المثقفون السودانيون من السخط إلي المقاومة

حيدر ابراهيم علي
يكون السُخط في بعض الاحيان شعورا ايجابيا ولكنه هروبي في نفس الوقت .فهو أقرب إلي تطهير الروح وينقذ الإنسان من شعور **** يسمي الإحباط يقود إلي الانسحاب الكامل وعدم المواجهة،والتراجع عن المقاومة،ورد العدوان سواءا كان ماديا أو معنويا بمثله.فالساخطون قوم أذكياء وشديدو الحساسية،ونبلاء،وجادون،والأهم من ذلك كونهم صادقين.وللمفارقة يجئ تأزمهم المؤدي للسخط بسبب تحليهم بهذه الفضائل!وهذا وضع مفهوم حين يتدهور المجتمع ويبتعد ناسه عن تمثل هذه القيم،ويصير الأدني هو الأعلي والعكس. ويكون السفلة هم الأغلبية والسادة.وهنا يشعر نبلاء البشر وأصحاب القيم بأنهم غرباء في هذا الوسط الذي يسود فيه السفلة والمنحطون،وينقلب سلم القيم،ويطفو البغاث،ونحسب الشحم ورما.وهذا الاغتراب هو الذي قصده :شيخ الساخطين –أبو الطيب المتنبئ،بقوله:-
أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـ ـهُ غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
وفي نفس المعنى يقول(صالح عبدالقادر):- سبقت أواني كالمسيح بن مريم فانكرت في دنيا المهازل ذاتي
خلقت غريبا في بلاد عجيبة إلي العزم ما متّت بأي صلات
وما عرفت إلا بجهل وفاقة وما اتسمت إلا بطول سبات
تميز مثقفو السودان بشعور واضح بالاغتراب النابع من غربة عن مجتمع شديد المحافظة وعنيد في مقاومته للتغيير والتحديث.ولديه آليات شديدة الفعالية في تدجين المجددين المتمردين، والذين يتحولون بسبب الخوف،والسطحية،وعدم الصدق،هم أنفسهم الي جزء من آليات التدجين والمحافظة لائذين بحضن التقليدية والماضوية الآمن.ويردد لسان حالهم:جنا تعرفه أخير من جنا ما تعرفه!ولذلك،استحق السودان لقب بلاد الآمال المؤودة ،وليس بلاد الشمس المشرقة-كما تقول سفرياته الجوية,فقد انطفأت كل شموسه(مالو في االافلاك في ظلام؟)بل هو بلاد الأعمار القصيرة وغير المكتملة:التيجاني يوسف بشير(1912-1937)أي25سنة فقط،ثم (الامين علي مدني)من1900حتي1926 أي عاش26 عاما،ثم معاوية نور(1909-1942)أي عاش33 عاما فقط.ظاهرة الموت المبكرة وترافقها المعاناة :المرض،العزلة،الفقر:-
كذاك بلادي كلما ذر شارق علي الأفق لم يعدم من الدهر راميا
وقد يمكن تتبع ظاهرة الموت المبكر ،ولكن هناك ظاهرة الانتحار العقلي حيث يتراجع المرء عن كل مواقفه ومبادئه التي عاشها سابقا،ويتبول علي تاريخه.وتظهر “أزمة منتصف العمر”في تغيير أفكاره أو يتوب وكأن كل عمره كان حراما ويستحق التوبة والمغفرة.وال‘نسان بهذا الاسلوب يدين كل ما فعله، وتتحول كل حياته الماضية إلي هباء وآثام.فهو إنسان بلا ظل بلا تاريخ،ويبدأ خرفا مبكرا ويعيش في خسران كامل،لأنه ليس له ماض ولا يعرف شيئا يسمي المستقبل علي الأرض.هذا من قصده القائل:-
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الاحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا
كاسفا باله قليل الرجاء
المثقف السوداني التائب هو صورة مقلوبة لدكتور(فاوست)لأنه يقايض ما تبقي من حياته ولكن مع شيطان يظنه ملاكا.وكيف يكون ملاكا وقد اشتري منه كل عمره الفائت وتاريخه بثمن بخس أو بشيك مؤجل؟
