السودان وايران ..معارك الدين والدنيا..!!.
* خالد ابواحمد [email protected]
على الرغم من أن النظامين السوداني الإسلاموي (بالانقلاب) والنظام الإيراني الجمهوري الإسلامي (بالثورة) يرتكزان على مدرستين مختلفتين مذهباً، ووسيلةً للوصول للحكم إلا أن الحراك السياسي والجماهيري في البلدين يؤكد أن معركة الإنسان نحو الحرية الأصيلة لن تنتهي إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وأن ترقي الإنسان نحو حرية الاختيار (حتى للدين) هي الخيار الإلهي للإنسان ليشق طريقه نحو العبودية الحقة دون عوامل تأثير اجتماعي أو بيئي أو سياسي على شاكلة ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه …). وأن المتلهفين لحسم السلطة لتطبيق الخيار الاسلاموي عجلةً إنما يقبضون الريح، فما باتت الشعارات بالإسلاموية السياسية لقيام الدولة المتوضئة تحت فوهات البنادق مقنعة للجماهير ما دام سلوك متبنييها يجانف القيم الداعين إليها ظاهراً وعياناً بياناً، بل يجافي أيما مجافاة معايير الحرية النبوية في تناقض فاضح لكل ذي بصر ناهيك عن أصحاب البصيرة، ما يؤكد بروز أنواتهم في هذه المشاريع.
إن ما يحدث في السودان وايران حالياً يمثل صورة طبيعية لحقيقة الصراع الكوني في الانعتاق من قبضة القوى الباطشة والظالمة على مقدرات الشعوب لذا نجد (الأنا) هي أساس الصراع الإنساني المختزن كله في قصة إبليس المتمرد رفضاً للسجود لأهل الحرية الحقة، والمُتسبب عناداً وكفراً في الإنزال للأرض لتبدأ قصة الإنسانية في الصراع المستمر بين الأنا و (اللا أنا) والذي تلعب فيه (الأنا) السياسية دور الوقود الحيوي، هذا وما زال إبليس الكبير يزعم أنه أكبر المُوحدين، ما يدلل بأن هناك فرقاً بين الشرك والكفر وليس كما أوهمنا المفسرون، فهو لم يقل لله أشركت بك بل أقر له بالإلوهية والعزة ( فبعزتك لأغوينهم …)، وهذه هي الجدلية التي سيمارسها الإنسان عند نزوله إلى الأرض، فيصلي لله ويعلن الشهادة له لكنه يسلك سلوكاً يعبد به (الأنا) المستمدة نسخة طبق الأصل من محاججة إبليس الذي مازال مصراً أن يجول ويصول حوله ومعه ثم به، كما أن انتزاع الأنا من الناس هي أكبر المعاناة التي عانها الرسل والأنبياء في مسيرة تبليغهم الناس رسالات الله وبعد إسلامهم لله.
وإن قال قائل بأن لأصحاب المشاريع الإسلاموية المزعومين أتباع من حملة أعلى الشهادات وأدناها، أقول بأن هؤلاء الأتباع لهم أيضاً (أنوات) تُشاكل وتُطابق (أنوات) القادة إلا أن هؤلاء الأتباع ما وجدوا فرصة تفريغها في الغير فانبطحوا لمن يظهر أنواتهم بالأصالة عنهم فتبعوهم حالهم حال المصريين عندما قال لهم فرعون “أنا ربكم الأعلى” فهتفوا دون تفكر قائلين ( يعيش ربنا الأعلى)، ( فأضل قومه فأطاعوه) حتى أداة العطف (فـ) تدل على العطف بدون تراخي مما يدل أن بعض الناس لا يفكر ولا يتروى ولا يتعظ، .. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ” الأرواح جُند مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف”..؟.
هل هناك يا هداك الله ( كما يحلو لأستاذنا مصطفى البطل التعبير) إنسان يكره قيم العدل التي جاء بها كل الرسل وبذل لها الفلاسفة أرواحهم، ويحب الظلم والظالم سواء على مستوى الممارسة الحياتية اليومية أو الممارسة السياسية العامة مسلماً كان أو هندوسياً إلا إذا كان مختلاً.. هل هناك إنسان كهذا .. كلا وألف كلا .. وبحديث الرسول، لا حاجة لنا هنا بمجادلات الأشاعرة والمعتزلة حول قُبح أو حُسن العدل، فالعدل حسن حتى عند الحمير لو نطقت بدل النهيق كلاماً عند ضربها لتحث السير أكثر مما تطيق.
