الحريات في السودان.. الغول والعنقاء والخِل الوفي

هل المشهد السوداني في حاجة الي ملفات (شقاقية وفراقية) ؟ وكأن ما يمر به الآن لا يكفي لشق الصف الداخلي وارهاق النسيج الاجتماعي بما لا يحتمل؟ مهما يكون من امر الجواب فان قيام المظاهرات في معظم مدن السودان في سبتمبر 2013م (هبة سبتمبر) من حول عملية قمع التظاهر والارهاب … تشي بخلافات ذهنية جديدة تطرا علي الحياة السياسية والفكرية السودانية , فبين الخوف من الارهاب ومحاذير الامن والحريات العامة والخاصة و التضييق عليها من عدمها تبدو حقيقة القضية الوطنية شبه ضائعة .
هل عدنا الي الدائرة التي تحدث عنها عالم النفس والفيلسوف الانساني الكبير الالماني الاصل الامريكي الجنسية (اريك فروم) عبر كتابه الشهير الهروب من الحرية , الذي فية يستكشف العلاقة بين التحولالانساني والحرية مع الأخذ بعين الاعتبار النتائج المترتبة علي غياب الحرية في سلوك الفرد؟باختصار غير مخل يعتقد الرجل بان الظروف السيكلوجية في المانيا بعد الحرب العالمية الاولي قد غذت الرغبة في انشاء نظام جديد لاستعادة كبرياء الامة الالمانية .
علي ان السؤال كيف للالمان اصحاب الرؤي الفلسفية ومبدعي السيمفونيات الموسيقية ان يسلموا زمام امرهم لرجل مثل هتلر متوسط الثقافة ومحدود الذكاء؟ وعلي هذا- كيف صبر ومازال الشعب السوداني يسلم أمره لرجل مثل عمر بشير؟.
تحليل (فروم) ياخذنا للقطع بان الشعوب تفضل عادة تسليم قيادة زمامها الي نظام حتي لو كان مستبدا لكن بشرط ان تكون قد مرت بمرحلة من مراحل الحرية السلبية التي تظهر في اشكال التسلط والعبثية والامتثال الاعمي لكل سلف والخوف من كل خلف. حُكماً يختلف المشهد السوداني عما جري زمن النازية او الفاشية . لاسيما ان ملايين السودانيين قد تحلقت من حول الحرية الايجابية التي ارتفع صوتها في اكتوبر 1964م وابريل 1985م والتي تحلقت حول الصوت الوطني وقيادة استشرافية للسودان.
يقف القارئ لتقرير التنمية الإنسانية الدولية للعام 2004, والصادر في مطلع 2005 عن الأمم المتحدة تحت عنوان (نحو الحرية في السودان) على الحقيقة المؤلمة, والحقيقة المُرّة التي تفيد أن السودان يأتي في مقدمة المناطق الجغرافية التي تشكو شعوبها من كبت الحريات, واستبداد السلطة السياسية, بل بلغ الأمر إلى حدّ مقارنة بعض الأقطار الافريقية بآخر نموذج آسيوي لا يزال قائما, ويضرب به المثل على أساليب النظم الستالينية التي عانت ويلاتها شعوب أوربا الشرقية قبل سقوط جدار برلين.
جعلت هذه الظاهرة المتفشية في الساحة السودانية كثيرا من المهتمين بالشئون السودانية ينكبون على دراستها, والبحث في أسبابها, فزعم البعض أن الأمر يتعلق بإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب, وأن الاستبداد سمة بارزة من سمات الحضارات الشرقية, وأن الحرية ميزة الحضارة الغربيّة, وادعى آخرون أن العرب والمسلمين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين لأنهم ينتسبون إلى العقلية الاستبدادية, وهي عقلية غريبة عن الحرية والديمقراطية, وهو ادعاء ذو طابع عنصري (شمفوني) لا يزال أصحابه مؤمنين بالخرافة الثنائية- (الشرق والغرب).
إن تاريخ جميع الشعوب شرقا وغربا بالأمس واليوم حافل بالنضال ضد الاستبداد, وفي سبيل الحرية, والعدالة الاجتماعية, ثم إن أوربا المعاصرة عرفت في القرن العشرين نظماً استبدادية قمعت شعوبها بأساليب حديثة كإحدي أساليب الاستبداد الشرقي ولكنها وبالمقارنة معها تعد أكثر رأفة ورحمة.
