما ادي الي تفشي هذه الظاهرة لتشمل البيت بجلائه ووسعه بعد ان كانت محصورة في نطاق معين؟
حرضتنا يوما استاذتنااليهودية وصديقتناالامريكية Peggy Kohnعلي مشاهدة فيلم (Twelve Angry Men) والذيخلصنا منه كطلبة علوم ادارية الي ان المشتغلين بالشأن العام في مسعاهم لحسم المعارك السياسية الادارية انما يسعون للتشافي احيانا من علل شخصية.ان قادتنا في حوجة للعلاج النفسي (psychotherapy) نسبة لما عانوه من ظروف قاهرة (الكل يحتاجها بدرجة اقل)، اكثر من احتياجهم الي قرارات عسكرية تحيل اكثريتهم الي الدروة، حبذا لو تشيد واحدة في ميدان ابو جنزير (ولي من اولياء الله وفرد من افراد قبيلة الحيماد قدم من تشاد لنصرة المهدية. حاول الانجليز نقل جثمانه فخاطبهم بقوله “قامت نقوم”، ولم يزل اعوانهم يرتعبون من المساس به. لعل الطغمة الحالية تحاول إزالته بعد ان اخبرتها بأنه غرباوي، وهي تستنكف لأحدهم ان يشيد منزله في قلب الخرطوم ناهيك عن ضريحه)!
لا يخفي علي القارئ ان الشذوذ الجنسي الذي ادعي المهدي انه جاء لإبطاله قد انتشر في زمن خليفته، الذي لم ينكر وجودهم مثلما فعل احمد نجاد بل قال لهم معاتبا “بي الله كلامكو حُلو لكدين فعلكو شين.” اعلنالاخير في مؤتمر صحفي بقاعة الامم المتحدة بنيويورك بأن ايرانقد تعافت تماما من ظاهرة اللواط (تخيًل ان بلدا بحجم ايران ليست فيه واحدا من ناس “كلامكو حُلو لكدين فعلكو شين”) وعندما سئل كيف، لم يتعرض لدراسة الظاهرة سيسيولوجيا، انثروبولوجيا او بيولوجيا كأن يقول ان العلة متوارثة جينيا وغير مكتسبة بيئيا، انما اكتفي بإحالتهم الي سجل الاعدامات. بهذا يكون نجادي قد اصبح اكثر غيرة علي الحرمات من الذات العلية نفسها والتي لم تزد علي ان قالت في شأن هؤلاء “واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا واصلحا فاعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما” (النساء: 16).
وهل ما يفعله هذا الموتور وصنواه في سوريا او سودان بأقل دناءة؟إن تنكبهم لتأريخ هذه الامم العريقة هو بمثابة إتيانها في دبرها، كما ان التلذذ بقهرها وهي تقاوم دون ذات جدوي هو بمثابة الاغتصاب المعنوي لها؛ وان هي استمرأت اسقاطها وادراجها العسفي لقيم غريبة عن ثقافة هذه الشعوب فقد اضلت اجيالا إذ الزمتها سبلا ولقنتها حججا نزلت في غير موضعهاونأت بها عما هيأت له من تلقي فطري للطبع السديد، سيما الاستمتاع بمجال الطبيعة الراشدة. هنا تبرز جليا آفة الشخصية المازوخية التي تتخذ من الفضاء العمومي ساحة لتفريغ عاهتها الاخلاقية، وتستبين أهمية الجنسانية كمادة علمية تقيم علاقة عضوية بين السلطة والجنس، الجنس والروح، الروح والاخلاق.ولننظر الي طبيعة الحوار بين الجهادية وقائدهم محمود ود أحمد الذي انتدب لإخضاع عبدالله ود سعد وحمله علي الدنية.
الجهادية: بنراعيك طولت
الامير محمود: الجماعة ما متنازلين
الجهادية: الشورة شنوا
الامير محمود: كان بتاخدوا رأي….
الجهادية قاطعوه: بناخد رأيك كيف ما بناخدوا رأيك
الامير: كان بي شورتي الرجال جلك (حربة) والعيين فلك (ذكر)!
