الحركات الدارفورية : هبطتم مصرَ فهل من جبلٍ يؤويكم ؟
رسالة موجهة إلى المؤتمرين في القاهرة :
ليس هنالك من أحد يدعو إلى غير إحلال السلام في ربوع دارفور النازفة وإعادة الأمن إليها , إلا ويكون مهووساً بالحرب أو فيه مساً من الجنون , فالحرب وبما أفرزته من جراحٍ مؤلمة قد كانت مفروضة وحتمية أملتها ظروف موضوعية اتفق حولها الجميع , لم يكن العالم قبل اندلاع القتال هنالك ليعرف دارفور ولا أين تقع ولا من يسكنها , ناهيك عن الإطلاع على مأساتها , وبعد انطلاق الشرارة الأولى للرصاص الذي قدحتم فتيله أنتم : الذين تجلسون الآن بالقاهرة وأخوة لكم آخرين ” مناضلين ” امتنعوا عن الجلوس , عندها ألتفت العالم إليكم , إلى إنسان دارفور فوجد مأساة مزدوجة , وجد أجناساً بشرية تعيش خارج الزمن , فقر وأمراض وجهل , آفات كلها مستأصِلة تحكي عن زمن جيولوجي ضارب في القدم , وجد العالم إنساناً قد استعصم بالصبر والصبرُ وحده ليتخذه وسيلةً للآخرة , نبذ الحياة الدنيا وقال لنفسه : ـ وهو مؤمن بذلك ـ ” إنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان ” , من ظهور هؤلاء الصابرين خرجت ذرية طيبة المنبت والأصل , قسم الله لها حظاً من العلم والثقافة واتساع الأفق والمعرفة ما لم تتحه الحياة لآبائهم , قرأ هؤلاء الشباب سِفر دارفور ـ ماضيه وحاضره ـ وتدارسوه , فلم يجدوا بين طياته أثراً يدل على أنَّ هذا الظلم من السماء , فدارفور جنة خضراء على الأرض تجري من فوقها ومن تحتها الأنهار , وجدوا أرضاً قد وهبها الله كل شيء ماءً واخضراراً دائماً , نِعم وأنعام , ونساء تحسدهن ملكات النحل على العمل الدءوب , ورجال زادهم الله قوة احتمال , لكنهم لم يجدوا في هذا السِفر أن هنالك عيباً يعيق إنسان دارفور بأن ينسى نصيبه من الدنيا , قاد هؤلاء الشباب خيالهم إلى أن هنالك فاعل وفاعل جد ظالمٍ , أبت مشيئته الدنيئة إلا أن يمتص الدماء وييتم الأطفال ويرمل النساء , فكانت أعينكم على المركز , حاورتموه بكل ما امتلكت ألسنتكم من بلاغة , صبرتم على مماطلته سنيناً تتلوها سنين , وحينما حق عليه القول : ” أن لا حياة لمن تنادى ” حملتم السلاح , فارقتم الأهل والعشيرة والولد , وفيكم من هو غض الإهاب لم يتذوق طعم الحياة بعد , فكانت الجريمة الكبرى , وهنا بدأت رحلة المأساة الثانية , ليقدم نظام الخرطوم للعالم أطول عرض تراجيديا في التاريخ الإنساني , وعلى أكبر مسرح في الدنيا هو أرض دارفور التي تفوق مساحتها الرقعة التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية , إنَّ الجريمة التي ارتكبت في دارفور إخوتي الأعزاء لا يوجد في الدنيا ما يكفر عنها سوى القصاص حتى تبدأ الحياة ” ولكم في القصاص حياةٌ يا أُولي الألباب ” , فهو قد كُتب علينا : ” أنَّ النفس بالنفس , والعين بالعين , والأنف بالأنف , والأذن بالأذن , والسن بالسن ” نسوق إليكم هذه الشواهد إخوتي لا لجهلكم بها , لكن للتذكرة فقط , خصوصاً وأنكم ستدخلون إلى منبر التفاوض , وما أدراك ما الطريق الذي ستسلكونه ـ وأنتم خبراء حرب ـ طريق ملغوم , وأنتم تعلمون أن نزع الألغام أصعب من زرعها , إذاً فالرحلة طويلة وشاقة ومحفوفةٌ بالمخاطر التي لا عاصم منها إلا بقوة الإرادة , ويحزنني جداً أن أنقل إليكم أن أول هذه المخاطر ستبدأ من مصر , الدولة المضيفة أو فلتكن الراعية المضيفة , فهذا لا يهم , لا شك في أن النظام المصري ـ سياسيوه ـ يمتلكون من الخبرة والحنكة وطول النَفَس ما يؤهلهم للعب هذا الدور وأعني الوساطة لحل الأزمة على أكمل وجه , أي بدرجة ممتاز , فهم بلا شك مهندسون لا يشق لهم غبار في هندسة التسويات وصناعة المصالحات , لكن علينا أن ننتبه وننظر للوراء إلى علامة الممتاز التي أشرنا إليها آنفاً , ولمصلحة من سوف يكون ذلك التميز ؟ أهو لمصلحة شباب دفعهم إلى القتال مأساة قاساها أهليهم السنوات الطوال فكانت النتيجة مأساة فوق المأساة ؟ أم هل ستكون تلك العلامة الكاملة إضافة إلى رصيد الطرف الثاني ؟ وهو الأول دوماً ـ حزب الفئة الغاصبة ـ والذي يتحمل وزر ما تم ارتكابه من جريمة بشكل كامل , فهل سيكون ذلك التميز من نصيبه تكريماً له على جهوده ؟ , لا نريد أن نوحي للقارئ أو للأخوة المفاوضين بأن هنالك مؤامرة تُنسجُ خيوطها في القاهرة , بل على العكس من ذلك فالنظام المصري لم يسعَ يوماً لغير استقرار الحكم في السودان واستتباب الأمن في أراضيه ” لكن على طريقته الخاصة ” , لأنه كما يقال : ” أمن مصر من أمن السودان والبلدان يجمعهما مصير مشترك ” , ويسأل سائل : إذاً فما المشكلة ؟ المشكلةُ تكمن في هذه الحلول التوفيقية وفي منهجية ” عفا الله عما سلف ” , المشكلة تكمن في التسامح في غير موضع التسامح , وبحاسبات التحليل السياسي سيكون الدور المصري المتوقع كما يلي : أولاً : أمراً بديهياً أن مصر ستدخل للحلبة وضيوفها ” الكرام ” تحت الإقرار بالمظلة الشرعية لحزب المؤتمر الوطني وبالتالي الإندغام في نسيج عباءته , وهذا هو اللغم الأول , ثانياً : ستسعى مصر إلى حمل قادة تلك الحركات المسلحة على توقيع مواثيق للسلام مقابل حزمة فواتير أو قل شيكات ” مؤجلة ” من الوعود التي من المفروض أن يقوم بتسديدها حزبٌ قد أدمن النكوص وتفنن في الفجور , وهذا هو اللغم الثاني , ثالثاً : لا تملك مصر ما تضغط به على الخرطوم بقصد حملها على تغيير مواقفها حيال ما يجري في دارفور ونعني بذلك تقديم تنازلات واعترافات تلبي طموحات المقاتلين , أو هي بالأصح لا تريد أن تضغط على النظام بل ستسعى للحفاظ عليه ورعايته والعمل على استقراره نسبة لما تمر به البلاد من منعطف التحولات القادمة ” التحول الديمقراطي , انفصال الجنوب أو الوحدة وإلى آخر ذلك من المسوغات … ” ونتيجة كل ذلك سيكون هنالك تحايل يتم بموجبه استيعاب الف
صائل ضمن منظومة المؤتمر الوطني بعد أن يكتب على ملفها ” دُوِّنَ المحضر وتم حفظه ” , وهذه برمجة موقوتة ستنفجر يوماً عندما يئن زمانها , رابعاً : إنَّ أي سيناريو يحمِل الفصائل بالتوقيع على اتفاق ويغفل المحاسبة سيفقدها الاحترام الدولي والسند الشعبي بل حتى والدعم العاطفي , وسأشرح ذلك في الفقرة التالية , خامساً : إنَّ الوتيرة التي تصاعدت جراءها قضية دارفور لفتت أنظار العالم بجميع مؤسساته ومختلف قطاعاته , وعلى رأس هؤلاء الأمم المتحدة , فنتيجة للشرارة التي أطلقتموها ” أنتم ” وتعنُت المركز في الجهة الأخرى , استيقنت المنظمة الدولية أن َّ هنالك جريمة وأن قبل الجريمة كان هنالك ظلم , فكان القرار (1593 ) , وبموجب ذلك وباستقصاءٍ قانوني باحترافية ومهنية أثبت التحري أن كل الجرائم المضمنة في المادة الخامسة من وثيقة روما ـ باستثناء العدوان ـ قد تم ارتكابها من قبِل النظام الذي تجري مهادنته الآن , إخوتي إنَّ نضالكم المسلح الذي استمر لست سنوات , وصوتكم الذي ارتفع , قد حملا معانٍ كبيرة للكثيرين من شعوب العالم وصحافيوه ومثقفوه ولكل ذي ضمير حي , وكانا مصدر إلهام للشعب السوداني بمختلف مشاربه فحتى الأحزاب السياسية قد كنتم نموذجاً رائعاً لها , غير أنها مشلولةٌ , فقد هيضت أجنحتها , على المستوى الشخصي فقد كنتُ ـ وما زلت ـ على يقين بأنه سيأتي يوم ستُحملونَ فيه على الأعناق فقط ألاّ تفرطوا في القضية وألا تلن العزائم , أخيراً : ربما تساءلتم وماذا نحن فاعلون ؟ في هذا الإطار , نعم إنّ المقاتل هو من يحمل السلاح , وهو من يقاسي الأحراش وهو أول من يُقتل يوم أن يلتقي الجمعان , وهو من يطول اغترابه عن أمه وأبيه وإلى آخر صلات القربى والأرحام , لكن المناضل هو آخر من يستسلم أو يدب القنوط إلى قلبه , تحضرني في هذه اللحظة بعض أبيات للمبدع حُميد يقول فيها : { نحنا بأنفاسنا الطوال ما بتسلكنا الحوية …. لا فتر ظهر الجمال … صابرة عصفورتنا هي وخابرة وين عش العيال … مو النعامات الغبية التدفن الراس في الرمال } , إذاً فليكن هناك سلام وسلام مستدام لكن بعزة نفس , وقبل ذلك فليكن هناك حساب وليكن هناك قصاص وإلا والسلام إنا إلى الغابة منقلـبــــــون …..
حاج علي ـ Monday, July 13, 2009
[email protected]