أكدت الدراسات الجديدة رفض الشعب السوداني للحكم التسلطي المطلق, وتعطشهم للتمتع بالحريات, والحكم الديمقراطي (ففي مسح القِيم العالمي الذي شمل تسع مناطق من العالم بما فيها البلدان الغربية المتقدمة، جاء شعب السودان على رأس قائمة (الموافقة على أن الديمقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم)، كما جاءوا في أعلى نسبة من حيث رفض الحكم التسلطي.
إذا اقتصرنا على المرحلة الحديثة, ودون الرجوع إلى ما عرفته الشعوب السودانية من تراث نضالي ثري يذود عن قيم الحرية, ومقاومة لجميع أنواع الظلم، فإننا نجد النخبة الحاكمة (حكومة المؤتمر الوطني) قد دفعت ثمنا باهظا ابتداء من قيام الثورة السودانية حتى اليوم, ولم تنتظر الشعوب السودانية في تمسكها بقيم الحرية حتى تُملي عليها مشروعات الإصلاح من الخارج.
إذن ما هي الأسباب التي جعلت ظاهرة استبداد النظم السياسية تختفي من جُل بلدان أمريكا اللاتينية, وتتقلص رويدا رويدا من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء, وتستمر مسيطرة على جمهورية السودان الغير ديمقراطية ؟؟؟
إن الأسباب متعددة ومتنوعة دون ريب, ولكن يبقى السبب البارز كامنا – في نظري – فيما عرفته كثير من الأقطار الافريقية ابتداء من مطلع خمسينيات القرن العشرين حتى اليوم من (سيطرة الحكم العسكري, أو نظام الحزب الواحد الشمولي), ورزحت بعض الشعوب العربية والافريقية في بعض الحالات تحت وطأة الكارثتين معا. فالبحث عن أسباب ما يعانيه المواطن السوداني من الحرمان والكبت في مجال الحريات الأساسيّة ينبغي أن يبدأ في حريته الشخصية قبل التعبير عن المشاكل الاخري , إن الشعوب السودانية منشغلة بقضايا الشغل, والعمل اليومي ولقمة العيش , والصحة والسكن, وآخر ما تفكر فيه الحريات العامة.
ثم إن التجارب المعاصرة قد برهنت اليوم أن قيمة الشعوب بنخبها, وقدرتها على التجديد والتقدم, في مجالات الثقافة والإعلام وغيرها، هي المحك فيما تتبوّؤه اليوم أمة من الأمم من مكانة مرموقة في العلاقات الدولية قبل العامل الجغرافي, أو السكاني, أو الثروة الطبيعية, فقد تغيّرت المعايير, وأصبحت المعرفة هي السلاح الناجع. إذا ضربنا مثلا على ذلك بفرنسا من بين المجتمعات المتطوّرة، فإننا نلمس في يسر أن الفضل فيما تتميّز به من تأثيرٍ أوربي ودولي يعود أساسا إلى تألق نخبتها سياسيا, علميا, ثقافيا, فنيا, وإعلاميا, وليس بجهد المواطن الفرنسي العادي المقيم في القرى والأرياف, فهو جهد لا يختلف كثيرا عن جهد نظيره في كثير من البلدان الأخرى المتقدمة والنامية معا. ولعلك تستطيع القول دون مبالغة إن رسالة هذه النخبة تكاد تنحصر أساسا في عاصمة البلاد باريس, شأنها في ذلك شأن لندن, أو روما.
وعندما نعود إلى الساحة السودانية فإننا لا نلمس الظاهرة بنفسها, فمكانة الشعب السوداني لا تعود إلى عدد السكان, ولا إلى ثروة البلاد الطبيعية, وإنما إلى نخبته الحاكمة ذات التقاليد العرقية ذات التابع العنصري و الجهوي (حكومة نخبة نيلية او حكومة مؤتمر وطني) لا تستطيع تمثيل البلد في المحافل الدولية . وكما تتابعون هذه الايام في وسائل الاعلام العالمية وفاة الزعيم الافريقي نلسون مانديلا فكل رؤساء العالم توافدوا الي جنوب افريقيا حتي رئيس الدولة الوليدة التي انفصلت مننا بالامس ذاهب ممثلا لدولته الوليدة بينما نحن اكبر قطر في القارة الافريقية ورئيسنا مختفي كخفاء جرذ في حفرة عميقة في وادي غير ذي زرع.
