[email protected]
اخشي ما أخشاه علي أمتي من عالم يضلها بعلمه””
حديث شريف
يتداول الكثيرون، بالذات في نقد الشيوعية، مقولة تنسب لماركس،
وهي الدين أفيون الشعوب.وبغض النظر عن صحة نسبة المقولة،فقد اكتسبت انتشارا، وتداولا ،وتأويلات عديدة.وللمفارقة العجيبة،أن يقوم نظام إسلامي-حسب تصنيفه الذاتي-يتبني مشروعا حضاريا إسلاميا للعالم وليس فقط استغلاله كوسيلة للتضليل والهيمنة.وفي نفس الوقت،يمكن أن يكون فيتامينا للشعوب حين تبعث في الدين قيم الحرية والعدالة الإجتماعية والعقلانية.ففي خلال فترة الرسالة النبوية والحكم الراشد، كان الإسلام فيتامين العرب النائمين،الخامدين،التائهين،وجعل منهم خير أمة اخرجت للناس.ولكن ما أن تحولت الخلافة الي ملك عضوض حتي بدأ الطغاة في توظيف الدين لتخويف وتضليل واستغلال شعوبهم المسلمة بوسائل متنوعة كان الفقهاء ورجال الدين هم رأس الرمح في هذه الحرب العقلية والروحية.
التخويف بالشريعة
اكتشفت العسكريتاريا السودانية الي جانب الدبابة والكلاشنكوف شيئا يسمي الشريعة الإسلامية! فقد فرض المشير جعفر النميري الذي احتفل بعيد ميلاد (لينين) المئوي في ابريل1970، قوانين الشريعة في سبتمبر1985.وكان يهدف من قوانين سبتمبر الإسلامية سحب البساط من تحت أقدام الإخوان المسلمين والأحزاب الطائفية، ثم دغدغة عواطف العامة الدينية. وكان(النميري) يفخر بأنه قطع من الأيدي في شهور مالم تفعله (السعودية) في سنين! وعرفت بشريعة “نط الحيطة” حسب قول المشير في حق الشرطة في ملاحقة الناس الآمنين في قلب منازلهم.
أما الجنرال –الإمام الحالي: عمر البشير، فقد جاء نظامه أصلا لفرض الشريعة التي تقاعست الأحزاب في تطبيقها. والآن تجئ الشريعة من فوهة البندقية وليس من صندوق الاقتراع: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وشهدنا خلال عقدين أو يزيد،تلاعبا واستغلالا فريدا لشعار تطبيق الشريعة. فقد اختزل شرع الله في عدد أمتار فساتين البنات، وفي فض السهرات والحفلات، ومطاردة ستات الشاي. ولم نسمع قط عن إقامة الحد علي مسئول حوّل أموال إجلاس التلاميذ لإكمال الدور الثالث من منزله الخاص. وصار الفساد أليفا وعاديا في عهد الشريعة لدرجة أن بعض أولياء تجرأوا “وأكلوا مال النبي”حرفيا أعني اختلاسات وزارة الاوقاف والحج.وصارت الشريعة سلاحا لتخويف الناس وتضليلهم، وليسست وسيلة للمجتمع الفاضل ولإتمام مكارم الأخلاق.
من أسوأ اشكال التخدير والتضليل،هو التلويح بالدستور في حالة الأزمات. وهذا ما يحدث هذه الأيام، ما إن تنامي السخط الشعبي وخرجت طلائع الشباب الي الشارع؛ حتي نفض المشائخ قفاطينهم وتداعوا لاجتماعات أهم ما فيها تناول الطيبات والمظاريف المنتفخة. وكان لتجويد التخدير، يخرجون لنا ببيانات عن ضرورة التطبيق الفوري للشريعة خاصة وان الجنوب الذي كان يمثل العقبة الكئود، قد ذهب. ويتكرر هذا التلويح مع كل أزمة والوعد بأن التطبيق الشامل والصحيح. واتذكر لازمة كان يكررها الممثل المصري الكبير(يوسف وهبى) يقول فيها: شرف البنت زي عود الكبريت يولع مرة واحدةّ! وقد مخطئا حين ظننت أن تطبيق الشريعة مثل عود الكبريت يولع مرة واحدة.
يعوّل الإسلامويون علي ذاكرة الشعب أو قياداته ونخبه ،الضعيفة.
