السودان وتشاد.. حسابات الربح والخسارة
بقلم: عبد الرحمن أبو عوف
حين حطَّت طائرة الرئيس التشادي «إدريس ديبي» على مدارج مطار الخرطوم الدولي في زيارته الأولى للسودان منذ عام 2006 واستقباله بحفاوة بالغة من قِبل نظيره السوداني عمر البشير، ساد يقينٌ بأن صفحة الخلافات التي سادت علاقات البلدين منذ اندلاع الصراع في دارفور وما تلاه من دعم السودان لمحاولة اسقاط الرئيس ديبي والاستيلاء على الحكم في إنجامينا، ورد تشاد بتقديم الدعم لمقاتلي حركة العدل والمساواة في دارفور في مغامراتهم للوصول الى الخرطوم، وأن علاقات البلدين توشك أن تجتاز مرحلةَ الشدّ والجذب وما شهدته من تبادل لقطع العلاقات الدبلوماسية وسحب السُّفَراء، بل ووصول الأمر إلى حد دنو المواجهة العسكرية.
وخلال هذه السنوات وقع البلدان بحضور كل من البشير وديبي ست اتفاقيات لتطبيع العلاقات بين الطرفين تتضمن ترتيبات سياسية وعسكرية، تمنع استخدام أراضي كل منهما في أعمال تضرُّ بالنظامين، والتوقف عن تقديم الدعم اللوجيستي والعسكري للمتمردين من الجانبين من خلال وساطات لعبتْ فيها عواصم عربية وإفريقية أدواراً مهمة مثل طرابلس الغرب والرياض والدوحة، وآخرها توقيع اتفاقية مماثلة برعاية الرئيس الحالي لمنظمة المؤتمر الإسلامي السنغالي (عبد الله واد) في الوساطة بين البلدين، غير أن هذه الاتفاقيات كان مصيرها الانهيار بعد ساعات من توقيعِها، لا سيَّما اتفاقية داكار التي تلتها محاولتان لإسقاط نظامي الحكم في البلدين وتبادل للاتهامات بين الخرطوم وإنجامينا حول مَن يقف وراء نقض الاتفاقيات المتتالية.
شكوك ومخاوف
غير أن مراقبين يعتقدون أن التطورات الأخيرة في السودان وتصاعد الضغوط الدولية عليه في ما يتعلق بالمحاكمة الجنائية الدولية, فرض على الخرطوم ضرورةَ التحرُّك بشكلٍ جدِّي لتسوية الأزمة مع تشاد الداعم الأساسي للمتمردين، باعتبار ذلك البوابة الذهبية لتوقيع اتفاقية سلام شاملة تتجاوز اتفاقية أبوجا مع جناح من أركو ميناوي تنهي سنوات الصراع في دارفور وتخفف الضغوط على النظام الذي يواجه استحقاقين في غاية الخطورة, أولهما انتخابات رئاسية في آذار القادم، واستفتاء لتقرير مصير الجنوب السوداني أول العام القادم.
ويتكرر الأمر مع نظام ديبي الذي يواجه تحديات أخرى تهدد بقضم ظهر نظامه المحاصر بالمعارضة المسلحة القادمة من دارفور، التي أوشكت خلال العامين الماضيين على إسقاط نظامه لولا تدخل الراعي الفرنسي بمقاتلاتِه لإنقاذ حليفهم الذي أوشك على طلب توفير خروج آمن له من السلطة بعد الحصار المفروض عليه من ميليشيات الجبهة الوطنية المدعومة من قِبل حكومة الإنقاذ السودانية، بل إن مصير سقوط سلفيه جوكوني أودي وحسين حبري بدعم من حدود السودان ما زال ماثلاً أمامه، فضلاً عن الإرهاق المحاصر لنظامه بفعل تزايد المتاعب الاقتصادية والتذمُّر الشعبي, وقد فرضا على ديبي التخفيف من تشدُّدِه والإيعاز لوزير خارجيتِه موسى فكي البحث عن تسوية جادة للتوتر مع الخرطوم، وطيّ الصفحة السوداء من علاقات الجارين اللدودَيْن لا سيَّما مع اقتراب خوضِه انتخابات برلمانية واستحقاقاً رئاسيّاً.
صفقة أمريكو- فرنسية
الضغوط الدولية والمشاكل الداخلية المحاصرة لنظامي الحكم في البلدين ليست وحدها الدافع لهما لاحترام اتفاق التطبيع الأخير، بل إن هناك سيناريوات ترددها مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى في الخرطوم والقاهرة توحي بأجواء من التفاؤل حيال إمكانية أن يرى الاتفاق النور ويتم تطبيقه على أرض الواقع تدور في فلك توافق فرنسي-أمريكي على صفقة تفرض بموجبها واشنطن على الخرطوم عدم إثارة المتاعب لحليف باريس التشادي، مقابل تراجع الأخير عن دعم متمردي دارفور، بالإضافة لتخفيف الضغوط الفرنسية على السودان في ما يتعلق بالمحاكمة الجنائية الدولية وقبولها بصيغة وسط لتشكيل ما يطلق عليه القضاء الهجين من قضاة سودانيين ودوليين لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور.
أجواء استقرار
سيتيح تطبيع العلاقات مع الخرطوم الفرصة لديبي للدخول في تسوية مع الجبهة الموحَّدة للتغيير بعد تقلُّص الدعم السوداني لها بشكلٍ يضطرُّها للتخفيف من مطالبها المتشدِّدَة وإقناعها بقبول حلول وسط مع إنجامينا بعيداً عن المحاولات المستمرة لإسقاط النظام، فضلاً عن عودة الاستقرار لتشاد، ستعيد معها الاستثمارات الأمريكية والغربية، لا سيَّما في مجال النفط والتي غادرت البلاد بفعل الاضطرابات السياسية المستمرة منذ أوائل العقد الحالي وسعي المعارضة المتتالي لإسقاط النظام، إلا أن ديبي مطالب إذا أراد المضي قُدُماً في شوط التطبيع لآخرِه مع الخرطوم بلجم اللوبي القبلي المحيط به، والذي كان مسؤولاً خلال السنوات الماضية عن تصاعد التوتر مع السودان بفعل الدعم المقدَّم للجناح السوداني من قبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها ديبي نفسُه، وهي مهمة يعتقد المحللون أنها صارت سهلة في ظلِّ المخاطر المحيطة بنظامِه.
وفي النهاية تبقى هناك إشارةٌ مهمة لا بدَّ من التركيز عليها، تتمثل في أن جدية النظامين في تنفيذ الاتفاق الأخير ستبقى حجر الزاوية في نجاح محاولات التطبيع، مما سيتبع ذلك من توفير الهدوء على حدود البلدين باعتباره جزءاً مهمّاً من المساعي لتسوية أزمة دارفور، لا سيَّما أن البلدين مطالبان بالوضع في الاعتبار حسابات الكسب والخسارة سواء بسواء، والمفاضلة بين تطبيع العلاقات أو استمرار التوتر، وهما أمران واضحان لا يحتاجان لتدقيق شديد لإدراكهما، لا سيَّما أن خسائر التوتر أقضَّت مضاجع النظامين ووضعتهما على المحكّ الصعب، مما جعلهما يبحثان عن طوق نجاة ولعلهما نجحا في الوصول إليه أخيراً.
الامان الدولي