بالرغم عن ان هذه الجموع تعللت باعتراض عبدالله ود سعد للحملة إلا ان بعضهم تسلل معطيا ظهره للمعركة وقد اكتفي البعض الاخر بما ناله من وطر لا ما حازه من اجر. عندما سئل احد “الانصار” وهو علي هيئه “الجهادية” (تغطي صلعة رأسه طاغية ضب الكوك، له لحية كثة، ومنتعلا فسية حدية) عن هذه الحادثة، قال “الجعليات وقعن فيهن طمر، بس الله يكتر الاجر!” (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون علي الله ما لا تعلمون). هل تختلف هذه الحادثة عن قول “القاتل الخائف” عندما سئل عن المعرة وهتك الاعراض، فقال متبجحا “الفوراوية لومهرا جعلي ماذا كان يضيرها؟”هذه اعراض لأمراض كامنة في الشخصية السودانية يؤدي نكرانها الي المزيد من توهجها.فهلا سعينا لعلاجها اليوم قبل الغد.
نشكر للشيخ حسن صنيعه–الذي تبدي في الانتداب العسيف لهذه الفئة والتي اختارها بعناية فائقة اذ لم يشذ احد منهم عن مقتضي اللؤم، فلولاه لظللنا نؤمن بنجاعة الحل الديني ولمكثنا نؤمن بجدارة القائد الاسطوري (راجع الثقافة والسياسة لعبدالرحمن منيف). وهذا مثال كلاسيكي يعرضه الاستاذ علي طالب العلم السياسية ليشرح له طبيعة التفاعل بين العضو(Agency) والبنية (Structure).فالتغير البنيوي مهم لكنه لا يكفي لازدهار القيم الليبرالية الا اذا عمل اصحابها علي ذلك مستغلين الانفراجة التي قد يستغلها اخرون للذهاب في الاتجاه المعاكس. مثلا، لقد كان للحملة الاعلامية وتبدل الظروف العالمية دورا في فضح تناقضات الامبريالية لكن صمود مانديلا هو الذي ساهم في فرض شروط عادلة للصلح، وقد كان من الممكن ان يرضخ للضغوط التي كانت تمارسها النخب العالمية لولا عزمته لامضاء صلح الاحرار مع الاحرار وليست صلح العبيد مع الاحرار.
عوضا عن ممارسة العادة السرية وإستدراكا لما يترتب عنها من امراض جسدية ونفسية، فقد اثرت النخبة في بلدنا العزيز هواية جمع الطوابع والتي تحوي ايضا مناظر خليعة لنساء متعريات في سن السبعين، فالعادة سميت عادة لانك تقنع منها بما جنيته من لذة في المرة الاولي.انظر الي هذا المثقف البديع يرتاع لما حدث في قصر الضيافة ولا يكلف نفسه مقاطعة مقالته العبثية للكتابة عن الأطفال الذين قتلوا غيلة في مدينة نيالا، الآثمة هي الأخري، لانها لم تكتف باستضعافهم انما ايضا قتلتهم؛ هذه المرة، بأيدي من قدموا لتقنين سياسية الفصل العنصري. ها هو د. عبدالله علي إبراهيم — المثقف الذي نكن له كل الود والتقدير لأنه وإن لم ينج من مثلث التواطؤ، فقد رفض بكل إباء أن يمتثل للأطر الكلاسيكية للتفكير — ينبري في عدة حلقات صحفية ليحدثنا عن مأساة بيت الضيافة في وقت تقتَل فيه أطفال المدارس في نيالا بأسلحة ميدانية لا لشئ إلاَّ لانهم طالبوا بحقهم في حياة كريمة. هؤلاء الأطفال حري بهم أن يحدثوا إنقلاباً مفاهيماً لم يكن ليحدثه الكبار: القاتل منهم والمقتول في بيت الضيافة.فهل وعينا الدرس؟ من الطريف ان لعبدالله شبه حسي بديكلرك (وقد يكون معنوي ايضا له صلة حتما بطريقة التفكير البراغمتي عند عبدالله، حتما ليست الميكافيلي)، لعله من اعدته العناية الالهيه لانقاذ فصيلته التي قاربت الهلاك.
