في يناير 2005م جرى توقيع اتفاقية نيفاشا التي كان أحد بنودها الاستفتاء الشعبي على مصير جنوب السودان عام 2011م.
خلال أكثر من خمسة أعوام منذ توقيع الاتفاقية وبينما العد التنازلي للانفصال قد بدأ، هل قامت الأطراف المعنية بالأزمة، أو التي يتهددها الخطر من تقسيم السودان ، بما يتوجب عليها أن تقوم به؟
إنها خمسة أعوام كان يمكن أن يحدث فيها الكثير؛ فقط لو توفرت الإرادة السياسية.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد كان يمكن أن تُدعَم حكومة الخرطوم (عربياً) بكل ما يلزم لإنعاش الاقتصاد المحلي وإضعاف الحصار المفروض على السودان، وهو ما كان من شأنه أن يقوي أسهم النظام في مواجهة نزعة الانفصال.
وأما على المستوى السياسي، فلم تحظَ الخرطوم بأي دعم عربي لتخفيف الضغوط الغربية المؤيدة لتقسيم السودان، أو للتوسط بجدية لدى القوى المتمردة في الجنوب لإقناعهم (بكافة السبل الممكنة) بعدم جدوى الانفصال.
وأما على المستوى العسكري، فلم تتفاقم الأزمة من الأساس إلا بسبب الإحجام العربي عن تقديم دعم عسكري للنظام السوداني يمكنه من حسم المعارك مع التمرد الجنوبي، وهو ما كان سينهي الأزمة بصورة مختلفة تماماً.
ويتوجه اللوم أيضاً لبعض أطراف النظام السوداني الذي أخفق في احتواء الأزمة طيلة خمس سنوات كانت كافية لتجاوز المحذور لو أُحسن استغلالها.
الآن لا يوجد الكثير لفعله أو حتى لقوله، فقد وصلت كافة الجهود إلى طريق مسدود، وأوشكت الأطراف المتآمرة على قطف ثمار ما زرعوه بكد ودأب منذ سنوات طويلة لتفتيت العمق العـربي في إفريقيا؛ فبعــد أن ضــاعت الصـــومال، ها هي السودان في الطريق، وبعدها سوف تتسع دائرة الخطر لتشمل دولاً أخرى كانت تَعُدُّ نفسها آمنة، وغاب عن حكامها أن الأحداث الحقيقية في دولة مستهدفة هي بمثابة «بروفة» لما سوف يحدث في الدولة التالية لها على القائمة.
ليس كل الخطر في انفصال الجنوب السوداني، بل فيما سيعقبه من تنامي نزعات الانفصال في شرق السودان وشماله وغربه، بل قد يؤدي إلى تنامي نزعات الانفصال في دول عربية وإسلامية أخرى. وإذا كان مجرد توقيع اتفاق نيفاشا قد تسبب في تسخين مناطق التوتر في جهات السودان الثلاث (عدا الجنوب)؛ فماذا سيكون الحال عندما يتم الانفصال حقيقة لا كتابة؟
ليس بمستبعد أبداً أن ينقسم السودان إلى خمس دول مستقلة، ولن تكون كلها عربية الانتماء – على الأقل في الجنوب والغرب – وستزداد الدول العربية دولة أو اثنتين، وسيصبح نصاب الدول الفقيرة متزايداً، مع حكومات ضعيفة وأنظمة متهرئة لا تقوى على فعلٍ أو تأثيرٍ، بل ليس لها مقومات الدولة من الأساس اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً، وتلك بيئة نموذجية لاختراقها من قِبَل أعداء الأمة المتربصين بها الدوائر.
على الرغم من ذلك لا يزال هناك بارقة أمل في أن تُبذل جهود عربية وسودانية لتدارك الموقف قبل أن يصل إلى نقطة تستحيل معها العودة. ورغبةً في تدعيم أي جهد مبذول في هذا السياق، فإن مجلة البيان خاطبت عدداً من علماء الأمة ورموزها كي يوجِّهوا نداءً أخيراً إلى من يهمه أمر السودان، أن يبادر بالعمل من أجل معالجة الأزمة.