أما الساخط فهو متمرد رافض قلق ولكن ينقصه الفعل،ولذلك يشقي ذو العقل والوجدان الطيب كثيرا،بعقله وقلبه.فهو يعرف الخطأ والاعوجاج ولكنه عاجز عن التغيير بيده،ويكتفي بالتغيير بلسانه وقد اختار أضعف الإيمان طواعيه.لذلك، فقد انتج السودان كثيرا من الشعراء الساخطين لأنه بلد قليل الجمال والحرية كثير القيود والممنوعات والمحرمات.وبالمناسبة تواطأت الطبيعة مع المجتمع وحرمته من عطاياها من مناخ، ونبات، وطيور،ونساء. وقد خبرأصحاب(موت دنيا) ذلك الوضع القاسي،ولكن بحثوا عن سبل غير السخط.يكتب (المحجوب)و(حليم):-“لقد عدنا من جديد نبحث عن العلل الدفينة في المجتمع،ونفكر في العلاج حتي لا نجرم من نعمة التفكير والعلاج.إنها حياة السأمة والملل هي التي أخرت ومازالت تؤخر الآداب والفنون”وبعد زيارة للقاهرة التي وجد فيها”مرح المدنية المنظم،وجمال العمارة وجمال البشر”يثور صائحا:-“أمّا هذه الحياة التي خلت من جمال الطبيعة ومن إبداع الانسان،فما افسدها من حياة يذبل فيها الفكر ويفني كما يذبل ويفني النبات في الجو غير الملائم”.(ص،102-103).وهربوا الي مجراب الفن والأدب:-” وإذا كنا نحن محرمين من مباهج الحياة ومقوماتها فلا أقل من أن نعني بما يخفف بعض الشئ من مرارة الحرمان،وإذا لم يكن في ميسورنا ان ننشئ(نادي الفنون والآداب)نظرا لقلة الذن سيقبلون علي الانتساب إليه،ولان بيئتنا لم تنته بعد إلي هذا اللون من اللذات المعنوية”.(ص104).واكتفي جيلهم بتكوين جماعات صغيرة لتذوق الآداب والفنون،وتهذيب الاذواق.ويتحدث بمرارة عن هذه التجارب التي لم تستمر طويلا”حيث دب الفساد إليها،وأرسلت الرجعية الاشاعات عنها،وأخذت معاول الهدم تعمل فيها،وضعفت نفوس وخارت عزائم،فأذن مؤذن الخراب،وانفرط العقد،وعدنا إلي حياة السآمة والملل ولكن إلي حين”.وكان هذا الحين حتي قيام مؤتمر الخريجين.
هذه الرجعية كانت تمثلها في الريف القبلية، أما في المدينة فقد قامت المؤسسة الدينية بالمهمة.فقد لعبت المؤسسة الدينية دورا كبيرا في تضييق الحياة وتصحر الروح وتخفيفها – للمفارقة! وكانت هذه المؤسسة بمعاهدها الدينية،وقضاتها الشرعيين،واخيرا أحزابها السياسية الطائفية؛تمارس وتجيد صناعة الموت والبؤس. وهنا يذكرنا(جماع)بأصلنا ونظرية “تطور” الإنسان السوداني:-
خلقت طينة الأسى وغشتها
نار وجد فاصبحت صلصالا
ثم صاح القضاء كونى فكانت
طينة البؤس شاعراً مثالا
ليس البؤس والكآبة فطرة أو طبيعة سودانية،ولكنها ثقافة رسختها تلك المؤسسات بمثابرة وصبر.عندما يجد السوداني الظروف المواتية،يمكن ان تفتح قدراته،وقد
أحست المؤسسة وأخواتها بالخطر.لذلك،كان عليهاأن تزيد شراسة وعنفا.وهذه القصة كثير الدلالات لمن يبحث عن اسباب خمود شعلة الحياة والعقل في دواخلنا،وضياع الامكانيات المفتوحة والتي لا تحد:
“سأل مندوب بال مال جازيت،الشيخ محمد عبده،في العدد الصادر17/8/1884 عن العصبية بين السودانيين،فكان جواب الإمام:-“ليس السودانيون أكثر تعصبا منّا فحينما كنت اعلم الفلسفة في القاهرة كان كثيرون من الطلبة المصريبن يخشون حضور دروسي متعصبين”.(عبد العزيز عبدالمجيد،تاريخ التربية في السودان،ج2 ص97).