ليس في القرآن الكريم ولا الإسلام تفريغ عقد السادية ولا بل عفو وصفح وتفويض الأمر لله ولكن يفعل ذلك الصفوة من أصحاب القلوب الزكية، الذين يخدمون المشروع الإلهي الحق وعينهم على الجزاء هناك لا هنا، لا أصحاب الذكاء العقلي فما وجدت في القرآن آية واحدة ذكرت العقل بخير، بل المدح كله للقلب عند المقاربة بينهما ما يدل أن قيم الخير لا ارتباط لها بالعقل وإنما جماع أمرها هو القلب وما العقل إلا Filter لا يقبل منه القلب إلا المصفى من الأمور، فالدين لا يكون في العقول إنما في القلوب،لذلك ما جبر الله حتى الرسل أن يسوقوا الناس إليه سوق البهائم ناهيك عن أن تقوم بذلك (أنوات) عاجزة عن كبت طبيعة اللحم المكتنز والدم الجاري فيها على حساب القلب في أقل الابتلاءات اليومية المتعرضين لها، مدعين أنهم الأعقل مما يؤكد أن إجماع العقلاء الذي أسست له المدارس الفقهية يحتاج للمراجعة خصوصاً بعد التجربة السياسي ة السودانية الإسلاموية الحاضرة التي من وراءها مجموعة كبيرة من عقلاء المستنيرين، والتي تجعلني أؤكد أن العقلاء قد يجتمعون في أحياناً كثيرة على الأمر (الشين) وترفض قلوبهم (الزين) لأنه يجانب مصلحتهم، ودونكم في حياتنا الشاخصة هذه نماذج جماعية أخرى… هذا مع وجود كثير من أهل العفو والصفح ومحبي العدل المبتعدين من تسيير شؤون الناس العامة حكمةً وإدراكاً منهم لوعورة طرق سوق الناس إلى الله غصباً مثل ما يفعل سُرّاق الدين الذين أخرجوه من قواعده الأصيلة ليحققوا أنواتهم، فطمسوا جمال أمره، ومضاء عزمه، ورحمة نهجه.
هذا الأمر يقودنا تلقائياً للسؤال الموضوعي والمنطقي..كيف تمكنت الدُول الأوربية من خلال المشروع الفكري الإنساني أن تُؤسس معايير سياسية واقتصادية واجتماعية رفعت بها إنسانها إلى ممارسات حياتية يومية راقية، مقابل حالتنا الماثلة نحن المسلمون من المحيط للخليج مع تفاوت في المقدار، وكيف عجز سدنة المشاريع الاسلاموية الحاليين من تحقيق ذلك؟.
ومن سوء الحال تأتي الأسئلة تباعاً.. لماذا يهرب كثير من العُلماء والمهنيين من دُولنا إلى دول الغرب ملتجئين لعفوها وسعة صدرها..؟ تساؤل مشروع يضرب في صميم الأُسس الفكرية المرتكزة عليها مفاهيم أنظمتنا ممن ترفع راية الدين، وتتاجر بها وتريق بها الدماء البريئة.
وتساؤل مشروع ما دمنا والحمد لله نؤمن بأن القرآن مشروع إلهي مقابل المشروع البشري الواصل للفضاء، والمتواصل بالانترنت في عصرنا هذا، فهل يقول لنا سدنة المشاريع السياسية الاسلاموية أن الحالة الواصلة إليها شعوبنا هو كل ما استقوه من القرآن ليضعوا به هذه الشعوب في مصافي الجهل وأفكار الحقد وضيق مواعين الحوار، هذا والقرآن أكبر كتاب يدعوا للحوار (كتاباً قيماً) بل أغلبه حوار بنصوص عالية القيمة راقية النهج …. هل تعلمنا منه كيف ندير الحوار مع أنفسنا أم لجأنا للإقصاء وحرب الملفات القذرة لإثبات أنواتنا حتى إن أدى ذلك أن نرفع الإسلام شعاراً للوصول لمأربنا في سابقة تكرر رفع قميص عثمان، ورفع المصاحف في وقعة صفين ضاربين بالمبادئ الأصيلة للدين عرض الحائط مقابل نفخ أهوج وبليد للأنا.
