الفساد عنوان ضخم لفصول و هوامش”مقروءة و مرئية”في الإنقاذ السودانية
محجوب حسين
في أحدث تقرير لمنظمة الشفافية العالمية قبل أسبوعين، تصدر فيه السودان [2] لائحة الدول الأكثر فسادا ضمن عشر أخريات، وقبيل هذا التقرير بأيام قال النظام السوداني ان ‘اقتصاده صادر عن مشكاة متقدة بنور الإسلام’، وبذلك نحن امام أمرين، رغم أن سياقهما واحد إلا أن التناقض بينهما بين، وهي سمة في حقل تناقضات الإنقاذ السودانية المتأسلمة واحترافيتها في لي الحقيقة بل كسرها وتفتيتها، وفي بعض الأحايين استباقها لإخراجها بطريقة مشوهة، وإلا كيف لنا فهم أن السودان [2] من أكثر الدول فسادا وفق مقاييس عالمية، وان اقتصاده متقد بنور الإسلام، الذي نعتقد- أو هكذا يعتقد – أن أساسه المصداقية والأمانة والعدالة والاستقامة، كتعاليم جوهرية تنبع من روح الإسلام في نظريته الشمولية مع غياب علم اقتصاد إسلامي علمي حرفي واضح المعالم، غير التوليفات مع ما راكمته المدارس الاقتصادية في الرأسمالية الليبرالية، بدون المس بجوهر الأحكام، هذا التناقض الذي يتعارض مع ذاته هو شكل من أشكال الرياء السياسي الذي ما انفك النظام السياسي يعمل به منذ أن شع الإسلام السياسي- وفي رواية أخري الدين الإسلامي نفسه- بنوره على السودان [2] لأول مرة في حزيران/ يونيو 1989 ومنحه فرصة لنظام حكم إسلامي ـ كما يرى كهنته وكرادلته أو فقهاؤه – لتشكل سانحة مهمة للسودان في أن ينضم إلى الدول ذات نمط الحكم الإسلامي، واعتبر الأمر في حينه بمثابة آخر فتح مبين، رفعت فيه رايات الدولة الإسلامية لتطبيق شرع الله وتجسيد الإيمان والأخلاق والعدالة ومحاربة الفساد في الأرض السودانية البور! تجسيد لطروحات فاتحيه أو بالأحرى غزاته الجدد وهم ‘أنبياء’ في زهدهم وأخلاقهم وعدلهم وإنسانيتهم وورعهم ونظافة يدهم من كل دنس. فيما مبررات ‘الغزو’ الإسلاموي للبلاد السودانية كان أههما وفق أول بيان للانقلاب (الغزو/ الفتح) محاربة الفساد وإنقاذ الاقتصاد ووحدة الأراضي السودانية المهددة من الحركة الشعبية بقيادة الراحل الزعيم ‘جون قرنق’، وبعد أسابيع من سيطرة هذا التبشير الإسلاموي الجديد- حتى لا أقول الدعوة- تم إلقاء القبض على شاب سوداني اسمه مجدي وفي حوزته بضع دولارات، كانت سببا كافيا لاتهامه بالاتجار في العملة غير مرخص له بها وتخريب الاقتصاد الوطني كجريمة قيل انها ترتقي إلى الخيانة العظمى، فتمت محاكمته سريعا بعقوبة الإعدام ـ النصوص ليست مهمة أنذاك – وأيدت المحكمة العليا الحكم الصادر ليوقع رئيس الانقلاب على أول وثيقة إعدام، باعتباره أعلى سلطة، ويُِِعدم الشاب الذي كان ضحية رسالة سياسية أراد بها النظام السياسي الإسلاموي الجديد أن يرعب رعاياه ويقول لهم بأن لا تفريط وأن مبادئ وأخلاق الغزو الإسلاموي الجديد، التي لم تتكشف بعد بالضرورة أن تسود، عندها تألم الشعب السوداني وتشاءم من مستقبل لا يدري كنهه، وقبل أن ينتظر طويلا عرف الحفرة التي وقع فيها.
هذا النظام الذي كان أول ضحاياه على الأقل المعلنة منها، هو مجدي الضحية/ الشهيد من أجل اقتصاد نظيف، ابتدع عند وصوله السلطة وما زال مجموعة شعاراتية مثيرة للجدل، تحولت في ما بعد إلى أدبيات سياسية حيرت ذهنية التفكير السودانية، ليس في التحليل بل التفكير ذاته، خصوصا في ظل الإصرار والتمادي المستمر على إنتاجها، رغم أنها غير موائمة واثبتت أنها غير متطابقة مع الواقع المجتمعي والمعيشي، بل تنسف نفسها بنفسها، مقارنة بما هو منظور ومحسوس ومعاش وموثق في كثير من الوثائق، والأكثر من ذلك أنها معلنة على الهواء مباشرة عبر الفضائيات والشاشات، في أن الأزمة الخطيرة التي يمر بها الاقتصاد السوداني، سببها الفساد. وبالعودة إلى هذه الشعارات نجد أن أهمها هو شعار رجال السلطة القائل ‘لا للسلطة والجاه، كل شيء لله والله أكبر، الله أكبر’ مع إيماءة تتبع قائلها برفع أحد أصابع اليد اليمنى عموديا في اتجاه السماء في تعبير عن سلطة ‘زاهدة’ في شؤون الدنيا من حكم ومال وبنون، وأنها تعمل من أجل الله تعالى، ليتبين للشعب السوداني بعدها أن ذلك جزء من حبكة سياسية لخطاب ديني تضليلي محض، لأن الأصبع نفسه انحرف سريعا وتحول أفقيا في اتجاه ‘ملء الجيب’. فيما قابلت تلكم الشعارات شعارات أخرى مضادة ومعبرة في آن عن مرآة لتفاصيل يومية وحياتية تعكس الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيشه السودانيون، هذه الشعارات هي كثيرة كشأن الأولى، لذا نكتفي هنا بتلك التي وردت خلال تظاهرات الشعب السوداني في رمضان وايلول/سبتمبر الماضيين ضد الحكم السوداني مثل ‘لن يحكمنا لص كافوري’ و’مرقنا، مرقنا ضد الناس السرقوا عرقنا’، وبتفحص هذين الشعارين نرى أن رمزيتيهما تلخصان وتوضحان جزئية من الأزمة، الأول فيه إشارة إلى موقع إقامة الحكم وصاحبه وتوجيه اتهام شعبي له ورفض حكمه، أما الثاني فهي رسالة اتهام واضحة للحكم بسرقة مجهود وعمل الجماهير السودانية. والغريب في الشعارين أنهما يشتركان في نتيجة واحدة وهي أن هناك سرقة موصوفة تتم للدولة ومن رجال الدولة أنفسهم وفق شهادة شعبية وردت خلال ثورة سبتمبر، التي راح ضحيتها المئات. والأهم في هذه الأدلة، هو الدليل الشعبي الجماهيري الواسع النطاق كبرهان لم يكن عفويا بالطبع أو مزاجيا أو اعتباطا أو تصفية لحسابات سياسية، وإنما يعبر عن حالة وظاهرة ملموسة للجماهير السودانية حول وقوع وارتكاب مخالفات وفساد تتجاوز إعدام الضحية مجدي، لأن عادميه تحولوا هم أنفسهم الى سادة تجارته، فيما الأهم هو نكوص لمبدأ وركن من أركان دولة ‘الشريعة’ المرفوعة عمدا وهو ركن العدل والأمانة، كما يدحض في ذات الوقت افتراءات من يزعم بأن ‘الاقتصاد السوداني صادر من مشكاة متقدة بنور الإسلام’ حسب توصيف الحكومة السودانية لشفافية اقتصادها بعد زيادات الأسعار الأخيرة التي تحملها المواطن نيابة عن رجال الدولة، وتبريرهم لها بأنها جاءت ضرورة للحيلولة دون إفلاس الدولة، حيث العملات الأجنبية ماضية في النفاذ تماما من الخزينة المركزية، وقد يسأل سائل، قد توجد في أماكن أخرى هذا بدون أن ننجر إلى سبر أغوار حوض فساد السلطة السودانية في تفاصيله وشخوصه، وما يرشح يوميا من توثيقات وتسريبات ووقائع مادية داخلية وخارجية، لأننا نعتقد أن هذا ليس مهمة هذا المقال أو قد لا يسمح به المقال.
عليه، نلحظ مما تقدم أننا أمام وضع عصي على الفهم، بل مقلوب يصعب تركيبه ومن ثم تشريحه لمقاربة أكثر شمولية وموضوعية في ما أوردناه موجزا حول عصب النظام السياسي السوداني الحاكم ومبادئه ورموزه السياسية جاءت في شكل شعار أو خطاب وكذا اقتصاده المُعرف بأنه صادر من مشكاة متقدة بنور الإسلام، وبين ما جاء في تقرير منظمة الشفافية العالمية السنوي الذي يعتمد معايير عالية الدقة والكفاءة والعلمية لقراءة أوجه الخلل في اقتصاديات الدول، بالنظر إلى استشراء حجم الفساد فيها، في هذا التقرير تموقع السودان في سلم الريادة وبجدارة وكان في خانة العشرة الأوائل دوليا في تفشي الفساد والمحسوبية، هذا دون الأشياء الأخرى واستنتاجا وفق النقاط التي تحوزها كل دولة، قد يحتل السودان المرتبة الثانية أو الثالثة في العالم بعد الصومال [3]، مع أن هناك مبررا للأخير، يتمثل في انهيار مؤسسة الدولة منذ نهاية حكم محمد سياد بري عام 1990. كما ان السودان أيضا يحتل المرتبة الخامسة ضمن لائحة الدول الأكثر فقرا بسبب الفساد، وهي من مراتب الصدارة كما تصنف، ليصبح السودان جراء هذا الخلل الذي في جوهره سياسي مكبا للإعانات الدولية أو قل’ للنفايات’ عوض أن يكون سلة للغذاء في العالمين العربي والأفريقي، استنادا إلى موارده الطبيعية، وهو الشيء الذي شكل مادة إعلامية دسمة ومؤلمة للصحف السودانية منذ سنوات، التي سرعان ما تتم مصادرتها قبل نشرها ومن داخل المطابع، وفيها أوقفت الأجهزة الأمنية واعتقلت كتابها وصحافييها ومنعتهم من الكتابة لفترات، إن الحديث يتم عن’عصابات لمافيا سياسية سودانية تلتهم ثروات البلاد باسم الله’.
المؤكد في هذا الصدد أن ظاهرة الفساد ليست ظاهرة سودانية أو عالمثالثية بل ظاهرة عالمية نجدها حتى في أعتي الديمقراطيات الرأسمالية الليبرالية، رغم شفافية العمل العام وآليات ضبطه، إلا أن الغريب في الحالة السودانية ‘ الإسلاموية’ وشعاراتها المزيفة تجاوزت حد الظاهرة لتصبح ثقافة سياسية مكتملة الجوانب ولها صانع وسائق سياسي حتما، وبالرجوع للماضي القريب وليس البعيد نرى أن ثقافة الفساد بدأت منذ سنوات السيطرة الأولى للنظام، أي إبان القبضة الأمنية الحديدية التي لازمها تنفيذ سياسية تفريغ الوطن عمدا من مواطنيه، عبر فتح كل الأبواب لكي يهاجر السودانيون لإخلاء المكان وبناء الخراب وقتل الديمقراطية الناشئة، فيها عرف السودان أكبر هجرة في تاريخه الحديث والقديم إلى الخارج جراء الضغوط وسياسيات الطرد لعدد كبير من الكوادر المؤهلة الممسكة بالخدمة المدنية في البلاد، باسم’سياسية الصالح العام’ بل ‘الصالح الخاص جدا’ في عملية استبدال وإحلال واسعتين كشأن تبديل قطع الغيار، لتتولى عناصرهم التي تفتقر للتجربة والممارسة وحتى التأهيل العمل على تسيير وتدبير دورة الشأن المدني والاقتصادي والمالي والإداري للدولة والمواطنين، فاستطاعت ضمن سياسية ‘التمكين’ الاستيلاء والإمساك بجميع مفاصل الدولة، لاسيما الأمنية والاقتصادية والمالية بشكل خاص، والغرض من ذلك تفكيك المجتمع وإعادة تشكيله من جديد وبولاءات لا تستطيع الإفلات من بنية الطبقة الإسلاموية الرأسمالية التي تكونت حديثا، هذه الطبقة الجديدة أصبحت هي الدولة العميقة والظاهرة لتؤسس علاقاتها مع المجتمع بناء على علاقة المالك والعامل، فالعلاقة العقدية القائمة مع الدولة ليست على أساس مبدأ المواطنة والحقوق والواجبات، وإنما على أساس التبعية والسخرة والحاجة الاقتصادية لكسب الولاء والطاعة في جميع أجهزة الدولة والقطاعات المدنية الأخرى، وبالذات الأمنية والعسكرية منها، وفجأة أصبحت قوة عمل وعطاء القطاعات العاملة في الدولة وغير الدولة تعود لفائدة القوى المسيطرة – عوض الدولة – التي بنت رأسمالية خاصة لها، من خلال الناتج العام للدولة الذي وقع في شرك المصادرة والابتلاع لفائدة الحزب والأخير للطبقة الرأسمالية الإسلاموية الجديدة.
مع الإشارة إلى أن التقارير الموثوق فيها تتحدث عن 84 مليار دولار كانت مداخيل الدولة من النفط خلال الخمس سنوات الماضية، وبعد عام فقط تتحدث الدولة عن انهيار إقتصادي والغريب ضمن هذا المضمار أن ميزانية الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، كأهم مرافق الدولة لا تتجاوز 2′ فقط من الميزانية العامة، فيما الميزانيات الأمنية والعسكرية الحربية والامتيازات مفتوحة والتضخم هو الأعلى من نوعه في تاريخ السودان. كما أن تقرير المراجع العام يشير في كل سنة إلى مليارات ضلت طريقها في الوصول إلى الخزينة العامة بدون أن يجيب أحد والإجابة واضحة.
لا شك أن الفساد تم توطينه وسودنته’ليصبح عنوانا مهما لمرحلة الإنقاذ، والمؤسف أنه ارتبط عضويا ومؤسسيا بجهازه السياسي الرسمي الحاكم واعتلى المرتبة الأولى مناصفة مع حروب الإنقاذ ضد الشعب السوداني، لذلك يبدو أننا أمام ظاهرة لفساد غير عــــادي، بل أمام عمــــل ضخم مرتبط بموارد الدولة والتلاعب في اقتصادها ومداخليها وشكل وبنود صرفها وكيفية توزيعها بدون أي ضوابط أو مؤسسية. وأجمل تحليل أستحضره في سياق هذا الموضوع ما كتبه أحد كتاب ومفكري قــــــيادات الحركة الإسلامية قبل أن تتراجع وتضمحل، الذي انشق عنهم باكرا جــــدا بقوله’ إن سلطة الإنقاذ قالت للشعب السوداني اذهبوا للجوامع وهم ذهبوا للسوق’ هذا الذهاب المبرمج للسوق كان مدخلا للفساد القائم على توظيف السلطة وتوليفها مع الفساد في زمن الحكم الرشيد.
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن
عن القدس اللندنية