كانوا يقبلون علي المعرفة ولا يخشونها.ولكن عند العودة ،يبدأ الانطفاء وثقل تقليدية المجتمع في الداخل،يعمل عمله.وعندها يظهر الساخطون والمتمردون،بعد أن أخمدوا يقظة النفوس فاحاطها نوم-موات بعيد من الحياة والحيوية.يقول(التيجاني):
ونفوس سجي الكري في حواشيها ودب الفتور في الأرواح
هذا هوحال المثقفين السودانيين:نفس نائمة وروح وفاترة.ولكن(التيجاني) لهم أن نفسه غير قابلة للخضوع والوأد البطيْ،لأنها:
هي نفس إشراقة من سماء الله تحبو مع القرون وتبطي
موجة كالسماء تقلع من شط وترسي من الوجود بشط
خلصت للحياة من كل قيد ومشت للزمان في غير شرط
كلما اهتاجها الحنين استظلت بحبيبين من يهود وقبط
وقد كان المعهد العلمي خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي،من أقوي معوقات الانفتاح والحرية الشخصية. لذلك، كان هدفا لكثير من هجوم المنتسبين اليه وليس من خارجه،وذلك لسبب بسيط هو أنهم خبروا اساليبه وعانوا مباشرة من قهره وعنته.وهناك من يعتبر المعهد ضحية رغم ما فعله بالتيجاني والقاضي(راجع عبدالله حمدناالله:المعهد العلمي والكيد الأكبر،الصحافة4/4/2007)ومع ذلك استمر وفاء(التيجاني)لمعهده،والذي مارس عليه مبكرا الابتزاز والترهيب:-
حتي رميت ولست أول كوكب نفس الزمان عليه فضل شهابه
قالوا وأجفت النفوس واوجفت هلعا وهاج وماج قسور غابه
كفر ابن يوسف من شقي واعتدي وبغي.. ولست بعابيء أو آبه
قالوا احرقوه بل اصلبوه بل انسفوا للريح ناجس عظمه واهابه
ولو أن فوق الموت من ملتمس للمرء مدّ الي من اسبابه!!
ولا ينسي تذكر معاناته من الدراسة العقيمة والمضجرة،حين يقول:-
ولقيت من عنت(الزيود)مشاكلا وبكيت من(عمرو)ومن اعرابه
أما السخط العاري،فيمثله الشاعر محمد محمد علي،ففي قصيدة بعنوان”ثورة” وهو في الحقيقة ثائر ضد المعهد العلمي وليس ضد المحتل،كما قد يفهم البعض القصيدة.فالدراسة في المعهد تقتل الابداع والتجديد،وتطفئ جذوة الحياة في الشباب،يقول:-
أأفني شبابي وأجفو رغابي أجوب الفلاة وأجني الحطام
حطام جنان طواها الزمان وأسمال قوم تولوا كرام
أؤم السراب أروم الشراب فسعي ضلال وريي أوام
كرهت جلوسي أمام الشيوخ أودع عاما وأسلك عام
كرهت المجاز ولغو النحاة وسخف الفقيه وعلم الكلام
وفيم العناء وهذا البلاء وقرع الصفاة وطول السقام
وما شاق نفسي وقار الفقيه ولا أن أُري قاضيا أو إمام
أحب الحياة وفقه الحياة ووجه الحبيب وكأس المدام
ولكن المجدد الساخط(حمزة الملك طمبل) ينبهنا بأن التخلف وفساد الحياة والنفوس،يعم أهل البلاد جميعهم:الشيوخ والافندية؛فلا نظلم المعهد وأهله.فيقول:-
(فالشيخ)خزي فادح متستر تحت العمامة
نذل(تقفطن)بالنفاق ولف من جشع حزامه
ماهام بالتقوي ولكن بالضلال أري هيامه
وكذا( الأفندي) قد أباح لكل موبقة زمامه
فتراه مختل النظام نعي علي المولي نظامه
الناس طاروا وهو في أسر الخلاعة والمدامة
نزق تملكه الغرور فضل نهج الاستقامة
ويبلغ به السخط والضيق مداه،فيقول:-
لا رجاء في من تفرنج منّا لا ولا في أخي القديم المعمم
طال تمثيلنا الشقاء علي الأرض فحتي متي الرواية تختم
ومتي تسدل الستارة والأر ض بمن فوق سطحها تتحطم
وقد كان(طمبل)أول من هجا مدينة بأكملها وهي(الدويم)يقول:-
فهم الاعداء إذا ما افترقوا وهم عند اللقاء كالاصدقاء
جمعتهم خدعة لا صحبة بعضهم من خوف بعض رقباء
كان(حمزة)مهذبا في سخطه وغضبه،ولكن هناك من لم يستطع
أن يجامل أو يدعي الأدب والتهذيب.ولم يتردد في استخدام أقصي كلمات وأوصاف البذاءة والفحش،وكأنني يحاكي(مظفّر النواب)حين أفحم من لامه علي بذاءته:أرني وضعا اكثر بذاءة مما نحن فيه؟لذلك،لم يتردد الشاعر(حسين منصور)صاحب ديوان:الشاطئ الصخري،في استخدام أقسي طاقات اللغة لوصف أهل زمنه من الشيوخ والأفندية.فهو يقذف ابناء (كلية غردون)بما يصعب قوله علنا، وأن كان يتردد في مجالس النميمة وسهرات الخنا:-
يسمونها كلية وحقيقة بها جمعت كل الضلالة والهلس
ينمي علي ماء الرجال نباتها وإن اكرموهم فالغذاء من العدس
تظن بهم خيرا ويعجب هزرهم فان زرتهم ماسوا بأذرعة ملس
مدوا شفاها أدميت من ترشف وقالوا بلا خوف لطالبهم هيس
هم النفر الانجاس من غرس يودل واخوانه من ذلك الصنف والجنس
(حاشية:اشتهر مستر يودال مدير كلية غردون في الفولكلور السوداني المديني بمثليته غير الخفية وليبراليته كأول من تناقش سياسيا مع الخريجين،واجتماعيا اول من ادخل رياضة كرة القدم المنظمة).
اما الشيوخ فيقول عنهم:-
والاخرين ذوي العمائم واللحي اللابسين ملابس الطاووس
يدعونها فرجية سنية لكنها للحبر والقسيس
أما العمائم فهي صم كلها ولحاهم ليست علي الناموس
متحزمين فإن مشوا وهرولوا ففراشة طارت لنار مجوس
سحقا لهم لا فرق بين اذانهم والله أو ضرب علي الناقوس
في أحيان كثيرة ينصب السخط الذاتي علي المجتمع والوطن،وكأن الساخطين
يحملونه كل الخطايا التي اسقمت أرواحهم واصابت أرواحهم بالعطب والخراب.فقد عمّ الفساد والوهن كل موقع،واندثرت القيم،فيصيح(البنا):-
ياأمة جهلت (طرق) العلا فلم تسبق لغاية معقول ومخزون
فللمدارس هجران وسخرية وللمتاجر ضعف غير موزون
وللمفاسد إسراع وتلبية ولا التفات لمفروض ومسنون
والناس في القطر أشياء ملفقة فإن تكشف فعن ضعف وتوهين
فمن غني فقير في مرؤته ومن قوي بضعف النفس مرهون
ومن طليق حبيس الرأي منقبض فأعجب لمنطلق في الأرض مسجون
وهيكل تبعته الناس عن سرف كالسامري بلا عقل ولا دين
يحتال بالدين للدنيا ليجمعها سحتا وتورده في قاع سجين
ويصرخ(صالح عبدالقادر) في أمته:-
يابني قومي أفيقوا إنكم ماخلقتم لتعيشوا غنما
ليتني أعرف ما اخركم سادة كنتوا فصرتم خدما
لكل طريقته في التعبير عن سخطه،ولكن الواقع واحد.واعتقد أن
هذا ما أثار غضب وسخط شاعرالمؤتمر(علي نور)والذي حوله من التفاؤل والامل،ليري الواقع بلا أمل لأن كل شئ صار بغير منطق.فهو القائل:-
هذي يدي لسماء المجد أرفعها
رمزاً يشير إلى المستقبل الحسن
لما نرجيه تحت الشمس من وطر
وما نفديه بالأرواح من وطن
زفوا البشائر للدنيا بأجمعها
وللعروبة من شام إلى يمن
إننا هممنا وأرهفنا عزائمنا
على النهوض بشعب للعلا قمن
الله أكبر هذا الروح أعرفه
إذا تذكرت أيامي ويعرفني
كنا ننميه سراً في جوانحنا
حتى استحال إلى الإجهار والعلن
يتحول شاعر المؤتمر والمستقبل،لكي يجاري(الرصافي)في هجائه لشعبه وأبناء وطنه.وتنسب له القصيدة التي لا أملّ من ذكرها والترنم بها:-
كل امرئ يحتل في السودان غير مكانه