عندما نعود إلى التعمق في دراسة حالة السودانية نجد العلاقة بينها وبين النخبة الحاكمة متوترة في جل الحالات, والسبب الأساسي لهذا التوتر هو كبت الحريات ابتداء من حرية الرأي والتعبير والنشر, فالسلطة عوضاً عن أن تستفيد من ثقافة النخبة وعقلانيتها, ومعرفتها بالتجارب التاريخية قديما وحديثا فإنها تسعى في كثير من الأحيان إلى تحييدها بالترغيب والترهيب.
إنه من المفيد أن يؤرخ الدارسون لعلاقة المثقف السوداني بالسلطة, وبخاصة منذ ميلاد الدولة السودانية في خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم للتعرّف إلى الأسباب الحقيقية لظاهرة التوتر في هذه العلاقة, وهي أسباب متنوعة ومتعددة, ولكن السبب الجوهري يبقى في نظري موقف السلطة من الحريات, كما أشرت إلى ذلك قبل قليل.
لابد من التلميح هنا إلى أن السلطة السياسية قد نجحت عبر وسائل الاغراء وإغداق الامتيازات في كسب فئة من (المثقفين) رسالتها الأساسية إضفاء الشرعية على سلطة غير شرعية, وتبرير أخطاء سياسة رديئة وفاشلة.
أثبتت الممارسة اليومية لجميع أوجه نشاط المواطن السوداني في الاقتصاد, والسياسة, وفي الثقافة والاعلام, وداخل الحقول, والمصانع, والجامعات أن الحرية هي شرط ضروري لكل عمل إبداعي, فهي تحرر الطاقات, وتخلق المبادرات, وتبعث الحيوية, فالشعوب السودانية ليست أقل خيالاً, وليست عقول أبنائها أدنى ذكاء حتى لا تستطيع أن تخلق وتبدع في جميع مجالات النشاط البشري من الانتاج الحرفي والفني إلى الابتكار في مراكز البحث العلمي, ولكن هذه الطاقة مُلجّمة ومكبّلة لا تتحرك إلا بإذن, وفي اتجاه يحدد لها سلفا, وإذا اجتهدت, وتحركت من تلقاء نفسها فإنها تثير الريبة وتحاصر, وبخاصة إذا كان لهذا التحرك علاقة بالدفاع عن قيم الحرية.
يتحدث بعض الدارسين عن ضعف المجتمع المدني في السودان . وهي حقيقة موضوعية, ولكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في هذا السياق هو : كيف يمكن أن نتحدث عن مجتمع قوي, ومؤثر في الحياة العامة في الوقت الذي تُكبل فيه السلطة المجتمع بأسره, وترسل عساكرها ليراقبوا حركة المجتمع.
قد يتساءل قارئ هذا المقال قائلا: لماذا التركيز على الحرية, وضرورة الدفاع عنها, والسكوت عن حقوق الإنسان, وعن الديمقراطية؟
لاشك أن الثالوث : الحرية, وحقوق الإنسان, والديمقراطية, يمثل الدعامة الصلبة والشرط الضروري لكل عمل سياسي وفكري يسعى في السودان من أجل إعداد تُربة خصبة لقيام نهضة جديدة, ولكنني أذهب إلى القول : إن الحرية هي الأس المتين لهذه الدعامة, فلا يمكن أن نتصور احتراما لحقوق الإنسان, أو نتصور تجربة ديمقراطية, دون كسب معركة الحريات الأساسية, فقد حاولت بعض النظم اتباع (موضة) الحديث عن حقوق الإنسان, واتضح مع مرور الزمن أن كل ذلك لا يتجاوز الشعارات, أما الممارسة فتختلف اختلافا جذريا عن الخطاب, ولم تستطع قوى المجتمع المدني أن تميط اللثام, وتكشف اللعبة بسبب غياب الحرية. إن القضايا الثلاثة : الحرية, الديمقراطية, وحقوق الانسان قضايا مترابطة ومتلاحمة دون ريب, ولكن لابدّ أن تحظى معركة الحرية بالأولوية القصوى.
إننا واعون أن الحرية لا تمثل حلا سحريا لجميع المشاكل التي تراكمت في السودان في عهد الانقاذ نتيجة للاستبداد والفساد طوال الاربعة وعشرون عام، إلا أنها تشكل الأساس المتين الذي بدونه لا ينهض السودان.
الاستذ : احمد قارديا خميس
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *