أخونا الدابي وتخريجاته الرقابية الدمشقية .. بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي
(1)
بمجرد إعلان اسم الفريق محمد أحمد مصطفى الدابي رئيساً لفريق المراقبين العرب في سوريا انتابني شعور قوي بأن كارثة محققة في الطريق، وبأن الحكومة، والدابي شخصياً، ستنالهما ندامة كبرى كنتيجة لهذا القرار. ولكن ما حدث من الدابي وله فاق أسوأ توقعاتي.
(2)
عرفت الفريق الدابي بعد تعيينه على رأس جهاز الأمن الخارجي في عام 1995 خلفاً للدكتور نافع علي نافع بعد إقالة الأخير. وقد كان انطباعي المبدئي أنه كان يسعى إلى إصلاح الجهاز وصبغ أدائه بالحرفية، ولعله لهذا السبب لم يعمر طويلاً على رأسه. ولكن هذا لم يكن سبب التوجس حول دوره في سوريا، بل حيثيات أخرى، أبرزها التوقعات بتسليط الضوء على دوره في أزمة دارفور، وهو أمر لم يكن في مصلحة الدابي ولا حكومته.
(3)
لم يكن الدابي حتى الآن على رأس قائمة المتهمين في مجازر دارفور التي وقعت بين عامي 2003-2004، لأنه أحيل إلى التقاعد من الجيش عام 1999. ولكن اسمه تردد في كل الروايات عن بدايات أزمة دارفور. وكان أرسل في مطلع عام 1999 إلى الإقليم بتفويض رئاسي لمعالجة الحرب الأهلية غير المعلنة بين العرب والمساليت في غرب دارفور على خلفية التحولات الديموغرافية الناشئة عن استيطان قبائل عربية ذات أصول تشادية في المنطقة، وإصرارها على المساواة في الحقوق مع أهل “دار مساليت” التي كانت في الماضي مملكة مستقلة، لها سلطان وتقاليد موروثة تحتكر الأرض للسلطان والقبيلة.
(4)
يزعم الدابي أنه تدخل بحزم لفض النزاع المحلي، وفرض على الطرفين وقف إطلاق النار والتوافق عبر مؤتمرات صلح، مما أدى إلا إنهاء الأزمة. ولكن من وجهة نظر المساليت، فإن التغييرات الإدارية التي أنجزتها الحكومة سحبت من المساليت عملياً سلطانهم على دارهم وساوت بينهم وبين العرب المهاجرين. ويرى كثير من المراقبين أن السياسات التي اتبعها الدابي لتوسيع قوات الدفاع الشعبي أدى إلى خلق نواة الميليشيات العربية التي أصبحت تعرف فيما بعد بمسمى “الجنجويد”، لأن المساليت وبقية القبائل غير العربية عزفت عن المشاركة فيها.
(5)
مهما يكن فإن هذا الماضي الملتبس للدابي لم يكن يؤهله لأداء دور الرقيب على نزاع له حيثيات مختلفة، قوامه دولة توجه سلاحها إلى شعب أعزل. وقد كانت التهمة الموجهة إلى الدابي أنه لم يحافظ على حياد الحكومة في الصراع، وإنما كرس انحيازها لطرف دون آخر. ومن شأن دوره في سوريا أن يؤكد هذه التهمة، لأنه قد حول دور المراقبين العرب المفترض فيه أن يكون حيادياً إلى سلاح في يد نظام يقتل شعبه. وهذا بدوره سيعطي محققي المحكمة الجنائية مبرراً لإعادة التحقيق في دوره في دارفور. ولو لزم داره وأمسك لسانه لترك وشأنه.
(6)
لم تكن هناك حاجة إلى مراقبين عرب أو أعاجم، ولا أشرطة الفيديو المبذولة على الانترنيت لكل ذي عينين، لتحديد من يقتل من في سوريا. فالقاتل المجرم في سوريا لا يخفي نفسه ولا يتنكر. ولم يعد بإمكان النظام (صاحب مآثر حماة وتل الزعتر، وصاحب السجل العالمي في الاغتيالات والاختطاف، من كمال جنبلاط إلى الحريري وشبلي العيسمي، مروراً بسليم اللوزي وسمير قصير وصلاح البيطار، إلخ) أن يفسر موت معارضيه عبرتسويق الحجة الراتبة بأنهم “انتحروا” أو قتلتهم الأشباح أو السعالي أو المخابرات الإسرائيلية.
(7)
مشكلة أخينا الدابي هي أنه كان مخرجاً سيئاً للسيناريو الذي كلف بتسويقه، بعد أن لم تجد الرواية السورية الخرافية من يصدقها، خاصة وأن الممثلين السيئين يفضحون أنفسهم، كما فعل ذلك المتحدث الذي لم يخف بهجته على الهواء بالتفجير “الإرهابي” في حي الميدان، معتبراً إياه فتحاً مبيناً. وبنفس القدر يفضح النظام وأعوانه أنفسهم حين يقيمون الجنائز المهيبة لقتلى قوات القمع، بينما لم نسمع منهم حتى كلمة تعزية لضحاياهم الكثر، ولا اهتمام بجثثهم التي تلقى في الشوارع أو تراكم في ثلاجات المشافي. بنفس القدر فإن الدابي أكد في مؤتمره الصحفي أنه لا يتحدث إلا عما يرى ويشاهد، ولكنه في نفس المؤتمر نفى استخدام الدبابات ضد المدنيين. فكيف يجزم بذلك وليس معه سوى بضع عشرات من المراقبين، وليست لديه كاميرات منصوبة على مدار الساعة تغطي كل سوريا؟
(8)
روج الدابي لمقولات النظام السوري بأن المعارضة المسلحة هي التي تبتدر العنف، بينما قوات الجيش تدافع عن نفسها! بالطبع لا جدال إطلاقاً بأن هناك معارضة مسلحة قوامها المنشقين من الجيش. ولكن بربك كيف يمكن المساواة بين من يطلقون النار على مشيعي المدنيين الذين قتلوهم بالأمس، ويعذبون المعتقلين حتى الموت، وبين جنود رفضوا المشاركة في هذه الجرائم، وتهجموا على مرتكبيها؟ إن النظام السوري قبل غيره يتغني بشرعية المقاومة. وهل هناك احتلال أسوأ مما تعانيه سوريا اليوم، علماً بأن عدد ضحايا انتفاضتي فسلطين اللتين استمرتا لقرابة خمس سنوات لم يناهز عدد ضحايا نظام الأسد خلال شهر واحد (ولننس هنا حماة 1982)!
(9)
إن الدابي للأسف لم يسيء فقط لنفسه وللنظام، بل للشعب السوداني ككل، حين نصب نفسه كشاهد زور يروج لرواية النظام الغير قابلة للتصديق لأنها لا تناقض العقل والمنطق فقط، بل تتعارض مع تصرفات النظام المريب الذي يقول: “خذوني” في كل لحظة. فالنظام الذي يمنع زيارة المستشفيات والسجون، ولا يسمح للمراقبين بالحركة إلا تحت رقابته، لديه الكثير مما يود إخفاءه. وإذا كانت لمهمة المراقبين أي قيمة، فهي كشف هذه الأسرار الإجرامية التي لم تعد على أي حال سراً في عصر الكاميرا الفورية. وما فعله الدابي ومجموعته لم يستر سر الإجرام الأسدي المكشوف، ولكنه فضح التواطؤ والكذب وتخريجات اللامعقول.
(10)
لقد فات الوقت لكي يتدارك الدابي والنظام الذي أرسله خطيئة التواطؤ هذه، وستظل عاراً يلاحقهم إلى الأبد. ولكن ما زال هناك وقت لإنقاذ سمعة السودان وشعبه، وهي أن يتقدم الدابي باستقالته فوراً من رئاسة فريق المراقبة، والاعتذار للشعبين السوري والسوداني عن الإساءات بسبب موقفه غير المشرف. وإن لم يفعل، فيجب أن تنطلق المظاهرات في الخرطوم وتحاصر وزارة الخارجية والقصر حتى يتم تنحيته وتقديم الاعتذار الحكومي الرسمي. فليست هناك أولوية تسبق أولوية رد الشرف إلى السودان وشعبه من تواطؤ مع نظام لا سابقة لجرائمه حتى في عهد هتلر، ولا مستقبل له إلا في مزابل التاريخ.
[email protected]