المبعوث الأمريكي إسكوت جريشن وإستراتيجية “البسكويت والعسل” تجاه السودان
د.عبدالله عثمان التوم
26 أكتوبر 2009م:
لحظات قليلة بعيد إلقاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابه بمناسبة النصر المشهود الذي حققه في الإنتخابات أجريت إتصالاً هاتفياً بالقيادات العسكرية الميدانية لحركة العدل والمساواة في دارفور كي أنقل لهم أخباراً جديدة تتعلق بنتيجة الإنتخابات الأمريكية. لكن أحد القيادات الميدانية رد على الهاتف بقوله :”نحن كذلك تابعنا هذه الأخبار العظيمة كما إن كل جنودنا يحتفلون في هذه الآونة ؛ وكذا الحال بالنسبة للنازحين واللاجئين الذين قضوا طوال الليل سهراً يتابعون الأخبار عبر أجهزة الراديو (ترانسستور)”.
لقد أشاع خطاب أوباما ذلك ، روح الأمل والفأل في دارفور مثل ما فعل في أنحاء كثيرة من العالم. أصبح (أوباما) الإسم المفضّل والأكثر شيوعاً وسط مواليد النازجين واللاجئين في معسكراتهم وهو خيار كان مقصوراً على قيادات ثورة دارفور أمثال خليل وعبد الواحد وكذلك أوكامبو.
لسوء الحظ فإن لحظات الفأل والإنبهار المصاحبة لتلك التظاهرة لم تدم طويلاً فسرعان ما تبخّر الحماس المؤقت الذي إرتبط بإسم أوباما. وليست هناك جائزة لمن حالفه الحظ في تخمينه لسبب حدوث ذلك. فالإجابة بكل بساطة: إنه إسكوت جريشن.
لقد عبر الكثير من المعلّقين عن قلقهم بأن المبعوث الأمريكي قد فقد بوصلته تماماً ووقع تحت تأثير حكومة الخرطوم. وقد صرّح رئيس حركة العدل والمساواة من قبل بأن هذا المبعوث ظل يعمل بلا إستراتيجية محددة وأحال نفسه لمجرد ضابط علاقات عامة لحكومة الخرطوم.
أما أنا فمن جانبي أرى أن جريشن يملك إستراتيجية بالفعل وبالأحرى إستراتيجية واضحة تماما ، إستمع إلى مقولتهً:
“علينا التفكير في منح البسكويت ؛ الأطفال والدول – كلهم يستجيبون لنجوم الذهب ، الأوجه الباسمة وتبادل التحية عن طريق هز الأيدي ، الإتفاقيات ، المباحثات والإرتباط. يمكنك القبض على المزيد من الدببة مستخدماً العسل مقارنة بإستخدام الخل”.
حتى إذا غضضنا الطرف عن الإيماءات البذيئة والإستعلائية والعنصرية المحتواة في هذا الخطاب فإنه يبيّن كيف يخطط هذا المبعوث للتعامل (الإرتباط) مع حكومة الخرطوم ومع ذلك يمثل هذا التعامل “إستراتيجية”. إشكالية جريشن أنه يؤمن بحق بمسارٍ أجمع الكثيرون على حفاوته بالكثير من المخاطر والعيوب. فمنذ تنصيبه مبعوثاً ظل جريشن يوزّع بسكويته لكن حتى الآن دون أي عائد.
إشكالية إستراتيجية جريشن أنها تقف نقيضاً لكل ما يمثله أوباما عبر السودان ، من جنوبه وحتى دارفور كما إتضّح في إعلاناته وفي خطاب كبار موظفي إدارته. فقد وعد أوباما خلال حملته الإنتخابية بفعل الآتي في حال فوزه بالإنتخابات: “خطوات عاجلة لإنهاء الإبادة الجماعية في دارفور وذلك بزيادة الضغط على الحكومة السودانية لوقف القتل وعرقلة نشر القوات الدولية الأكثر صلابة”.
فحوى رسالة أوباما وجدت صدىً كبيراً وسط كبار موطفي الإدارة الأمريكية. سكرتير الخارجية الأمريكي كولن باول على سبيل المثال دعي لتطبيق حظر للطيران في إقليم دارفور بينما أشارت السفيرة سوزان رايس لضرورة القوة لمنع حكومة الخرطوم قتل المزيد من مواطني دارفور. هذه التصريحات بعيدة كل البعد عن إستراتيجية “البسكويت والعسل” التي يتبناها المبعوث جريشن.
ليس ثمة أدنى شك أن سياسة “البسكويت والعسل” قد جعلت جريشن محبوباً لدى حكومة الخرطوم. وبإعتزاز بالنفس لا يخلو من السذاجة يفتخر جريشن بمتانة علاقته بحكومة الخرطوم ويشيد بصداقته بمبعوث الرئيس البشير المكلف بملف دارفور غازي صلاح الدين العتباني. صفقة كبيرة !! بصورة ما جنى جريشن بعض العائد نظير عمله هذا. ففي إحدى زياراته التي نظمتها له قيادات الإنقاذ إلى إقليم دارفور : “تم إستقبال جريشن كنجم لامع بواسطة المئات من مناصري البشير المبتهجين في قاعة المؤتمرات المرصعة بلافتات عليها صوراً للبشير وأوباما”.
للبشير ومناصريه الحق للإبتهاج بمقابلة بطلهم الجديد والصديق جريشن. لم لا وقد تكبد المبعوث الكثير من المشاق لتحسين صورة نظام البشير وتبرئته من جرائمه الشنعاء. وبهذا الصدد فقد أعلن جريشن أن الإبادة الجماعية في دارفور قد إنتهت وأن دعاوى فرض العقوبات على نظام الخرطوم ليس لها ما يبررها وأن على النازحين الإعداد للعودة إلى قراهم بنهاية هذا العام.
وبعد أن أصابه النعاس المغناطيسي جراء الترحاب الحار الذي تلقاه في الخرطوم سعى المبعوث جريشن للممارسة السمسرة في تعامله مع حكومات ما زالت تخطب ود حكومة الخرطوم. وبالتالي أشار جريشن بأنه سوف يقوم بزيارة إلى القاهرة وبكين لمقابلة القيادات التي تشارك إدارته الإهتمامات وتعمل معاً لتحقيق الأهداف المشتركة.
وغني عن القول فقد قدمت الصين السلاح لحكومة البشير بصورة منتظمة ودعمته في كثير من المنابر. أما القاهرة فقد إعتبرت الحرب في دارفور عملاً مصطنعاً ونسجاً من خيال الغرب. هؤلاء هم شركاء جريشن لسلام دارفور ، لكن الأسوأ لم يأت بعد.
مستحضراً المنطق القائل بتكليف الضبع حارساً للشياه متبوعاً بلا-حساسية مدهشة تجاه المنظمات الطوعية الدولية وتجاه مستغيثيهم ، أعلن المبعوث:
” نريد حكومة السودان أن تلعب دوراً فاعلاً لتسهيل عمل المنظمات غير الحكومية لنقل الإغاثة الإنسانية للفئات الأكثر إحتياجاً. نريد الحكومة أن تكون مسؤولة عن الوضع الأمني وقوات الأمن وقوات الشرطة لتحسين الوضع”. بينما تستجيب الحكومة بطريقتها المألوفة. فخلال أسبوع أو نحوه أتتنا التقارير بأن الجنجويد والمليشيات دمرت ثمانين قرية في المناطق التي تسيطر عليها حركة تحرير السودان وقامت بسرقة 4 ألف رأساً من الماشية وإغتصبت نحو 40 فتاة.” هذه بعض نواتج إستراتيجية جريشن المعروفة بسياسة “البسكويت والعسل”.
بينما ظلت حكومة الخرطوم تبتهج بصديقها جريشن ظلت الفئات الإجتماعية في دارفور ،و التي عُيّن جريشن لمساعدتها في المقام الأول ، تقابله مهتاجة غضباً. فالنازحون في المعسكرات والحركات المسلحة والمواطنون في جنوب السودان كلهم يأسفون إستراتيجية “البسكويت والعسل” دون مواربة. في إحدى زيارات جريشن لمعسكرات النازحين في دارفور ، أبدى أحد النازحين سلوكاً شاذاً في مواجهته في إجتماع للمبعوث جريشن حيث خاطبه قائلا بعد أن وضع عصابة على إحدى عينيه: “أضع هذه العصابة على عيني لأني لا أراك يا جريشن بكلا عينيّ بعد أن سمعنا ما قلته”.