وهم، أي رجالات الامن، إذ يفعلون هذه الفعلة الشنعاء المتمثلة في قتل هؤلاء الابرياء فإنهم يحسون بأن هنالك ثمة 1500 كيلو متر تفصلهم عن آمهاتهم، ولذا فهم يتحصنون بالمدينة ولم يخرجوا خرجه لملاقاة “التمرد” أو يفتعلوا فعلة مع “حرس الحدود” إلا لاذوا بالفرار وضموا أذنابهم بين أرجلهم الطويلة.إنها جماعة الأمن التي يحسن بنا إستئصالها حتي يمكننا العمل علي جمع شمل اهل دارفور والإستعداد مجدداً للتحرك نحو المركز. فإنا إن إستمرأنا هذه الحالة (حرابات وفزع وقطع للطريق) فلن يتحقق المقصود (علي الأقل من ناحية الانتصار للمستضعفين).إن عيال (ام شطيطه)، او الطغمة التي ظلت تتحكم في امر البلاد منذ الاستقلال، لا يمثلون اكثر من اثنين في المائة من جماهير الشعب السوداني وسيخضعون للإرادة الجماعية بعز عزيز او بذل ذليل. رجائي ممن بقي من الاحرار ان لا ينخذلوا فإنما الشجاعة صبر ساعة وقد قاربت علي الانقضاء.
لقد اسعدني قرارا اتخذته المحكمة الهندية مؤخرا برئاسهجوتسانايانار (JGutsnaYanir) في شأن المذبحة التي راح ضحيتها (2000) مسلماً عام 2002، والتي قضت مؤخرا بسجن الوزيرة مايا كودناني (MayaKodnani ) سجناً مؤبداً، وعلى آخرين متهمين بالإسهام في قيادة حملة كراهية انتهت بمقتل (32) مسلماً واصابت 2000 أخرين. ها هي الهند العلمانية تنتصر لحقوق الاقلية، في حين تعجز النظم الدينية (الإسلامية منها في السودان)عن مجرد التحقيق في مقتل (450000) آلف مسلما/سني/مالكيٍ/تيجاني او انصاري من اهل السودان الاصليين غير المجنسين او المدجنين(Gulf times;September/2012).
انني من هذا المقام ادعو للتحقيق في كافة الجرائم في السودان، ابتداءا من مذبحة الضعين، لان ذلك يحمل المجرم تبعة جرمه ويبرئ البريء من تحمل تبعات الوزر الجماعي. سألت مجموعة من الصحفيين الأجانب (الذين صحبوا زوليك –نائب وزير الخارجية الامريكية– في زيارته لدارفور عام 2006) الناظر سعيد محمود موسى مادبو عن سبب انخراط العرب في مليشيات الحكومة (إذ كان بعضهم يتعامي عن إحداثية الفرق بين الجانجويد والقبائل العربية)، فأنبري لهم قائلاً لها: الم يكن لديك انتم معشر الامريكان قبل ان تنجحوا في توطيد سبل العدالة مجموعة من المجرمين تقطع الطريق على الأمنين وتؤرق مضاجعهم يسمون الكاوبويات (Cowboys)؟ فلم تتمالك إحدى الصحفيات الأمريكيات نفسها من الضحك أعجاباً بنباهه وليست سخرية من هذا البدوي العظيم الذي قاومتحريضات المركز وإغراءاته لسفك دماء الزرقة (الزنج)مختارا الامتثال لقيم السماء (وما عند الله خير وابقي للابرار)ومنحازا لسماحة أبائه الذين امضوا اربعمائة عام يحيكون نسجا فريدا من الشملة الانسانية ذات الالوان الباهية (ولقد ارسلنا نوحا وابراهيم وجعلنا في ذريتهما الكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون)((الحديد: 26)) لم تأنف الامبريالية الاسلامية عن تمزيقه في اربعة اعوام، مزق الله عراهم وابتلاهم بالفتن. سأظل مستمسكا بهذا القلم زودا عن الحق وتبرئة لمعشري عن الباطل لا يضرني من خذلني ولا يهولني بطرُ من نصرني ما زالت المحمديات يذكرنني بالمعروف ولمتزل في الروح باقي.
في لقاء بيني وبينه في مكتبهبالخرطوم (وان كان غيابه عنها ليغمها بالغيوم –غيوم الجهل وظلمة الاستبداد) استنكف د. حيدرإبراهيم مجرد ترشحينا للناظر سعيدمادبو لجائزة نوبلعلماً بأن جائزة نوبل أعطيت فيما بعد لناشطات ساهمن في ساحات الربيع العربي ودافعن عن المثلث الذهبي ذاته (مثلث الحرية والعدالة والسلام). لكنها، اي نخب الوسط النيلي، لا تري شرعية لمرافعة دولية إلا التي تخرج من دوائرها الفكرية (ان لم يكن تمرسا بالفكر فمراسا بالعقل الباطني). لكننا تجاوزنا المرحلة التي نسعى فيها لنيل الاحتراف من مثقفي المركز، إذ نعمد من هذه الكتابة والخطابةلإحداث تواصلاً مع جمهورنا، جمهورا هو الاعرض في السودان، جمهور الريف المتغافل عن ذاته، المتهافت على غلاته (من الغلة وهي العيش؛ نلتمس له العذر في ذلك من انفسنا ومن الله ذي الجمال والبهاء لأنهم ابتلوه بمحنة تذهل المرء عن نفسه، سيما علاقته بربه إذ انه لا طمأنينة لجائع ولا هدي لمرتاع). متى ما حدث التفاعل فإن الرجال سياد الشرك سيتجهون صوب المركز بحدس الرسالة لا بمرارة الغبينة. لا ننسي ان نقول بان نظرتنا لم تحيد عن القومية بمعناها الشمولي قيد انملة فقد رشحنا للسفارة الاسبانية، بناءا علي طلبها منا قبل سنوات لجائزة مليكهم، الملك رحمة، ملك الفاشر الذي بلغ التسعين في انتظار ان يستضاف في برنامج اسماء في حياتنا(اي حياة واي أسماء تلك)؛ والمقدوم عبدالرحمن احمد ادم رجال مقدوم نيالا الذي اهانتة السلطة الانقاذية لا لشئ إلا لأنه رفض ان يستخدم لتدجين إرادة اهله ولم يرض بغير الانصاف سدادا لحرمة اهله التي لم تقر العصابة بمجرد انتهاكها حتي هذه اللحظة.
لقد ظل أهل الكاتب بحماستهم المعهودة، أيام حربهم ضد الجنوبيين، يلهجون بمقولة عنصرية: “العبد جوَدا رأسا”. الطريف أننا من جوِد في آخر المطاف. فها هو باقان — فتى الشلك العظيم — يستقبل وزير خارجية فرنسا في عاصمة دولته جوبا، وأنا يقوم باستجوابي العقيد/محمد عوض في مدينة الضعين لا لشئ إلا أنني حاولت استثارة قومي. (لقد اسمعت إذ ناديت حيا……. ولكن لا حياة لمن تنادي). لم يكن لشايقي من حجر العسل أن يجرؤ على استجوابي في دار الرزيقات (دار عيال موسى) لولا أن الكيان بات مخترقا من الغفير إلى الوكيل.لم يكن باقان بأكثر شجاعة منا إلا أن الاستعمار (استعمار الانجليز وغيرهم) قد ترك له بقية من أحرار يخوض بهم المعترك. فالجنوبيين تلقوا هزائم عسكرية عديدة، لكنهم لم يتلقوا هزيمة معنوية واحدة، ذلك أن الجنوب ظل محصنا بالغاب ضد الخرافات الدينية والاباطيل التأريخية. انظر حال الشلك الذين انفوا من مجرد رفع المفتش الانجليزي إصبعهم في وجه سلطانهم ولم يأتي المساء حتى دقوا نقارتهم بيده الدنسة واتخذوا من هامته المستبدة محورا في دائرة رقصهم. هل هناك كرامة بعد تلك؟ اما زلتم تظنون ان العرب قد خصوا دون غيرهم بالكبرياء؟(ايتوني بكتاب غير هذا او اثارة من عام ان كنتم صادقين).