فالناس اكفاء شجاع الرأي مثل جبانه
والعلم ليس براجح بالجهل في ميزانه
والفضل ليس مكارم الاخلاق من عنوانه
والمرء ليس باصغريه قلبه ولسانه
بل باكتمال ريائه وروائه ودهانه
وطن لو أن الحر لا يصبو الي اوطانه
ما كان لي شأن بذلته ورفعة شأنه
لم يكن السخط مقصورا علي تلك الفترة التي كنا نرزح خلالها تحت نير الاستعمار،بل ظهر ساخطون معاصرون لا يقلون حدة وعنفا في غضبهم فقد أفرد الشاعر(محمد الواثق) ديوانه(ام درمان تحتضر)لهجاء مدينة كما يظهر،ولكنها في الحقيقةهي العاصمة(الوطنية)مما يعني أنها رمز للوطن كله،يقول:-
من صحن مسجدها حتي مشارفها حطّ الخمول بها واستحكم الضجر
ولا أحب بلادا لا ظلال لها يُظلّها النيم والهجليج والعُشًر
ولا أحب رجالا من جهالتهم أمسي وأصبح فيهم آمنا زُفر
السخط والواقع المقاوم
يتوجب علي المغرمين بالحديث عن الشخصية السودانية أن يعطوا ظاهرة السخط اهتماما خاصا ،لأنها بؤرة هذه الشخصية،رغم أنها تأخذ تسميات مختلفة.فالطفل السوداني وفي سن مبكرة جدا،تسأله :مالك قاعد كده؟يرد عليك:-زهجان!ولكن المشكلة ليست في شعور السخط والزهج المتفشي بين السودانيين والمثقفين بالذات.ونحن بالمناسبة كان لنا سبق أول من عنون أحد شعرائه كتابا ب:ملعون أبوكي بلد! وصرنا نتلذذ بالاستشهاد بهذه الحكمة.وجيلنا هو الذي كان يختم”قعداته”بالقول:دي بلد حفرة.وفي ذلك الوقت لم يكن الإسلامويون يحلمون بمنصب مدير جامعة الخرطوم حتي لو قدموا عبدالله الطيب.السؤال المُلح رغم وقدم ظاهرة السخط،هو:تحولت من الاحتجاج الي التمرد ثم الي المقاومة والثورة أم ظل اجتماعيا علي مستوي النقّة والنميمة،وسياسيا علي مستوي الشجب والادانة ونسخ البيانات؟
اخترت الشعراء والشعر باعتبار ان الشعراء عينة ممثلة جيدا لعقل النخبة.كما أن الشعر في مثل مجتمعاتنا فكر مصفي لمعاناة صاحبه في اختيار الكلمة والفكرة التي يريد توصيلها للمتلقي.ولم أهدف التضييق والحصر ولكن المقصود كل النخبة أو الانتلجنسيا السودانية.لذلك،حين نتعرض لسخط النخبة لابد أن نضع في الاعتبار ثلاث لحظات حاسمة تؤرخ لهزائمها.الاولي هي الهزيمة العسكرية النهائية للمهدية عام1898 والتي تسميها العامة:الكسرة.وقد سمي(محمد المكي ابراهيم)ذلك الجيل:ورثة الهزيمة.وهو يري أنهم قد”ضاعوا ضياعا غير مخلفين ورائهم اثر ذا شأن..وإذا كان لابد للاحتلال من ضحايا،فإن هذا الجيل وحده،هة جيل الضحايا(…)لقد هبطت الهزيمة علي رؤوسهم كالصاعقة وبترتهم من العالم بضربة سيف.”(ص41)ثم كانت هزيمة انتفاضة1924 تشتيتا مبكرا للقوى الحديثة الجنينية التي بدأت في التشكل.كذلك،أغلقت النافذة –مصر- التي كان يطل بها السودان مع العالم والخارجي وتفاعل من خلالها مع الآخر.وظلت النخبة في حالة ركود وبيات شتوي لم تنتعش من آثاره إلا بعد معاهدة1936 وحراك الخريجين.ثم كانت الهزيمة الثالثة والقاضية في سلسلة مراحل أو حلقات ثلاث متتالية من الانقلابات:1958و1969 و1989.فقد كانت الإنقلابات تقوم ببعثرة التراكم الديمقراطي الذي يتم خلال الديمقراطيات قصيرة العمر السابقة لها.وفشلت النخبة في تكريس وتطوير الديمقراطية،وهي ليست مجرد ضحية برئية لأنها جميعا تنشط وتتآمر داخل القوات المسلحة.
تفسر هذه الهزائم وسوسيولوجية الفشل أو السلوك الاجتماعي للفاشل،أسباب توقف المثقفين السودانيين عند مرحلة السخط أو حتي الغضب الانفعالي الحاد دون الانتقال لمرحلة التمرد الواعي والمصادم ثم المقاومة والثورة.نشأ العقل السياسي السوداني تفاوضيا ووسطيا بدءا من تربيطات وتحالفات انتخابات مؤتمر الخريجين مرورا بوفد مفاوضات عام1946 حتي اتفاقية الحكم الذاتي1953.وفي أول ديمقراطية شهد البرلمان ميلاد العقل المماطل والمراوغ علي انقاض المفاوض،وأي دراسة لممارسات سياسيين مثل يحي الفضلي وبوث ديو،ستؤكد هذه الفرضية.كذلك العقل الموحد:شمال جنوب .واخيرا رسا العقل السياسي في مرحلة الكذب المقدس التي نعيشها الآن.وفي كل الأحوال والمراحل يتجنب المثقفون والسياسيون المواجهة والصدام ما عدا الاسلامويين أو الاخوان المسلمين بتسمياتهم المتعددة.فقد تدربوا علي العنف والصدام في الجامعات والمؤسسات التعليمية،منذ عهد مهرجان(العجكو).وتفاخروا بكادر منهم اسموه:راجل البراكس.وفي الحياة العامة،كانت محاولة انقلاب مرشدهم الرشيد الطاهربالتعاون مع الضابط علي حامد وزملائه،ثم صدامهم مع النميري في الجزيرة أبا متحالفين مع أمام الانصار الهادي المهدي،ثم العمل المسلح للجبهة الوطنية عام1976 وأخيرا الإنقلاب-الكابوس الذي نعيشه منذ 30 يونيو1989.
أما القوى السياسية الاخري والمثقفون غير الإسلامويين،فقد باع لهم الإسلامويون اسطورة السوداني المتسامح وسلمية العمل السياسي رغم كل التاريخ المذكور.ولذلك اكتفت تلك القوى من الديمقراطيين بالسخط والهجاء،
والشكوى لغير الله(منظمات حقوق الانسان العالمية ).وجعل الديمقراطيون من المنابر والمواقع الاسفيرية، حائط مبكي وسوق عكاظ لهجاء الانقاذ.هذا فعل واحد وصغير لمعارضة النظام وليس مقاومته.صارت الاحزاب السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني مصانع انتاج كبير لبيانات الشجب والأدانة ويتسابقون في ذلك مثل حضور الدفن والفاتحة في المقابر،العادة السياسية التقليدية لارضاء المناصرين.لقد كانت الادانات والشجب والهرولة لمنظمات حقوق الانسان،والكونقرس الامريكي، والبارونة كوكس وغيرها؛مطلوبة ومفيدة في بداية التسعينيات بقصد كشف وتعرية النظام.ولكن النظام الآن عاريا تماما ومكشوفا حتي عند أهله.الإصرار علي الشجب والادانة والهرولة غربا، هذا سوء تقدير وعدم فهم لمراحل النضال وماذا تقتضيه كل مرحلة من ادوات للعمل السياسي؟التوقف عند مرحلة سابقة دون ادراك المستجدات،هو تخلف واعاقة.وبالمناسبة تسمي هذه الحالة في علم النفس(التثبت)(fixation) ويوصف بها الفرد عندما ينمو من مرحلة الطفولة ويصر علي أن يمارس سلوكه القديم وكأنه لم يكبر بعد!