ما يعني لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يسير الآن في شوارع نيويورك أو إحدى أرقى العواصم العالمية ويتعامل مع تفاصيل الحياة المعقدة فيها لتعامل بتمدن، وتحضر، وأدب، وجمال سلوك يلفت إليه دهشةً أنظار مواطني هذه المُدن الذين ابتكروا تفاصيل حياتهم وقوانينهم خلال قرون من الجهود والتعب، فكل متمدن متحضر وليس كل متحضر متمدن فقد يعيش الإنسان في قمة الحضارة وليس له نصيب من المدنية كما يفعل قادة لنا حاليين عاشوا ودرسوا في دول هي قمة العصر الحالي من الحضارة العلمية والفكرية والمعمارية، لكنهم طبقوا شريعة الأسود لا شريعة الله.
إن العُذر والتفسير الوحيدين الذي أجده لهم أن إسلامهم يعتمد على الشق العقلي لا القلبي- بيد أن الأسود لا تفترس طرائدها من الخلف وتمنحها على الأقل حق الاختيار في الدفاع عن نفسها مواجهةً أو هرباً ثم تصرعها، وكثير من البشر لا يتسع خُلقهم فعل ذلك في ثورة غضبهم عند تصفية خصوماتهم تحديداً السياسية منها .. خُيّر الرسول بأن يتدخل الأخشبين لحسم الصراع فاختار العفو والدعاء لهم لا عليهم، ولم يعيرهم بأنهم كانوا قبله من شدة الجوع يسافرون في رحلة الشتاء والصيف للشام في ستة شهور لجلب الطعام، بل بشرهم بانفتاح الدنيا لهم والفوز بالآخرة .. عكس ما تم وصفنا إعلامياً أمام الوكالات بأننا كنا نصطف في صفوف الخبز ساعات .. نعم وقفنا وكانت (الرغيفة) أكبر حجماً… وما وقفنا وغابت قيم التكافل وما زالت (الرغيفة) بقروش كما كانت وخرجت عيون الرأسمالية العشوائية الجديدة من محاجرها تكنس أخضر ويابس البلد دون مبالاة مثل طوفان الجراد الذي لا يشبع .. كذلك خُيّر الرسول أن يكون ملكاً رسولاً فاختار أن يجوع يوماً مع الفقراء ويأكل يوماً مثلهم فما بال الهمازين، اللماظين، النهازين يطمسون هذا الجمال وهذه الروعة وهذا البهاء.
لا يمكن أن يجتمع لدى من يقود الدين في حياة الناس حسابات (متلتلة) في البنوك، ولا عقارات شاخصة تحجب نزول الماء من السماء، بل حياة شظف وترقي تفتح للقلب معارف، ورحمة وأخلاق الله ليُساس بها الناس. إن أصحاب المشروع الإسلاموي بفهمهم هذا يحجبون نور الإسلام عن الآخرين بل يضعضعون إسلام المسلمين أنفسهم … ودونكم حكاوى ونكات في بلادنا أصبحت أقرب إلى قول الكفر الصراح، حيث أصبحت النكتة السوداء في أمور الدين مادة متداولة بين العامة دون محاذير .
ثم أليس من المخجل أن تأتينا نشرات الأخبار منذ فترة في كل يوم جمعة عن تفجير مسجد في إحدى الدول، وقد أخذت بلادنا نصيباً من ذلك وكاد أن يستمر لولا لطف الله وسماحة الشعب السوداني ورسوخ قيمه، مسجد يفجره مُسلمون يصلون على مسلمين مُقيمين الصلاة التي يقول البارئ جلا وعلا عنها إنها لكبيرة إلا على الخاشعين.. وبين الخاشعين وكبيرة تشخص في الخاطر صور حياتنا وكلام أحد المسئولين بأن المساجد أصبحت ممتلئة بالمصلين. لكني أسأله ما هو مردود إمتلاء المساجد بالمصلين على الحياة العامة..؟!.