فالنسيان في السياسة السودانية والواقع – آفة، كما سماها الأخ عجوبة. وإن كان عدم الصدق ونقض العهود من خلائق الإسلامويين الثابتة. ففي وقت مبكر،في احتفال عيد الاستقلال1991، خاطب (البشير) الجماهير ووعدها قائلا:-“الايام القادمة ستشهد برامج التطبيق الكامل للشريعة (….) الثورة عقدت العزم علي ألا ولاء إلا لله ورسوله. وتطبيق الشريعة الإسلامية سيكون عادلا وميسرا غير منفّر يظهر سماحة الإسلام ويكون قدوة لمن أراد السير في الطريق القويم”.وأكد أن استقلال السودان اكتمل بإعلان تحكيم الشريعة الإسلامية مبينا أن السودان لن يسأل أو يعتمد أو يلجأ او يخضع لغير الله.وكان يتصور أن مشروعه عالمي ولكل المسلمين،فقد دعا جميع الشرفاء في العالم الإسلامي لوحدة شاملة تجمع صفوف الأمة وتزيل الحدود الوهمية التي رسمها الاستعمار مبينا أن التوأمة بين دارفور وبلدية الخليج بليبيا،محت الحدود. وقد رأي الجميع ثمار الوحدة الإسلامية التي ابتدرها (البشير) في دارفور الآن. (صحيفة السودان الحديث 5/1/1991).
وبعد 13 عاما من هذا الخطاب،اعترف الرئيس عمر البشير أمام مؤتمر الشريعة والاجتهاد (19/4/2004) بأن تطبيق الشريعة الإسلامية رافقه بعض الاخطاء،ولكنه اعتبر أن ذلك لا يعني فشلها.وأن الشريعة خيار لا بديل منه وان حكومته تسعي لمعالجة الاخطاء التي صاحبت تطبيقها.ورأي أن مسيرة تطبيق الشريعة افضت الي مائدة المحادثات مع الحركة الشعبية لانهاء أكبر حرب في افريقيا! (الصحف20/4/2004) وقد أدت مسيرة الشريعة الواقع الحادث في الجنوب.فقد وصل الإسلامويون السودانيون الي معادلة: الشريعة أو الوحدة. فضحوا بالجنوب ولم نر تطبيقا للشريعة.إنه حشف وسوء كيل، وخسر السودانيون دينهم ودنياهم.ويعود الضجيج مع تصاعد المقاومة للنظام الي الدعوة للدستور الإسلامي، دون أن يوضح لنا ما هو الدستور الذي كانوا يحكمون به؟ ويفلسف النائب الاول لرئيس الجمهورية،على عثمان محمد طه، الوضع في خطاب أمام المجمع الفقهي . إذ يقول :-“أن الدولة تجاوزت مرحلة الدستور الاسلامي الي مرحلة التطبيق ، مؤكداً انه لا خلاف حول مرجعية الاسلام واحكامه.” ويشير الي ان الحكومة ستنزل على الفتاوى والاحكام التي يصدرها مجمع الفقه الاسلامي في المسائل القطعية وستتدارس معه في المسائل التي فيها خيارات ومتسع. (18/7/2012).
نحو كنيسة فقهية؟
احتاجت عملية تحويل الدين الي أفيون في الماضي الي كنيسة رجعية وقفت ضد العقل والعلم،كما يخبرنا تاريخ العصور الوسطي أو المظلمة.
ويجادل من يرفضون وجود دولة دينية في الإسلام بعدم وجود كنيسة . وهذا تسطيح للفكرة، لكن المقصود بالكنيسة ليس وجود مؤسسة لها وجود مادي مثل (الفاتيكان) لتؤدي وظائف.ولكن في أي دين المقصود هو وجود جهة ذات سلطة روحية باعتبارها مرجعية جماعية لديها الرأي الفصل في القضايا والامور الدينية. ويسمي لدي بعض المهتمين بدراسة الإسلام مأسسة الفقه. والنماذج عديدة في العالم الإسلامي والتي أخذت اشكالا مثل مجالس أو هيئات العلماء،أو دور الفتوى.وهذه المؤسسات لم تعرف في فجر الإسلام فقد كان الناس قريبي عهد بالوحي والنبي؛والأهم من ذلك أن المستجدات الدنيوية لم تكن كثيرة ولم يكن الناس في حاجة للفتوى والرأي الفقهي.ومع تعقد الواقع،ولكن الأهم من ذلك بسبب حاجة الحكام المستبدين لفقهاء يبررون أفعالهم ويعطون لحكمهم طابعا مقدسا يحد من المعارضة ويقهرها.ومن هنا كانت بداية ظاهرة هذا النوع من الفقهاء.
يكتب (أحمد إبراهيم الطاهر) قبل أن يصبح رئيسا للمجلس الوطني، وأن تستعين حكومته بأمثال عصام أحمد البشير ومحمد عثمان محمد صالح، ما يلي:-“وآثر أهل الدين والورع والعلم الإبتعاد عن السلاطين ضنا بدينهم عن ملامسة دنيا الحكام،وكثر استشهادهم بالآيات والأحاديث التي ترهب عن ملازمة السلاطين وموافقتهم علي هواهم والابتعاد عن أبوابهم”.
ويضيف الي ذلك،أن السلاطين في عهد الدولة الأموية والعباسية حين احتاجوا الي الفقهاء ورجال الدين لم يجدوا إلا القليل:” فلجئوا الي محاولات الإكراه والتعذيب لأهل الورع لإجبارهم علي تولي القضاء والحسبة وصار الخلفاء يستعينون بمن يجدون من الأئمة أو من طالبي السلطان.وقد كان للإمام المهدي رأي قاطع في هؤلاء،وهو الذي صك مصطلح:علماء السوء،في وصفهم. وأورد (الشوش) هذه العبارة منسوبة للمهدي:” اربعة لا يرضون بأمرنا العالم والظالم والترك وتربيتهم واهل الشأن واهل البرهان” (الشوش: الشعر الحديث،1971، ص30)
كانت تجربة الثورة المهدية ماثلة دائما أمام الإدارة البريطانية وهي تخطط لحكم السودان.كيف تتعامل مع الدين ورجال الدين دون أن تستفز المشاعر وفي نفس الوقت لا يوظف الدين مرة أخري ضد المستعمر؟فقد وجد البريطانيون الفرصة مناسبة للتجريب،ويقول أول تقرير للحاكم العام(كتشنر) في عام1899:-” إن ما قام به الدراويش من استئصال كلي لنظام الحكم القديم قد هيأ الفرصة لبدء إدارة جديدة أكثر انسجاما مع حاجات السودان.” وقد أذاع كتشنر منشورا-شبيه بقول نابليون في مصر-أنه اتي ليخفف أوجاع المسلمين وليشيد دولة إسلامية تقوم علي العدل والحق ولكي يشيد الجوامع ويساعد علي نشر الاعتقاد الصحيح(جعفر بخيت1972:32).
وفي عام 1901 كوّن الحاكم العام ونجت لجنة العلماء برئاسة الشيخ محمد البدوي.وكان هدف اللجنة دعم الإسلام السني في مواجهة الطرق الصوفية من خلال تدريس”العلم الشريف في جامع أم درمان”وأن تقوم بدور الاستشارة للحاكم العام والحكومة البريطانية في الشؤون الدينية.وفي عام1902 صدرت لائحة المحاكم الشرعية التي دمجت هذه الفئة في سلك الخدمة المدنية وجعلت من العلماء موظفي حكومة،وأصبح تعيين ائمة المساجد من مهام الحكومة.وأظهر العلماء ولاءا محيرا،وأعيد نشر هذه الرسالة الهامة،فإن الذكري تنفع الجميع:
” صاحب السعادة مدير المخابرات
المحترم,
رأينا في العدد من جريدة الاهرام الصادرة في28سبتمبر1921تحت عنوان حياة مصر السودان وحياة السودان مصر بامضاء السيد محمد خير سوداني وطني برفاعة”فان هذا الشخص لم يكن له وجود برفاعة كلية،وهو اسم شخص مكذوب،وجميع ما ذكر في المقالة فهو محض كذب،لم يصدر من سوداني وطني،فان جميع الامة السودانية قد ارتبطت بالحكومة الحاضرة(الانجليزية)الرشيدة ارتباطا حقيقيا بالقلب والقالب،بصداقة واخلاص،ونقدرها قدرها بحيث لا نبغي بها بدلا،لما هو شاهد بعين اليقين،من جلب المنافع ودفع المضار، وتعمير البلاد،وتامين الطرق وعمارة المساجد،وبث العلوم الدينية،ونشر المعارف بترتيب العلاماء ومساعدتهم بالمرتبات التي اراحتهم،وتشييد الجوامع والمدارس في عموم البلاد حتي أن ابناء الوطن صاروا في تقدم باهر،ونجاح ظاهر،مع اعطاء الحرية التامة لرجال المحاكم الشرعية في المحاكم والاحكام بالشرع المحمدي. وبالجملة فانها حكومة رشيدة ساهرة بالسعي في كل ما يفيد الوطن وأبناءه. فبلسان العموم نقدم الشكر الجزيل لحكومتنا،ونكذب هذه المقالة بجميع اجزائها تكذيبا تاما وفي الختام نرفع لسعادتكم لائق التحية والاحترام.
الطيب هاشم مفتي السودان
اسماعيل الازهري مفتش المحاكم
ابوالقاسم احمد هاشم شيخ علماء السودان”
في النية توثيق علاقة رجال الدين بالسلطة، لو طال العمر قليلا. ولكن في هذا الحيز المحدود والمقام، يقتضي الأمر القفز الي الحاضر القريب , فقد تشكلت أخطر لبنة في صرح الكنيسة الفقهية،وتصاعد دورها مع استيلاء الاسلامويين علي السلطة.وكانت البداية تشكيل هيئة علماء السودان في أواخر يونيو1985 من العلماء الذين كانوا داخل السودان، منهم: أحمد علي الإمام،وأحمد علي عبدالله، وأحمد عبدالسلام. وكانت الهدف المعلن الدفاع عن قوانين سبتمبر 1983 والتي كانت تتعرض لكثير من النقد بعد الانتفاضة.
اكتسبت هيئة علماء السودان موقعا سياسيا مؤثرا في بنية النظام السياسي للإنقاذ.ولكنها اسقطت عن نفسها الاحترام والتبجيل والتقديس الذي يمكن أن يقترن بمؤسسة تحمل مثل هذا الإسم الموحي بدلالات دينية محترمة. ولكن الهيئة اكتفت بدور مكمل لاتحاد عمال السودان وغيره من تنظيمات السلطة الكارتونية، وتتنافس في عمليات الحشد والتعبئة، ومواكب التأييد والمساندة. وتتميز الهيئة عن بقية التنظيمات بدور في التضليل المقدس الذي يقوم بوظيفة التخدير والأفينة من خلال استخدام التوابل الدينية.فهي ترصع البيانات السياسية بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتراث السلف؛بقصد التلاعب بالعواطف الدينية والإثارة وتعطيل العقل.وتقوم هيئة علماء السودان- بوعي أو لا وعي-بغرس ورعاية ثقافة التعصب والعنصرية والكراهية من خلال أدبياتها الداعية للجهاد ودحر العدو، والقضاء علي مؤامرات الصليبين والصهاينة التي ينفذها الطابور الخامس المحلي.وهذه هي اللغة المكونة لإيديولوجية الإنفصاليين والعنصريين ممثلين في منبر السلام العادل والانتباهة.ولا أدري هل الهيئة مدركة تماما لهذا الدور وتقوم به عن قصد أم أن تلك العناصر تستفيد من مبرراتها الدينية في تحصين مواقفهم الفاشية؟
تقوم هيئة علماء السودان بأخطر عملية تدليس وتزوير ديني في تاريخ الإسلام.فهي تقوم بمنح صفة “عالم” دون الخضوع لمعايير من هو العالم أو الفقيه؟ وهي تخلط -عمدا- بين الناشط سياسيا قي المؤتمر الوطني أو حتي المتعاطف،وبين العالم الديني.وأظن- وليس كل الظن إثم- أن المعيار هو تأييد النظام الإسلامي الحالي،فكل من لا يعارض السلطة القائمة هو بالضرورة عالم.وفي دعوة من الهيئة لإجتماع مجلس العلماء،نقرأ أسماء لأشخاص يجبرك العقل علي التساؤل عن كيف ومتي حصلوا علي هذه الصفة؟ وماهي الجهة السادنة التي تملك حق إدخال الناس في زمرة العلماء؟تضم القائمة اشخاصا عرفوا بنشاطهم السياسي العظيم أو بإجادتهم لتخصصاتهم الإكاديمية؛ ولكن هذا لا يعطي جهة الحق في حشرهم ضمن علماء السودان بالمعني الذي تقصده الهيئة ونفهمه من الدعوة.وقد نجد لها العذر لو قصدت العلم مطلقا من فيزياء وطب وفلك واجتماع ولغة.وفي هذه الدعوة للعلماء،نجد علي سبيل المثال فقط فالقائمة تضم107 شخصا، وسيجد القارئ-بالتأكيد- أسماء اخرى كثيرة لمثل هذه الشخصيات التي اقحمت لحاجة في نفس يعقوب أو نفس السلطة.وقد اخترت من قائمة علماء السودان المدعوين ما يلي: فتحي خليل، كمال محمد عبيد، جعفر ميرغني، يوسف الخليفة أبوبكر،خديجة كرار، زكريا بشير إمام،علي عبدالله يعقوب،عمر حاج الزاكي، حديد السراج،حسن علي الساعوري، حيدر التوم خليفة، مالك علي دنقلا وغيرهم (الصحافة1/2/2012). أما المؤتمر العام والذي يتكون من 467 شخصا،فإن قائمة الشخصيات ستصيب القارئ بنوبة من الضحك الهستيري حين يري من رفعوا لمرتبة من يحمي ويسهر علي ديننا.ولكن لحسن الحظ سيجد إجابة علي سؤال شكيب ارسلان قي عنوان كتابه: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم. (كمثال لقائمة عشوائيا ،أرجع لصحيفة السوداني،ص8،بتاريخ14 مارس2007).
تتم عملية الأفننة أو تخدير الشعب بالاستغلال السئ للدين من خلال مؤستسين:هيئة علماء السودان ومجمع الفقه الإسلامي؛ولاهما من مستحدثات السلط الاستبدادية وليس أصلا في الإسلام.فالهيئة-كما أسلفت- تمثل الدين الجماهيري الذي يعتمد علي الشعارات االدينية التي تحرك الجماهير بلا تساؤل.أما المجمع فهو معمل للتفكير أو ذو مهمة أكثر تعقيدا ومنهجية تتمثل في استنباط الأحكام الشرعية ثم تجييرها لصالح تبرير وتقعيد القرارات والسلوك السياسي في إطار فقهي أو ديني مسنود أصوليا.ويبرز دور المجمع الفقهي في زمن الأزمة،وهذا ما يفسر الصوت العالي للمجمع هذه الأيام والأضواء التي تسلط علي فتاوي عصام أحمد البشير.وقد عبر علي عثمان صراحة عن الدور المرتقب للمجمع،وقد جاء في الأخبار عن مخاطبته الدورة الرابعة للمجمع:-
” أكد الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية اهتمام الدولة الكامل بمجمع الفقه الإسلامي وحرصها علي ان يمضي في دوره في استخلاص الأحكام الشرعية دون محاباة”.وأضاف:” .
بان السودان امام تحدي حضاري واسع وممتد فلا بد من تحرير الناس من عبادة الأهواء والعودة الي جادة الإيمان”. واكد ان الدولة سوف تدعم مجمع وترعاه وتقدم له أدوات تعينه علي البحث العلمي ودعا ان يكون المجمع قريباً من خطط الدولة ومحاور الخطة ألخمسيه المقبلة مبيناً ان الدولة ستكون معيناً له في إصدار الفتاوى”.
ومن جانبه اكد الدكتور عصام احمد البشير رئيس مجمع الفقه الإسلامي ان هذه الدورة تمثل ثمار جهد تراكمي وقال ان الارتباط بالأصل لا يقطعها عن العصر وان المجمع يقدم خيارات فقهيه متعددة لأهل الحكم. مشيراً الي دور وسائط الإعلام المختلفة في نشر فتاوي المجمع ودعا رئاسة الجمهورية الي تلبية احتياجات المجمع والذي يحتاج الي بناء مؤسسي مالي فاعل يسير به مناشطه وبرامجه”.(الصحافة 18/7/2012)
كانت نتائج هذا الزواج الكاثوليكي سريعة.فقد كان النظام وسط أزمته الاقتصادية الخانقة يبحث عن مخرج ديني يحلل له قبول قروض ربوية وقد تكون أحيانا من نصاري. ورغم أن هذه قمة الكفر: “أن يحلل حراما ” فقد فعلها أهل المجمع. ونقرأ في الإخبار: ” اعتمد مجلس الوزراء فى جلسته أمس برئاسة رئيس الجمهورية المشير عمر البشير فتوى وتوصيات ندوة تمويل مشروعات الدولة بالقروض قدمها محافظ بنك السودان الدكتور محمد خير الزبير بمشاركة رئيس مجمع الفقه الإسلامي د. عصام أحمد البشير.”وصرح الأخير عقب اجتماع المجلس إن الندوة شارك فيها علماء من داخل السودان وخارجه واستعرضوا من خلالها 19 بحثا حوت فقه الشرائع وفقه الوقائع مبينا أن الفتوى أكدت أن الاقتراض بالربا من الكبائر والموبقات غير أن الدولة إذا وقعت في ضرورة أو حاجة عامة فإنه يجوز لها الاقتراض بالفائدة شريطة استنفاد كل الوسائل في الحصول على مصادر تمويل مقبولة شرعا مشيرا إلى أن الضرورة تقدر بقدرها زمانا ومكانا دون تعد أو زيادة وألا يترتب على القرض ضرر مساو للضرر الأصلي أو أكبر منه، وقد أجاز المجلس مقترحات الندوة بتكوين آلية لدراسة اتفاقيات القروض كل على حدة والتوجيه بشأنها لمجلس الوزراء.(الصحف 20/7/2012)
أبي الشيخ الكاروري إلا أن ينصر أخاه ( عصام) ظالما أو مظلوما. فجاءت الأنباء بهذا الخبر:-“… وحول الإتهامات الموجهة للحكومة بالتعامل بالربا أوضح الشيخ الكاروري أن الإنقاذ نجحت في الأسلمة الداخلية ولكنها لم تنجح في الأسلمة الخارجية والمتمثلة في إقناع الجهات الممولة الخارجية بالصيغ الأسلامية وبأنها عادلة كنظام المرابحة والسلم والاستصناع وغيرها من الصيغ الإسلامية، وكذلك رؤى منح الحكومة فرصة للإقتراض بنظام الربا باعتبارها مضطرة وفقاً لفقه الضرورة كواحدة من المعالجات الاقتصادية”. (22/7/2012)
ووسط أجواء الأفننة التي تتصدي لتزييف الوعي تحسبا للإنتفاضة، لحق عبدالرحمن الخضر ،والي الخرطوم،بركب التدين المضلل.
ففي تجمع توزيع كرتونة الصائم،القي عبد الرحمن الخضر، والي الخرطوم،امانة توزيعها بعدالة علي عاتق معتمدي المحليات ومعاونيهم. وزاد”لن نسألهم عنها في مجلس وزراء ولا مجلس تشريعي سنسألهم عنها حين نكون بين يدي الله”. (السوداني18/7/2012) ولماذا هذه الازدواجية وصداع انتخابات واختيار وتشكيل المجالس ، ظالما لدي السيد الوالي هذه الآلية الفعّالة في محاسبة المسؤولين؟ إنه مجرد إمعان في التضليل والتزييف.
فيما يشبه الخاتمة
يطول الحديث عن مآسي وكوارث السودان،ويملأ تلال الصحائف.والعجيب أننا كل يوم نبتلي بنوع جديد من المحن (كما يقول الأخ شوقي بدري) وكأنه لم تهلكنا مصائب الحكام الفاسدين،والمرتشين،بضمائرهم الخربة،ليتكأكأ علينا الأنبياء الكذبة والمضللين الذين خاف علينا نبينا الكريم منهم.ونحن أمام اقتسام للعمل المؤدي في النهاية الي التمكين وتجديد الاستبداد. ولا يختلف دور هيئة العلماء عن الأمنوقراطية، فالعلماء عليهم مهمة اعتقال وتعذيب الروح والعقل من خلال التجهيل ،ورجال الأمن يعذبون الجسد ويحطون نوعية الحياة.وجريمة المضللين أعظم،لأنهم يستخدمون النصوص المقدسة وليس العصى والكرابيج والكهرباء. فالانحراف الأكبر هو أنهم يجعلون من القرآن والحديث مصدرا لتبرير الأحكام ومن المفروض أن تكون مصدرا لاستنباط الأحكام.
تتكرر الاحاديث التي تحذر من أمثال علمائنا الذين يصلون الشعب المسكين بفتاوى التمكين والاستبداد.روي عن النبي(ص):”اخشي ما اخشاه علي أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن”.(عن اسامة بن زيد). وفي حديث آخر عن عمر:_”أخوف ما أخاف علي أمتي الائمة المضلين”.وفي تفسيره:-“… الأئمة المضلين المائلين عن الحق،المميلين عنه،(…)ائمة العلم والسلطان،فالسلطان إذا ضل عن العدل،وباين الحق تبعه كافة العوام خوفا من سلطانه،وطمعا في جاهه؛والإمام في العلم قد يقع في شبهة ويعتريه زله فيضل بهوى أو بدعة فيتبعه عوام المسلمين تقليدا،ويتسامح بمتابعة هوى أو يتهافت علي حطام الدنيا من أموال السلطان أو يغترُ به العوام”.وفي روايات أخري،قال عمر:” عهد إلينا رسول الله(ص) أن أخوف ما اخشي عليكم منافق عليم اللسان”.رواية اخري:” أخوف ما اخاف علي هذه الأمة المنافق العليم”.قالوا:” كيف يكون منافقا عليما؟” قال:” عالم اللسان جاهل القلب والعقل”.أو:”..كل منافق عليم اللسان أي عالم للعلم منطلق اللسان به،لكنه جاهل القلب،فاسد العقيدة، يغر الناس بشقشقة لسانه،فيقع بسبب اتباعه خلق كثير في الزلل”.وفي هذا يقول حديث عن (أبوهريرة) :- “لا تقوم الساعة حتي يخرج ثلاثون كذّابا دجالا،كلهم يكذب علي الله ورسوله”. وعن(أبي ذر) :- “غير الدّجال،أخوف علي أمتي من الدّجال،الأئمة المضلون”.
يقوم هؤلاء الأئمة بتدريب الحكام علي ازدواجية السلوك،بأن يساكن الفساد والتقوى معا في داخله. قيل عن (هارون الرشيد) : ” إذا جاء وقت الموعظة بكي، وإذا جاء وقت السياسة طغي”. ويقول عنه (أبو الفرج الاصفهاني) صاحب(الأغاني) :- “كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة واشدّهم عسفا في وقت الغضب والغلظة”. وكتب(أحمد أمين) في ضحى الإسلام:-” كان يصلي في اليوم مائة ركعة ويسفك الدم لشئ لا يستحق سفك الدم”. والأخطر من كل هذا،أن نجد من يحلل الكذب لو كان للصالح. ويبد أن هذه الرخصة التي اكتشفها حكامنا فأكثروا منها فجعلوها قاعدة تعامل. وطبقا لرواية مسلم –في الصحيح-أجيز الكذب في ثلاث حالات: الحرب والإصلاح بين الناس وكذب الرجل علي زوجته.
يقوم امثال هؤلاء العلماء الدجالين بمهام أبعد من تبرير الاستبداد والظلم.فهم ييسرون الدين بين العوام لدرجة نصرة الثقافات السابقة للإسلام علي الدين الصحيح. إذ تعرف مناطق في غرب السودان ما يسمي (فكي أم بتاري) أو ما يشبه الفقيه المزوّر. فهو يفتي بأن المريسة حلال والويسكي والعرقي حرام. والسبب في الحكم “الشرعي” لأنه شخصيا يشرب المريسة بالاضافة لانتشارها كضرورة للعيش، كذلك وجوده في قرية كلها تصنع المريسة التي تقدم في الافراح والمآتم, ويصعب عليه معارضة عرف أقوي من النصوص.
اخيرا،العلم الديني يتطلب الورع أي خشية من وجود حرام أو شبهة.
ويحتاج الورع للضمير اليقظ والزهد والاستغناء عن الدنيا والسلاطين. واعجبتني قصة في طبقات ود ضيف الله :- “يروي أن الشيخ عبدالرحمن بن جابر منع تلاميذه من الوضوء في جداول سواقي الشايقية لأنهم يغتصبون الابقار (التي تدير السواقي) من الدناقلة من غير بيع وشراء. لذلك فان السواقي تلك تمنع عنهم الفيض والمدد.” .
****
هل يقرأ عصام البشير وعبدالجليل الكاروري مثل هذه العبر؟ أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ،وأن ترحموا هذا الشعب يرحمكم الله.