يتبدي هذا التثبت والوقوف في مرحلة السخط والشجب والادانات التي ما قتلت ذبابة،في حالة الدفاع المستميت في رفض العمل المسلح والتبرؤ منه.وهنا نجح النظام وبجدارة في تخويف وابتزاز المعارضة.هل نسيت المعارضة تاريخها وحملت السلاح منتصف التسعينيات؟أين مزايدات قوات التحالف علي الآخرين:-” في ظل هذا الواقع اصبحت وسائل النضال السلمية المعهودة مستحيلة،ولذلك يسعي التحالف لتصعيد نشاطات الانتفاضة الشعبية المسلحة وتنسيق جهود كل قوى الشعب ودفع عمل كل الفصائل الثورية وتعزيز جهودها وحماية ظهرها لتحقيق اهدافها”.(الميثاق في اصدارة:نحو دولة مدنية ديمقراطية موحدة،ص90).ولابد لي من التساؤل في هذه الحالة عن مصير دماء ذلك الشباب النضر الذي سالت في(قرورة)و(منزا)هل راحت سدى؟ وكانت ذلك التحدي هو التباري في تكوين جيوش الاحزاب التي تتبرأ الآن من العمل المسلح،ظهر:جيش الأمة،والاتحاديون المسالمون ولم يكونوا جهادية في يوم من الأيام زايدوا بتكوين جيشين:جيش الفتح والاسود الحرة والذي ينسب تمويها لشرق السودان.هل بعد كل هذه السنوات والدماء تنكرون تاريخكم النضالي-لو كان حقيقيا-مع تهديدات نافع وسامية وبدرية؟ولا ادري لماذا تذكرت (المحجوب)وأنا اتابع رفض(الصادق)لدرجة المبالغة لما تم في كمبالا،فقد خاطب والده السيد(الصديق):-
فيا أبا الصادق الصديق انت لها بعد الامام،ونحن الجحفل اللجب
فان تشاء لغدت حمرا صوارمنا من الدماء ونار الحرب تلتهب
نحمي البلاد،ونحمي سنة سلفت اجدادنا جاهدوا فيها وما نكبوا
لا بارك الله في الدنيا يكدرها ذل القيود ويغشي أهلها الريب
عش للبلاد كما عاش الإمام لها وعاهد الله،واسلك نهج من ذهبوا
*****
اخيرا،هذه اللجلجة لا خير فيها ولا نرضاها لقياداتنا.فلابد من الثبات علي الموقف وتأييد وثيقة كمبالا وتحويلها الي فجر جديد فعلا من خلال تعديل الأولويات وتأجيل المختلف حوله.ولابد للعقل السياسي من قدر من العقلانية والمنطق في ترتيب الأولويات.الآن السؤال الصحيح:كيف نسقط النظام وما هي انجع الوسائل وأكثرها فعالية للإسراع في القضاء عليه وعلي آثاره؟ثم بعد ذلك نتحدث عن كيف يحكم السودان وشكل الدولة؟ولكن أن يكون النظام علي صدورنا ونحن نتشاجر حول العلمانية،والفدرالية وعدد الولايات،وحل جهاز الأمن وهو يفتش في منازلنا ويغلق مراكزنا.هذا عين العبث.فلتتوقف كل بيانات الشجب والادانة والمناصرة وحتي التعازي،ولنشرع في تنظيم الناس في الداخل والخارج.وأن يكون هناك ناطق رسمي واحد فقط ولتتوقف الشخصيات التي صارت الاطلالة من أجهزة الإعلام مثل شاي الصباح ضرورة ومزاج.في هذه اللحظات الشعب السوداني والمقاومة ليسوا في حاجة لمزيد من الطاوويس.فلتتوحد القوى المعارضة ليس بالتوقيعات الكثيرة علي البيانات ولكن علي الأرض في الاحياء واماكن العمل والدراسة،وتأحيل أي انتماء حزبي ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.ضرورة الانتقال من مرحلة البيانات والحنجورية الي المقاومة وتنظيم الجماهير في كل مكان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *