بذل المجلس السيادي والحكومة المدنية خطوة مهمة نحو تمهيد الطريق لإزالة التمكين الذي أحدثته الحركة الإسلامية لمدى ثلاثة عقود. وبسريان القرار تكون السلطتان قد أنجزتا بندا واحداً يتعلق بخلق دولة مدنية تؤول فيها السلطات إلى المدنيين، لا غيرهم، انطلاقا من أهداف الثورة، ووفاء لشهدائها، وجرحاها، ومفقوديها. أما محتوى البندين المهمين الآخرين فيتعلقان بضرورة التخلص من كوادر جهاز الأمن لكونه يمثل حاضنة لجواسيس المؤتمر الوطني، وكذلك يتطلب أمر إعادة بناء الدولة إصدار قرار بدمج مليشيا الدعم السريع في القوات المسلحة. ذلك حتى لا تكون جيشا موازيا للقوات المسلحة، والتي هي الأخرى تحتاج إلى إعادة هيكلة للتخلص من ضباطها المؤدلجين الذين يتخفون وراء التغيير، ويتحينون الفرصة للانقضاض على كامل الوضع في يوم ما.
الحقيقة أنه لا بد أن تكون سقوف المطالبة بالتخلص من تركة الثلاثين عاما عالية، وإلا نكون قد تهاونا في إعادة هيكلة الدولة، والتي هي الخطوة الأساسية لترسيخ الديمقراطية. فوجود فلول المؤتمر الوطني المندسين في جهاز الأمن، والقوات المسلحة، والدعم السريع، يمثل خطرا على البلاد، وينبغي ألا تأخذنا رأفة في التعامل معهم نكالاً لما اقترفوه من اغتيالات، وتعذيب، وحرق قرى، وقصف مدنيين بالانتنوف. بل يجب أن يُسرح هذا الجيش الجرار الذي كان يستحوذ على ثمانين من المئة من الميزانية ما دام حل المؤتمر المؤتمر الوطني يعني ضمنيا التخلص من كوادره التي نثرها في جهاز الدولة، وليس فقط دوره. ومن ناحية أخرى فإن المؤتمر الوطني لم يكن حزبا فحسب، وإنما كذلك دولة في داخل دولة. وبهذا المستوى ننتظر أن يسهم القرار الجديد في منح الصلاحيات كافة للوزراء لاستئصال المعينين سياسيا في الخدمة المدنية، خصوصا في وزارة الخارجية التي تضم مئات من السفراء المؤدلجين، والدبلوماسيين الذين جاءوا للوزارة بخلفية التعيين السياسي الإسلاموي.
أما على صعيد الإعلام فإن المؤتمر الوطني موجود بكثافة فاضحة من خلال بنية المؤسسات الإعلامية التي أسسها إسلاميون، وانتهازيون، وقد ظلت تناصره حتى يوم سقوطه، وتدافع عنه، وتستفز الشعب السوداني اليوم بمحاولة ذكاء خبيثة، ومكشوفة، وبليدة. ولذلك نأمل من وزير الثقافة والإعلام الذي ظل يشكو من القوانين التي تمنع حركته أن يسهم قرار حل “الحزب الخرب” في تمكينه بأسرع فرصة للتخلص من المؤسسات الإعلامية التابعة لرموز المؤتمر الوطني حتى يتمهد الطريق أمامه لخلق ما يسميه الإعلام الثوري المضاد. ذلك الذي يمثل الثورة، ويعبر عن تطلعاتها، ويعطي الأمل لأسر الشهداء أن فلذات أكبادها لم يرحلوا سدى.
لقد كان المؤتمر الوطني، والذي أسسته الحركة الإسلامية خلية طفيلية قائمة بذاتها، ولم يكن حزبا يؤمن بتداول السلطة، وقد اختبره السودانيون بتزويره الانتخابات مستعينا بكل الدعم اللوجستي الحكومي. ولذلك سيكون من الخطأ الكبير إذا نظرنا إليه كحزب فحسب، ونسينا جذوره المتمددة في الدولة، وقطاعات خاصة. بل إن قيادة الحركة الإسلامية قننت بالحزب فقط وجودها النازي في الحكم، إذ كانت أصلا قد سيطرت على الدولة تماما ثم حاولت تشريع ذاتها عبر الحزب الذي كان موظفا لتزوير الإرادة، وغش الجماهير، واستحلاب ضروع الدولة. ولذلك كان الفساد في القطاعين العام والخاص تعبيرا عن التمكين، ولم يكن حالة عرضية غريبة. فالطريقة التي قام عليها الحزب أصلا تقنن فساد قيادته، وعضويته، ونماذج الفساد التي بدت من التجربة تمثل شيئا ضئيلا للفساد الكبير في إدارة الحزب للدولة بتلك الكيفية التي جعلته قيماً على أمر السياسة، والاقتصاد، والإعلام، والتجارة، الخ.
لا بد من الإشادة بالدور الثوري الذي بذله وزير العدل الأستاذ نصر الدين عبد الباري، وكل القانونيين الذي عاونوه في دقائق القضاء على المؤتمر الوطني، وسن قوانين تتعلق بترسيخ العدل، وتجذير الثورة في البنية القضائية، كما نشيد بخطوة كامل عضوية مجلس الوزراء وأعضاء السيادي الذين توافقوا على أمر حل الحزب، ونطالب المجلسين بأن يستمر تعاونهما المثمر المبني على الاتفاق الذي توصلت إليه قوى الحرية والتغيير من أجل إعادة بناء البلاد، وإرساء دولة القانون، وتحقيق شعار حرية، سلام، وعدالة. ومن جهة ثانية نأمل أن يحذو جميع الوزراء، والنائب العام حذو وزير العدل بتسريع خطوات التخلص من التمكين في كل مرافق الوزارات، ولعله ليس أمام كل مسؤولي الدولة القياديين من مجال الآن للشكوى بوجود عوائق قانونية تمنعهم من تحقيق القرارات الثورية ضد التمكين الإسلاموي.
إن التخلص الثوري من نازية المؤتمر الوطني أثناء فترة حكمه، وكذا التخلص من إرثه التنظيمي، وتأثيره على مستوى الحياة السودانية يمهد الطريق لإمكانية خلق وطن ديموقراطي قادر على التسوية مع مواطنيه، والذين تعرضوا لممارسات الحزب القمعية التي كادت أن تشظي البلاد بحروبها التطهيرية العبثية في مناطق النزاع، وقمعها للسودانيين بالاعتقالات، والتعذيب، والاغتصاب، وتهجير كفاءات الدولة بالملايين، وتدمير الخدمة المدنية، والمشاريع الإنتاجية، والزج بالبلاد في سياسات محورية دولية، فضلا عن دعم الإرهاب إقليميا، ودوليا، وجعل الفساد العام مظهرا من مظاهر الدولة الدينية التي نشدها الإسلاميون.
ان الفرصة الآن مؤاتية أمام النائب العام لتفعيل قانون حظر المؤتمر الوطني، وننتظر منه بادرات عاجلة لتحقيق العدالة المتعلقة بالظلم الذي اقترفته قيادة الموتمر الوطني في كل المجالات، وتحريك القضايا العامة، والجنائية ضدها، حتى تشفي إجراءاته العدلية غليل أهل القصاص. وهذا ركن أساسي يكمل شعار الثورة، ولا بد أن تعينه في هذه المهام قوى الحرية والتغيير، ومنظمات المجتمع المدني، والخبراء في المجال. وبذلك يدرك الناس أن الثورة بدأ يأتي أكلها.