فلقد صار لدينا الدين مظهراً من مظاهر الكمال البشري مثل أن يتزوج المرء لكي يقال فلاناً قد أكمل دينه لا أن يحقق الهدف الرباني من هذا الاقتران العظيم، فنحن بعد إقامة الصلاة.. نكذب.. ونسرق.. ونظلم.. ونسفك الدماء بأسهل ما يكون، وكل ذلك تقرباً لله حسب فهمنا، فما خشعنا لله في الصلاة ولا قدرناه حق قدره في مجريات الحياة، وما استجمعنا قيمه القرآنية بعد الصلاة للتزود منه وشحذ نفوسنا بقيمه في الممارسة الحياتية اليومية لتكون الحياة كذلك صلاة لله فلا ظلم ولا كذب ولا أكل لأموال الناس بخطط وسياسات إن انطلت على البسطاء لا تنطلي على الملاْ الأعلى الذي لعله ينظر إلى سلوكنا السياسي اللامبالي نظرة غضب جف جراءها الزرع والضرع، وفشلت من جراءها الخطط الزراعية، وقد أعمى الله بصيرتهم فاصبحوا مشغولين بخدمة أنفسهم وذويهم حتى أطبقت عليهم الأمطار من كل جانب كشفت عن سوءاتهم الدنيئة..فتهدمت البيوت ودمرت الطرق التي (شرطوا) بها آذاننا عبر الاجهزة الاعلامية وجاء الخريف وكأن شيئاً لم يكن، فرددوا الاسطوانة السنوية “أننا تفاجأنا بالأمطار”، فسلوك الإنسان ينعكس على حياته إما نعمةً أو نغمةً، لكن القوم لا يتعلمون من التجارب، وقد بين لنا المولى تعالى بأنه لا يفلح المجرمون.
إنني لم أجد في الحياة أو في الكتب أناساً في مثل حالتنا السياسية الراهنة يتقربون لله بالابتعاد عنه، لكنه لا يعتدي على أهل مملكته وذلك مداً لنا برحمته للتعلم منها لنؤسس لنظام حياتي رحيم ليس همه جلد الناس وقهرهم بل تأديبهم بلين القول وإرشادهم وعلاجهم وتعليمهم مجاناً، ودفع الضمان الاجتماعي لهم، وتوفير طبيب أسرة يفحصهم دورياً، وبناء الإصحاح الصحي لهم، وتشييد الطرق بمواصفات عالمية لهم، حينها سيخشعون لله في الصلاة وفي الحياة ولن يكذبوا أو يزيدوا اللبن بالماء، أو يبيعوا لحم الحمير على أنه لحم بقر ..ذلك هو التوجه الحضاري الحق وما بعد الحق إلا ضنك العيش ولو جرى النيل بترولاً.
إن الإشكالية الكبرى التي تواجه النظام الإسلاموي في السودان ليس المعارضة السياسية، ولا التلويح بحصاره اقتصادياً، فهذه أمور تتراوح وتزول بالإلتفاف عليها كما حدث خلال 20 عاماً في مضيعة لوقت البلاد ما شهد لها التاريخ مثيلاً، لكن إشكاليته الكبرى أن الشعب السوداني بحسه الصوفي من أكثر الشعوب معرفةً ووعياً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذه السيرة سيلزمهم ويحاسبهم هذا الشعب بما قالوا … فحساب التاريخ أوجع من ثورة عابرة لأنه سيطعن في آدميتهم مدى الدهر بما كسبت أيديهم.
ومن غرائب الصدف أننا كل يوم نكتشف جديد عن احتراف الكذب لهؤلاء القوم فقد اعترف الرئيس عمر البشير هذا العام بحقيقة بيوت الاشباح والممارسات التي تمت في الماضي، في سياق حديثه حول تغير النظام لاستراتيجيته السابقة، ومؤكداً ما ظل ينفيه الانقاذيون على مدى عشرين عاماً مضت، وصرفت فيه الدولة المال الكثير لتسويق هذه الأكاذيب من أكل وراحة الشعب السوداني، آخيراً أعترف الرئيس بعد كذبة استمرت عقدين من الزمان في ظل نفي شبه يومي وعلى كل المستويات من الاعلام وعلى كل الصعد المحلية والاقليمية والدولية.
وفي ذات السياق فضح موقع “جهان نيوز” الإيراني العالم الاسلامي بنشر صوراً لوزير العلوم في حكومة أحمدي نجاد السابقة وهو يلتقي بنظيره الإسرائيلي، وقد سبب نشر الصور حرجاً بالغاً للرئيس الإيراني الذي طالما انتقد إسرائيل وطالب بمحوها من الوجود، وقد كان يتاجر سياسياً باظهاره العداء لإسرائيل لكسب أكبر عدد من المؤيدين، وكذلك يفعل النظام السوداني وقد احترف الكذب على الشعب 20 عاماً، أي مستقبل هذا الذي ينتظرنا مع أنظمة ترفع شعار الإسلام وتفعل نقيضه..؟!.
* صحفي سوداني مقيم بالبحرين
خالد عبدالله- ابواحمد
صحفي وكاتب سيناريو