ثالثاً، إن الطائفية بتصديها لقيادة المظاهرات التي حدثت مؤخراً قد وئدت الإنتفاضة في مهدها، بل إن دخولها أساسًا كان القصد منه وضع التظاهرة في حدود لا تنذر بحدوث نفرة آمنية يمكن أن تتسرب منها قوي الريف السوداني (ما هو مستكين داخل القوات النظامية منها وما هو ثائر)فإن تجارب ليبيا، العراق وسوريا قد علمتنا بأن الأنظمة العقائدية لايمكن إزالتها إلاَّ بالقوة، إمَّا الإستبدادية (غير الشمولية) مثل مصر وتونس فيصلح معها إسلوب الإنتفاضة الشعبية لأن طبيعة هذه الأنظمة لا تتطلب بالضرورة إعدام قنوات المجتمع المدني، إذ أن الحاكم يعاني شغفاً للخلود لكنه لا يؤمن بالحق (المطلق) في ترسيم الحدود الوجدان.
لقد كانت الإنتفاضتين الأخيرتين (اكتوبر وابريل) في السودان بمثابة حث لأوراق الشجرة، أمَّا اليوم فقد أيقنت الجماهير بأنه لا محيص عن إزالة الشجرة التي إن استعصت علي كل عجول فلن تستعصي علي المتمهل الذي يتبع اسلوب “أم بحتي”.
الخاتمة
إن ممَّا يعيق إمكانية تأطير الوعي الجمعي في هذه اللحظة هو وجود تؤاطو تاريخي (أشار إليه المرحوم إدوارد سعيد في كتاباته الكلاسيكية عن الإستشراق علي المستوي العالمي والاستاذ حامد علي محمد نور علي المستوي المحلي) بين السلطة، الثقافة والمال. لعل الإنقاذ كانت أكبر إعانه في كشف هذا التؤاطو لأنها أزاحت الوشاح عن القوة المهيمنة فكشفت إرتباطاتها عن تحالفاتها الإستراتيجية. إن الوثائق البريطانية تثبت أن المكتب السري للحاكم العام كان يدعم بعض قيادات “الجلابة” في دارفور ويسندهم برأس مال يهئي لهم إمكانية ترصد أي مقاومة يمكن أن تحدث من خلال التواجد المكثف في المحافل، الدعوات والمناسبات الإجتماعية (لقاء خاص مع أحمد إبراهيم دريج وشريف حريري في مدينة سينا الايطالية، صيف 2011).
لقد أدرك الإنجليز بذكائهم أن القوة المستترة أجدي وأنفع من القوة الظاهرة، لأن الأولي تعين علي الإستدراج أم الأخيرة فتستدعي المقاومة، خاصة إذا ما كان التعدي علي الشياب، النساء والقصر. أود أن أنوه هنا إلي أهمية التمييز بين “الجلابة” كأعوان للمستعمر وبين الجلابة كعنصر أصيل وفاعل، بل ومكون هادف من مكونات التركيب السياسي والإجتماعي لدارفور. إن أهالي دارفور كانوا يدركون بحسهم الصادق الفرق بين أولئك وهؤلاء. أمَّا اليوم فإن إستطالة الفقر المادي قد إصابتهم بفقر معنوي جعل بعضهم يظنون إن هذه المجموعة الإثنية الحاكمة قد خصها الله (وليست روبرت هاو، الحاكم العام السابق إبن عمة او خالة الحاكم الحالي في الحسبة المعنوية ) بعناية هيئت لها وليس غيرها القوامة!
لا داعي لمجرد التفكير في إزالة النظام إذا كنا لا نملك الرؤي التي يمكن بموجبها تفكيك المنظومة. لا سيما أن البنية الإستعمارية (القديمة والحادثة) تهيئ لمجموعة معينة إقتناء المال الذي يعين علي توافد الأفكار. إن ما نحتاجه هو توظيف رأس المال حتي يتمكن الريف المهمش والمستلب من الحصول علي إستقلالية إقتصادية، يستطيع بموجبها تكوين مراكز للدراسات الإستراتيجية، دوائر للتنوير المعرفي، ودور للنشركي لا يكون تحت رحمة الاخرين. ينطبق هذا علي غرب البلاد كما ينطبق علي شرقها، شمالها، جنوبها ووسطها. إن تحقيق الفدرالية السياسية منوط بالنجاح في تحقيقالفدرالية الاقتصادية والثقافية. متما ما تخرج جيل من الفلاسفة والمفكرين فإنه سيستطيع كتابة التاريخ من منظور أقني واغني يفند حيل الإحتواء الماجن للثقافة والإنسان.
E-mail:[email protected]