وكان المتحدث يشير إلى شهادة حول دارفور قدمها جريشن إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بأمريكا. لكن ، وفي إشارة لما أسماها البروفيسور إريك ريفز ب “الكذب الصراح” ، أنكر جريشن شهادته معتبراً هذه المواجهة مجرد سوء فهم ، ربما بإعتباره نازح جاهل قليل التعليم.
أما بالنسبة لموقف جريشن تجاه لحركات دارفور المسلحة ذات الشرعية والموثوق وجودها الميداني فيميل أكثر للتوافق مع رؤية حكومة الخرطوم بأن هذه الحركات ليست سوى “قطاع طرق ولم تتوحد لمحادثات السلام”. وبفقدانه الصلة بقيادات الحركات المسلحة الحقيقية في دارفور والتي لها وجود ميداني مشهود سعى جريشن لخلق حركات بديلة توافقه الرأي وقابلة للإنقياد. وجد جريشن أيدي معاونة في القاهرة والجماهيرية للترتيب لحركاته البديلة فأعلن: “نحن نريد القيادة التي يريدها شعب دارفور ، شخصاً يتوحدون خلفه ويعبر عن همومهم في مباحثات السلام مع حكومة الخرطوم”.
ثم يتحول عزم جريشن لخلق حركات جديدة إلى هاجس داهم ، وينجح في مغامرته. لحسن حظ ليس ثمة ندرة في الشخصيات على أهبة الإستعداد للإنغماس في عملية الإنشقاقات والتكتلات السياسية والمجيئ والذهاب وفقاً للسرعة التي يتم بها تسديد فاتورة الإقامة في الفنادق. والآن تتواجد العديد من المجموعات فيما يُعرف بمجموعة جريشن ، لكن لم توجد من بعد القيادة ذات المواصفات المنشودة. لكن مشكلة حركات جريشن تكمن في أصل ذات المجموعات التي يسعى لجعلها منظومة سياسية موحدة. وبعيد دعوته لوحدة الحركات أتته المجموعات من كل ركن في المعمورة ، بعضهم من الخرطوم ، وبعضهم من سطع نجمه عبر شبكة الإنترنت وبعضهم من نفث في روحه الحياة بعد موت منذ أمد طويل.
مما يدعو للسخرية إن المبعوث قد زعم بأنه يهدف لتقليص عدد الحركات المسلحة ، ولكنها ساهم في زيادتها. والمحصلة النهائية هي الإرتباك الكامل إذ ليس بوسع جريشن ولا أي أحد منا إحصاء عدد الحركات المسلحة حيث ظلت تتكاثر كل أسبوع ، ولا يهم إن لم تجد هذه الحركات أسماء جديدة !!
إن سعي جريشن الملهوف لتحسين صورة نظام الخرطوم يقوده للإرتباط غير المقدّس بمجموعة ماكفرلان. ماكفرلان نفسه قد تمت إدانته بالتعامل في قضية “إيران كونترا” الشهيرة لكن الرئيس الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش(1992م) عفى عنه لاحقاً. إلا أن المبعوث جريشن ربط نفسه بمسؤول الأمن السوداني المعروف في أديس أبابا محمد بابكر ، عن طريق ماكفرلان. إلماح المبعوث جريشن إلى روابطه بمجموعة (أو شركة)
DynCorp International
يثيرأيضاً الكثير من التساؤلات المحرجة وتفضح ضحالة مستوى المبعوث ذي الشأن. لكن هذه المجموعة هي الأخرى خضعت لتحقيقات جنائية هي الأخرى ، لكأنما لم تعد هنالك شركات نظيفة وعفيفة في أمريكا ! فالشركة متهمة بالإحتيال ورفع تقديرات فاتورة الإدارة الأمريكية بما يناهز الخمسين مليون دولاراً عند تقديمها خدمات للقوات الأمريكية في الكويت ؛ وهذا موقف غير وطني لشركة أؤتمنت كذلك بخدمة القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان.
إستغلال حريشن لهذه الشركة يمكنه كاد يمضي دون ملاحظات منا لولا جانب آخر أساسي في إستراتيجية “البسكويت والعسل” التي يتبناها المبعوث جريشن. فعبر هذه الشركة يستخدم جريشن محادثاً كبيراً في الإستخبارات السودانية للقيام بإجراءات الحجز وتذاكر السفر (جواً) ودفع العلاوات اليومية إلى وفود حركات جريشن. وأنا هنا أشير إلى الأستاذ معتز الفحل الذي لعب دوراً مماثلاً في التسعينات من القرن الماضي في المفاوضاث بين التحالف الوطني الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها الراحل دكتور جون قرنق. فقد إنفضحت إرتباطاته بالمخابرات السودانية حينما تم إكتشاف بعض التجاوزات في المالية الأمريكية خلال المحادثات. المهزلة لا تتمثل في كون جريشن تقع على عاتقه فاتورة الخرطوم للتجسس على الحركات. كلا ، فإن حكومة الخرطوم أكثر ذكاءاً. فجوهر الأمر إن دافع الضرائب الأمريكي هو الذي يدفع فاتورة الخرطوم للتجسس على أنشطة المبعوث الأمريكي على السواء. يا لها من قسوة تعتري هذا المبعوث الأمريكي !!
لقد كانت حكومة الخرطوم ذكية بالفعل ، إني مستعد لمنحها ذلك الشرف. لكن في ذات الحين علىّ أن أؤكد أن لما الحق في التساؤل عن الحكمة في دفع تكاليف العلاقات العامة الباهظة إلي ماكفرلان وآخرين بينما يوجد لديهم جريشن الذي هو مستعد لتقديم المزيد من الخدمات مجاناً !!
بينما نحن نجادل حول أداء المبعوث جريشن في دارفور، و المتمثل في الضعف الشديد ، يجب ألا نصرف الإنتباه عن الملف الأساسي في جنوب السودان ، أي واجبه لحفظ إتفاقية السلام الشامل حيةً والمساعدة في الإسراع بتنفيذها. فهنا كذلك تحركت إستراتيجية “البسكويت والعسل” بإرتجاج عنيف. فالصحيح إن أبواب واشنطون ظلت دائمة ً مغلقة أمام الدارفوريين بالطبع ما لم يأتوا عبر حكومة الخرطوم. لكن جنوب السودان أوفر حظاً وله المقدرة على مداومة الإرتباط مع واشنطون على أعلا المستويات. وفي هذا الصدد إشتكى رئيس حكومة جنوب السودان سلفا كير إلى الرئيس الأمريكي أوباما قائلاً إن حكومة الخرطوم لا تستحق أي “بسكويتاً” على الإطلاق: مؤكداً “الوضع السياسي الراهن في المركز لم يتغير. وتظل حكومة الخرطوم تثير العنف في الجنوب” وأن الحل ليس في تقليل الضغوط كما يزعم جريشن ، بل المزيد منها.
دعنا نختتم هذا المقال بالعودة إلى تحرُّق حريشن من أجل توحيد حركات دارفور المسلحة وبالتالي نغنيه شر توجيه اللوم إليه لخلق المزيد من الحركات في المقام الأول. إنشغالي بهذا الموضوع في غاية البساطة. إذا كان جريشن يملك موهبة لتوحيد الجماعات حول قضية ما فإني أظن أن ثمة الكثير من العمل ينتظره في واشنطون. إن الرئيس أوباما محتاجُ ل “توحيد” (وهي عبارة جريشن) المواطنين الأمريكيين حول العديد من القضايا وأهم هذه القضايا الصحة وسحب القوات من أفغانستان وإستهلاك الطاقة ومد الشركات الإستراتيجية بالسيولة ، بما فيها المصارف الكبرى. دع جريشن يذهب إلى واشنطون لتجريب مواهبه في واشنطون. أما بالنسبة لدارفور فإننا نفهم إن منطق واشنطون جعل من الصعب تحقيق أحلام أوباما تجاه دارفور خلال حملته الإنتخابية. إستراتيجيته لدارفور التي أفصح عنها في الأيام المنصرمة هي موضع إشادة ، رغم ضياع بعض الوعود من بين صفحاتها. ونتفهم كذلك إن بعض المستجدات ربما جعلت من بعض الوعود أمراً صعب التحقيق. إلا أن بوسع الرئيس أوباما التفضُّل علينا بتقديم خدمة لا تكلفه الكثير. بوسعه ، وبكل بساطة ، سحب ملف دارفور من يدي المبعوث جريشن.