إنه نداء اللحظات الأخيرة، يطلقه علماء الأمة ورموزها قبل أن تُقلِع طائرة الانفصال ميممة شطر المجهول.
وقد آثرنا أن نعرض مشاركة الرموز الفضلاء مرتبة على محاور موضوعية تُلخِّص أبعاد الأزمة ومكامن الحل. وقد شارك في هذا النداء كلٌّ من:
د. ناصر العمر: المشرف على موقع المسلم.
د. همام عبد الرحيم سعيد: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن.
المهندس محمد الحمداوي: رئيس حركة التوحيد والإصلاح في المغرب.
د. حارث الضاري: رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق.
الشيخ عبد المجيد الزنداني: رئيس جامعة الإيمان في صنعاء.
د. عبد الرحمن البر: عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
د. عصام العريان: عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
د. محمد العبدة: مفكر إسلامي من سوريا.
الشيخ محمد موسى العامري: من علماء اليمن ومدير المعهد العلمي في اليمن.
لماذا السودان؟
إنه سؤال يقربنا كثيراً من فهم القضية وصولاً إلى آفاق معالجتها، ويقدم ضيوف المجلة إجابات وافية عن هذا التساؤل، فيقول الشيخ عبد المجيد الزنداني: إن ثورة الإنقاذ التي قادتها الحركة الإسلامية السودانية كانت تستهدف فضح المؤامرة الاستعمارية على الأمة، قاصدة أن «تقيم كياناً إسلامياً نموذجياً يصلح أن يكون قدوةً لسائر الشعوب والجيوش الإسلامية فتكالب الغرب وكل القوى المعادية على هذا النموذج وسعوا لاغتياله في مهده وإجهاضه في دولته وحاكوا كل وسائل التآمر لإسقاطه وفجَّروا كلَّ بؤر الخلاف والتناقضات الطائفية والدينية والطبقية والعرقية لإفشال المشروع في السودان»، وعندما أظهر قادة الثورة صموداً وثباتاً عمد الغـرب – وعلى رأسه الكنيسة وكل القوى المعادية – إلى تحريك الجنوب» الذي يشترط قادته المرتبطون بالقوى الاستعمارية تخلي أهل الشمال عن الشريعة إن أرادوا الوحدة، فوضعوا القائمين بثورة الإنقاذ بين خيارين:
1 – الإصرار على الالتزام بالحكم الإسلامي وبما أنزل الله وهو الذي سيواجَه بمؤامرة الانفصال.
2 – أو الردة عن الدين وبقاء الوحدة».
ويضيف د. عبد الرحمن البر بُعداً جديداً لاستهداف السودان، وهو كونه «بوابة الإسلام والعروبة إلى إفريقيا، وأنَّه لو نفذ الإسلام إلى هناك فإنَّ ذلك سيؤدي لانتشاره في كامل القرن الإفريقي ومنابع النيل ومنطقة البحيرات، وهي مناطق إستراتيجية هامَّة، وخصوصاًَ أنه قد لوحظ أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً من أهالي تلك البلاد. وأدركت الجهات الاستعمارية أنَّ العرب والمسلمين متى ترسَّخ وجودهم هناك سيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه الوصول إلى كافة مناطق إفريقيا».
ويشير د. محمد العبدة إلى البُعد الاقتصادي للاهتمام الاستعماري بالسودان، وأنه قد «جاء اكتشاف النفط – وربما معادن أخرى – ليزيد من تدخل القوى الكبرى ويزيد من أطماعها»؛ فالسودان – كما يقول د. همام سعيد – هو: «سلة العالم الإسلامي في الغذاء، وخزان العالم الإسلامي في الماء».
المؤامرة ليست قاصرة على السودان:
من أهم بواعث الكسل والتقاعس عن «إنقاذ» السودان من التفكك والانقسام، هو حالة الاطمئنان التي تنتاب أغلب الأطراف المعنية على طريقة «ما يحدث لغيرنا لن يحدث لنا»، بسبب علاقات يحسبونها قوية أو تحالفات يظنونها شافية كافية، وهذا فهم خاطئ خطير في الوقت نفسه، وبحسب د. البر فإن «قضية جنوب السودان ليست مسألة حرب أهلية، ولكنها مؤامرة عالمية لإقصاء العروبة والإسلام، لا تغيب عنها الصهيونية والصليبية العالميتين، ولا تستهدف السودان وحده، وتغذيها جهات كثيرة إقليمية ودولية»، وينظر المهندس محمد الحمداوي إلى ما يحدث في جنوب السودان بوصفه «نسخة تتكرر في عدد من البلدان الإسلامية بهدف مزيد من تشتيتنا وتمزيقنا وإضعافنا من أجل استغلالنا».
ويذكِّرنا د. عصام العريان بالتاريخ لكي ندرك ما يُنتظَر في المستقبل؛ فقبل عقود لم يكن متوقعاً أن تنفصل السودان عن مصر، وقد ظل الترابط بينهما سياسياً واقتصادياً متواصلاً منذ عهد بعيد، «وكان رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس- رحمه الله – يقول: تُقطع يدي ولا أوقِّع على وثيقة انفصال السودان عن مصر. وها نحن أمام تمزُّق مملكة مصر والسودان إلى 3 دول بسبب دسائس الاحتلال الإنجليزي والصديق الأمريكي»، ويواصل د. العريان تحذيره قائلاً: «إن خطة الاحتلال الأجنبي الذي جثم على صدور العرب والمسلمين نجحت (حتى الآن) في تمزيق الأمة الإسلامية الواحدة إلى أكثر من 50 دولة ودويلة، وتمزيق الأمة العربية إلى أكثر من 22 دولة ودويلة. والله – تعالى – ينادينا: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: ٢٩] ويطالبنا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ٣٠١]».
ويقول د. حارث الضاري داعياً إلى إزالة توهمات السكينة والاطمئنان: «يخطئ من يظن أن اقتطاعاً لجزء من أجزاء الوطن – أياً كان هذا الجزء – لن يؤثر على هذا الجزء نفسه أو غيره من الأجزاء الأخرى، ولن يُخلَّ بالوضع العام لهذا البلد أو ذاك من بلدان الأمة»، وكذلك يشير د. همام إلى المعنى نفسه مع تحديدٍ لأكثر الدول تعرضاً للخطر من انفصال جنوب السودان، فيقول: «ستكون هذه الدولة متحكمة في عموم أرض السودان ومياهه وشعبه، وسيكون هذا الانشقاق بداية انفراط عقد السودان كله، بل فيه خطر عظيم على مصر وشمال إفريقيا وعلى الأمة كلها».
أما الشيخ محمد موسى العامري فينبه الحكومة اليمنية إلى الاستفادة من الحالة السودانية داعياً إياها إلى أن «تبادر بإصلاح الأوضاع في جنوب اليمن وشماله وأن تسعى جاهدة إلى نزع فتيل المؤامرة وأن تسترشد بأراء العلماء والمصلحين الناصحين، وأن تقيم العدل والشريعة الإسلامية، وتستبعد المفسدين من دعاة التغريب والعَلمنة والفساد الذين سيتحولون إلى أذرع لأعداء الإسلام»، وينبه د. العامري إلى خطورة المؤمرات التي تحاك ضد اليمن في عدة مناطق؛ «ســواء في جنــوب اليــمن أو في شماله من خلال فتنة الرافضة المتمثلة في الحركة الحوثية التي تسعى بدورها إلى قيام كيان انفصالي آخر على النمط المذهبي الإيراني».
ليس انفصالاً كغيره:
إن جــنــوب الســودان – كمــا يقول د. العريــان -: «دولة لا تتمتع بأي منافذ بحرية، وتسودها النزاعات القبلية»، وبمعنى آخر هي دولة تفتقر إلى مقومات الدولة، وفي هذا السياق يقدم د. الضاري تحليلاً مهماً، فيقول: «أثبتت الأحداث أن هذه الاقتطاعات والانفصالات لا تشبه غيرها من الحالات الحادثة في البلاد الأخرى، التي ينكفئ فيها أهلها على أنفسهم ويعيدوا بناء ذواتهم ومن ثَمَّ يتعاملون مع غيرهم وَفْقَ أسس التعامل الإنساني المتعارف عليها في عالم اليوم. وبغضِّ النظر عن حاجة من يقطن هذه الأجزاء لتحقيق هويته الثقافية: دينية كانت أو قومية أو إثنية – وهو أمر لا يختلف عليه اثنان – فإن هناك من يدعم هذه الخطط مدفوعاً بأهداف أخرى هي بعالم السياسة أليق وبغايات المصالح الدولية المشبوهة أوفق».
فالقضية إذن ليست نابعة من حاجة فعلية لدى سكان الجنوب إلى إنشاء دولة مستقلة لهم؛ فهم كانوا يعانون من مشكلات معيَّنة ترتبط بالحالة الاقتصادية في أغلبها، ولكنَّ المتآمرين هم من رسَّخوا في الأذهان «حل الانفصال» كحل ناجع للمشكلات القائمة، على الرغم من أن القناعة التي كانت متوفرة لدى سكان الجنوب منذ القديم أن الانفصال أمر غير ممكن من الناحية العملية؛ فهو إذن انفصال مبرمج يهدف إلى إنشاء دولة عرجاء سيكون لها دور خطير في المستقبل.
ماذا بعد الانفصال؟
إن أبرز تداعيات الانفصال هي في انتقال «عدوى الانفصال» إلى مناطق عربية أخرى، كما يقول د. الضاري: «سيشجع هذا الأمر حركات انفصال هنا وهناك لتطل برأسها وتتحين الفرصة المناسبة لنقض وحدة البلاد والذهاب بمقدراتها، وسيكــون ما سيحصل في السودان _ لا قدر الله _ سابقة خطيرة ربما تحذو حذوها حركات أخرى مريبة متخذة من هذا الانفصال مثالاً وذريعة»، والمعنى نفسه يؤيده د. العبدة الذي يقول: «إن انفصال الجنوب ربما يشجع أقاليم أخرى. ومن الواضح أن تفتيت المنطقة من الأهداف التي يسعى إليها أعداء الإسلام»، ويقارن د. العامري بين الوضع في السودان ومثيله في اليمن مركِّزاً على خطورة إتباع أسلوب «النَّفَس الطويل» في تحويل المطالبات الشاذة إلى مطالبات مشروعة ومقبولة. يقول: «إن نجاح دعاة الانفصال والتمرد في فصل جنوب السودان يعني نجاح دعاة الجاهلية وإحياء النعرات الطائفية والعرقية والمناطقية في أماكن مشابهة ومنها اليمن؛ فدعاة الانفصال اليمني ينفخون في بوق النعرات الجاهلية وإحياء العصبيات المناطقية ويراهنون على سياسة النَّفَس الطويل وشرعنة هذا الانفصال وتطبيع العداء بين أبناء الشعب الواحد مستغلين في ذلك الأوضاع الاقتصادية المتردية».
ويشير الشيخ العامري إلى تداعيات محزنة للانفصال قد لا يتنبه لها كثيرون، فيقول: «إنه (أي الانفصال) سيكون كارثة على المسلمين خصوصاً في منطقة القرن الإفريقي، وسيحول دون تمدد الإسلام وانتشاره فيها، وسيعمل جاهداً على إقامة المشاريع التنصيرية في المنطقة، إضافة إلى الكارثة التي ستحل بمسلمي جنوب السودان الذين يبلغ عددهم قرابة ثلاثة ملايين، وهؤلاء لم يُحسَب لهم أي حساب في هذه المحنة بكل أسف».
إن من أخطر التداعيات الإقليمية للانفصال تلك المتعلقة بنهر النيل وعلاقة الدولة الناشئة بالدولة القديمة والدور الصهيوني في التركيبة الجديدة للمنطقة، وفي هذا الصدد يقول د. العريان: «المخاطر التي تمثلها دولة انفصالية في جنوب السودان شديدة على كل الأصعدة:
• فهي تمثل خطراً على الموارد المائية والمشاريع القائمة على نهر النيل، مثل قناة «جونجلي».
• وتمثل خطراً على استقرار الأوضاع في شمال السودان؛ لأنها ستكون محلاَّ للنزاعات القبلية وتوترات الحدود المستمرة.
• وتمثل خطراً بالوجود الأجنبي الدائم في صورة قوات دولية لفض النزاعات بين القبائل، أو شركات أمن أجنبية لحماية الاستثمارات الأجنبية.
• وتمثل خطراً؛ لأنها ستكون حاجزاً طبيعياً بين الشمال العربي المسلم في مصر والسودان والقلب الإفريقي المسلم في دول حوض النيل التي حولتها البعثات التبشيرية من دول مسلمة إلى دول مختلطة الديانات والثقافات.
• وتمثل خطراً؛ لأن العدو الصهيوني يعمل جاهداً ليكون له موطئ قدم في تلك الدول من إريتريا إلى أوغندا إلى إثيوبيا، وها هو يستعد جاهداً لتكون له كلمة قوية في جنوب السودان التي – في الغالب – لن تنضم إلى الجامعة العربية.
قد يظن بعض الناس أن انفصال الجنوب خسارة للشمال وربح للجنوب، يرفض المهندس الحمداوي هذا المعنى ويؤكد على أن «الصراعات بين أبناء الوطن الواحد بهدف تمزيقه وتفريقه لن يكون لها من نتيجة سوى الخسارة للجميع والضرر على الجميع»؛ فمن إذن سيستفيد من الانفصال؟ يقول: «إن كان هناك من مستفيد أو رابح من فكرة الانفصال، فلن يكون سوى أولئك الذين يريدون لأمتنا وشعوبنا دوام التمزيق والإنهاك والضعف والتخلف».
وأما على المستوى الحكومي، فيُبرِز الشيخ العامري أثراً هاماً متوقَّعاً نتيجة الانفصال؛ إذ يرى أن توقيع اتفاقية نيفاشا كان «ناتجاً عن ضغوط دولية وعقوبات اقتصادية وحصار ظالم بسبب الممانعة التي أبدتها الحكومة السودانية ورَفْعِها شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، ومثل هذا الخضوع يمكن أن يدفع بكثير من صناع القرار في أي بلدٍ آخر إلى السير في الاتجاه ذاتها طمعاً في الوعود الغربية والمعونات الاقتصادية أو خوفاً من حجبها والمعاقبة بها، وحينئذٍ يتحقق المثل السائر: (أُكلتُ يوم أكل الثور الأبيض)، وتظل مسألة صراع الإرادات تتأرجح وتضعف لصالح أصحاب المشاريع الانفصالية».
ما يجب على الحكومة السودانية:
ينبغي على كل حكومة مسلمة تنتسب إلى الإسلام أن تقبل بحكم الشرع في كل شؤونها وفي كل ما يمس حقوق الأمة ومكتسباتها وثوابتها، وإن الموافقة على انفصال الجنوب السوداني بكل ما يمثله من خصائص جغرافية وأبعاد دينية وسياسية، أمر لا بد من الرجوع فيه إلى الشرع قبل إقراره والقبول به. يقول د. ناصر العمر مبيِّناً حكم الشرع في إقرار اتفاق للتنازل عن جزء من أرض الإسلام: «بلد الإسلام تسع المسلم والكافر. وعاش تحت ظل الدول الإسلامية أهل الأديان في مختلف العصور، ولم يكن من مسوغات انفصال جزء خضع لدولة الإسلام أبداً اختلافُ لونِ أو عرقِ أو دينِ أهل ذلك الإقليم، بل اتفق علماء الشريعة على أن بسط نفوذ دولة الإسلام واجب، بل حرموا على المسلم مهما بلغ إيمانه أن يشق عصا الطاعة ويفرق الجماعة، كما في صحيح مسلم من حديث عرفجة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنه ستكون هنَّات وهنَّات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميعٌ، فاضربوه بالسيف كائناً من كان»، وبناءً على ذلك يقرر د. العمر بصورة حاسمة أن القبول «بانفصال جنوب السودان عن دولته لتقوم عليه دولة عَلمانية مستقلة، لا يجوز شرعاً، ولا عذر لمن أظهر إقراره بغير الإكـراه؛ وذلـك بصـرف النظـر عن أرض الشمال أو الجنـوب، ما دام الـمُمضِي لذلك مسلماً، والله اعلم».
ويؤيد د. همام الحكم بعدم جواز التفريط في أرض الإسلام، ويوجِّه خطابه إلى المسئولين في الحكومة السـودانية قائلاً: (اعلمـوا أن وحدة السودان أرضاً وشعباً أمانةٌ في أعناقكم، ويحرم عليكـم التفريط بشبر واحد من أرضه، ولا بحبة تراب من ترابه الطهور، وهذا الحكم الشرعي مقصد من مقاصد القـرآن الكريم، وهو من أهم مقاصد الشريعة. يقول الإمام الجويني – رحمـه الله -: «مقصـود الإمامة القيام بالمهمات، والنهوض بحفظ الحوزة، وضم النشـر، وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالئـة»[1]. ويقـول: «ليس يخفـى على ذوي البصـائر والتحقيق أن القيام بالـذب عن الإسلام وحفظ الحوزة مفروض، وذَوُو التمكُّن والاقتـدار مخاطبـون به، فإن اســتقل به كُفاةٌ سـقط الفـرض عن البـاقين، وإن تقـاعدوا وتواكلـوا عمَّ كافة المقتدرين الحـرجُ على تفاوت المناصب والدَّرجات»[2]).
ويستشهد د. همام بحادثة هامَّة في التاريخ الإسلامي، وهي ارتداد القبائل العربية بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ فيقارن بين موقف أبي بكر – رضي الله عنه – والموقف المفترض اتخاذُه في أزمة جنوب السودان، فيقول: «قام أبو بكر بمقتضى أمانة الإمامة الكبرى وواجباتها، وبمقتضى حكم الله – تعالى – في وحدة الأمة وتوحيدها، يدعو الصحابة إلى قتال المرتدين، ورأى أن الواجب لا يسقط عن الأمة حتى ولو كان فيها رجل واحد كأبي بكر، رضي الله عنه».
بعد بيان الحكم الشرعي للتنازل عن جنوب السودان، يقدِّم بعض العلماء نصائح مهمة للحكومة السودانية؛ سواء في الفترة المتبقية أو في حال تحقق الانفصال، فيذكر د. العبدة أن «العدل هو الذي يقرِّب أهل الجنوب ويجعلهم يرون الوحدة خيراً لهم من الانفصال»، ويدعو أركان الحكومة إلى تقبُّل النصائح من المخلصين وعدم الإعراض عنها بدعوى أن «أهل مكة أدرى بشعابها، فإن البعيد يرى أحياناً ما لا يراه القريب»، وفي الوقت نفسه يطالب د. العبدة بالاستماع إلى «انتقادات المعارضة، مهما تكن الدوافع؛ ونحن لا نطلب شيئاً مما لا يعرفه الحزب الحاكم، ولكننا نطلب وحدة تقطع الطريق على المستغلين أصحاب المصالح الخاصة ولو على حساب الوطن».
أما فيما بعد الانفصال، فإن الشيخ الزنداني يدعو الحكومة إلى اتباع نهج معتدل بأن يحرص «الشمال على القيام بواجبه المستمر نحو المواطنين في الجنوب حتى يأذن الله بمراجعة قد تحدث في أهل الجنوب تجعل مصلحتهم ونهضتهم وأمنهم وتقدُّمهم مرتبطة بإعادة وحدتهم مع الشمال».
موقف الدعاة وأهل العلم:
يتحمل العلماء وقادة الأمة الغيورون عبئاً عظيماً ومسؤولية كبرى في معالجة هذه الأزمة الخطيرة، والمقصود هنا علماء الداخل والخارج:
أما علماء الداخل في السودان، فيدعوهم د. العبدة إلى تخطي عقبات الحزبية والتخلص من كثرة الانقسامات والخلافات التي تؤدي بالجماهير إلى الضعف وقلة الاهتمام، فيقول: «ندعو هؤلاء الفضلاء للالتفاف حول قيادة علمية مقبولة من الجميع ويصدر عنها رأي يقبله الجميع، ولو أن هذا يتطلب بعض التنازلات، إلا أنه في سبيل المصلحة العامة، كما ندعو إلى التشاور والتنسيق بين الدعاة وأهل الرأي من الأكاديميين قبل أن يفوت الأوان»، كما يدعوهم إلى تقديم «الاقتراحات المناسبة ولو بصيغ تدريجية لإعادة اللحمة والتوحد».
وأما بالنسـبة لعلماء المسـلمين قاطبة، فيناشـد د. العامري علماء الأمة أن «يقوموا بواجبهم في شـرح حقيقة الأمـر وتجليته للحكومة السودانية وغيرها؛ فجنوب السـودان أرض إسلامية حكمها المسلمون وأدخلـوا فيها الإسلام وضحُّـوا من أجـل ذلك بدمائهـم وأموالهـم؛ فهل يحق لهم أن يتخلـوا عنها ويسـلِّموها بما فيها من المسلمين والثروات إلى الصـليبيين والوثنيين الحاقدين ليُقيمُـوا عليها كيـاناً معادياً عنصرياً ضد العروبة والإسلام؟».
أين الدور العربي والمصري في معالجة الأزمة؟
لقد تساءل عدد من المشاركين في التحقيق عن الدور العربي عامة والدور المصري بصفة خاصة، فقال د. العريان في لهجة استنكارية: «أين المسلمون؟ وأين العرب؟ بل أين مصر نفسها من هذه التطورات؟ وقد أعلن وزير خارجية السودان نفسه أن اهتمام مصر بالسودان قد ضَعُف وفَتَر، وأن سياسة مصر الرسمية نحو السودان مرتبكة ومضطربة، وقد غاب المستثمرون المصريون والعرب عن السودان شماله وجنوبه، فلا نلومنَّ إلا أنفسنا».
أما د. العبدة فيؤكد على عمق الترابط المصري السوادني، فيقول: «لا ننسى هنا أيضاً أن نذكر أن عمق السودان ليس في الجنوب أو الشرق والغرب فقط ولكن في الشمال، في مصر البلد القريب والشقيق عربياً وإسلامياً، فكما أن عمق مصر الإفريقي هو السودان، كذلك فإن عمق السودان العربي هو مصر».
ويوجه د. همام رسالة خاصة إلى شعب مصر، ثم إلى الشعوب العربية والإسلامية، منوِّها باقتراب مركز الخطر من مصر، فيقول: «اعلموا أن شأن السودان من صميم أمنكم ومستقبل أجيالكم؛ ففي انشقاق الجنوب عنه مقتل لمصر وشعبها، وفي هذا إضعاف للأمة وتدمير لحصن من أعظم حصونها، وأن فريضة الله على الجميع توجب القيام مع أهل السودان في وجه هذه المؤامرة وما ينقص على أهل السودان من الجهد والجهاد فهو فريضة الله عليكم حتى يستقر الأمر للسودان في وحدة أرضه وشعبه».
ومن المغرب العربي يناشد المهندس محمد الحمداوي جميع محبي السودان من داخله وخارجه ومن العرب والمسلمين إلى «المساهمة والانخراط في تعبئة شاملة لتعزيز الوحدة والاتحاد وتجاوز فكرة الانفصال والانشقاق؛ سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، بما في ذلك محاورة المعارضين والمتشككين».
نقلا عن مجلة البيان