عبدالله مكاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يدهش حقا في زمن سحقت فيه الدهشة تماما، تحت سنابك تحالف الافكار الشيطانية والممارسات الاجرامية لما يسمي منظومة الانقاذ العدمية، ليس التأجيل المتكرر لتشكيل الحكومة، ومن ثمة الاعلان عن ميلادها قيصريا وكأنها انجاز يصعب إتيانه! ولكنه التدافع بالمناكب لنيل شرف التعلق باهدابها الواهية، ولو كلف ذلك إراقة ماء الوجه والتنكر للمواقف والمبادئ المعلنة! وفي المقلب الآخر، كل من يتخطاه التشكيل الوزاري ويفوته قطار الاستوزار والتمرغ في ميري الامتيازات الوزارية المجانية، وكان قد مني النفس بها طويلا، إلا ونجده قد تحول الي معارض شرس وديمقراطي اصيل، يقول في شأن الانقاذ والحرية ما لم يقله عتاة المعارضون الديمقراطيون؟ المهم، ما يجعل الدهشة مدهشة اكثر من ذلك، يعود من جهة، الي ان الانقاذ ومن خلال تخبطها وفشلها وفسادها احالت البلاد الي جنازة بحر، يستحيل علي اي حكومة جادة إقالة عثرتها، او تحمل مسؤولية ادارتها بصورة منفردة، ومن دون اعادة ترتيب اوضاعها جذريا علي اسس ديمقراطية خالصة! ومن جهة اخري، الي ان غياب المؤسسية والمسؤولية الوطنية، جع
لت البلاد تحكم بطريقة غير مؤسسة وغير مسؤولة. بتعبير آخر، اصبحت السلطة الحقيقية في ايدي جهات وشخصيات بعينها غير مساءلة! والحال كذلك، اصبحت مختبرات الظلام واساليب الاقبية والدهاليز ونهج المخططات السرية، هي المتحكم الحقيقي في كل ما يجري بالدولة. وعليه، تصبح الحكومة مجرد واجهة لا تملك حق التصرف في سلطاتها، وإن وقع عليها عبء التقصير والفشل الذي يحيطها احاطة السوار بالمعصم! وهذا لا يعني تبرئة المسؤولين الحكوميين، بل علي العكس فهذا ما يضاعف من جرمهم، اي اجتمع عليهم الفشل والجبن او قلة الكفاءة و نقص المروءة. والحال، ان منْ يدخل هكذا حكومة (خيال مآتة) بنية الفساد ومراكمة الثروة من خلال تسهيلات المنصب، سيصطدم بحقيقة ان موارد الدولة لم يتبقَ منها الكثير ليتم نهبه؟ وكذلك من كان غرضه من الاستوزار مكانة اجتماعية مرموقة يصيبها، او اضافة لقب فخم الي سيرته الخاملة، سيكتشف ان ألق هذه الوظائف قد فقد بريقه، بسبب الابتذال الذي تعرضت له طويلا. وبكلمة مختصرة، حكومات (الانظمة الاستبدادية) المختلفة او المتعاقبة، تحاكي الفرق بين احمد وحاج احمد، وهي تفتقد الطعم واللون والرائحة، والمقارنة بينها تتم بين السيئ والاكثر سوء، لدرجة إذا غابت الحكومة نفسها عن المشهد تماما، لن يشعر بذلك احد؟! اي حكومات الظاهر هي جهاز تبرير لممارسات الخفاء او كغطاء لخفافيش الظلام التي تتحكم في كل خيوط اللعبة، وهذا ما قد يفسر لماذا تذهب تقارير المراجع العام ادراج الرياح، او تصبح لجان التقصي وجهات المحاسبة، مقبرة للحقيقة ومخرج للفاسدين، وهذا في حال لم يقدم صغار الفاسدين للمقصلة، ككبش فداء للقطط السمان، او ذر للرماد في العيون عن حقيقية فساد المنظومة بالكامل.
وما يهم تحديدا هنا، ان لعبة الحوار العبثية التي استطالت كرحلة التيه لبني اسرائيل، كانت معنية حصرا بازمة ومشكلة ومصير البشير، وليس ازمة الدولة او مشاكل المجتمع بحال من الاحوال. اي بعد ان تم اختطاف الدولة منذ الاعلان عن الانقلاب المشئوم، ارتهن مصير الدولة بمصير من يقبضون علي سلطتها ويعتصرون مواردها ويجسمون علي صدر مواطنيها. وبما ان مصير البشير بعد دخول المحكمة الجنائية الدولية علي الخط، اصبح في كف عفريت، فتاليا اصبحت السلطة لا تشكل غاية لامتلاك النفوذ واكتناز الثروات فقط، ولكنها تحولت الي سياج او حصن يحمي صاحبه من الرسف في الاغلال والاقتياد الي لاهاي. والحال، انه إذا تاخرت المحكمة عن القيام بواجبها، او وظفت جهات دولية نافذة، بعبع المحكمة، لنيل مآربها او تمرير غاياتها واجندتها؟ فان العامل البيولوجي كان للبشير بالمرصاد، فهو نوع من القضاء الذي يستحيل رده، او يصلح فيه الاطباء والعقاقير ما افسدته السلطة وسوء التعاطي مع النعم. وبما انه تصعب الاحاطة بالطريقة التي تدار بها الدولة (اللادولة)، لانه كما سبق يحيط التكتم بالآليات والسرية بالشخوص الذين يقومون بهذه الادوار، إلا ان وجود البشير يمثل الضابط لايقاع تلك الحركة، وبما يخدم اغراضه ومصالحه وهمومه السالفة الذكر. ولكن مع زيادة تردي احوال البشير الصحية، فالمؤكد ان قبضته ستضعف، وتاليا تقل سيطرته او تحكمه في ضبط ايقاع اللعبة، ومن ثمة يزداد التنافس والصراع بين الاجهزة الامنية والاستخباراتية الاكثر التصاق بآليات صنع القرار! مما يُرشح الاوضاع في السودان الي الايلولة لوضعية الحالة الجزائرية، ولكن مع غياب العامل الريعي (سهولة الادارة) الذي يوفره البترول في الاخيرة، إضافة الي وضوح ملامح الدولة في الاخيرة علي العكس من الاولي. اي رئيس مشلول ولكنه يحافظ علي توازن القوي القائم (الي حد ما والي حين بالطبع!) وهو توازن تستفيد منه شبكات مصالح لا حد لها، ومن ضمنها ما يبدو ظاهريا انها معارضة (رافضة للتغيير والتجديد مبدئيا!)، وتاليا جميعها ذات مصالح في بقاء الاوضاع علي حالها.
في ظل هكذا اوضاع تم الصعود ب(الجنرال الصغير) بكري حسن صالح، من نائب مغمور لا يُعبأ بقراراته وتوجيهاته ومكانته (اضافة الي ان وجوده كظل للبشير حرمه تطوير قدراته السياسية والخطابية والقيادية!) الي منصب رئيس وزراء لحكومة هلامية، كالعادة تتخذ صفة الوطنية والقومية..الخ من الاسماء الرنانة والصفات الفخمة والاساليب المفخخة التي اعتادت عليها منظومة الانقاذ، لإخفاء حقيقة خواءها وعدميتها! وهذا بالطبع علي عكس كثير من التوقعات، التي اعتقدت ان هكذا منصب (منجور/مطبوخ) قصد به حصريا استمالة المعارضة الهشة (حزب الامة المتردد/ الشعبي الحردان/الاتحادي المتخاذل، وغيرها ممن يعارض وعينه علي الكرسي) بقصد تحييدها في الصراع او اخراجها من صف المعارضة الجذرية نهائيا، وتاليا يتم الاستفراد بها وحشرها في زواية المعارضة المخربة والرافضة للاستقرار؟! والحال، ان التعيين ان اكد علي شئ فهو يؤكد علي حقيقة، ان اللعبة السياسية غائبة تماما عن معادلة السلطة، التي تتحكم فيها قوانين القوة والنفوذ (الاستخبارات والامن) وما الواجهة السياسية إلا غطاء شفاف لا يقوي علي تحمل اي احتكاك بالقضايا الاساسية (السلطة الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان والتنمية التموازنة). بمعني آخر، اي قراءة سياسية لاوضاع البلاد الآنية، ستجد نفسها خارج النص، وتاليا امام هكذا اوضاع غائمة لا تصلح إلا المقاربات العسكرية والامنية وعلم الاجرام والعصابات المنظمة. ومن هذه الوجهة الاخيرة، يصبح السؤال ليس عن قدرات الحكومة القادمة وفرص نجاحها او فشلها، ولكن عن قدرات بكري؟ او كيفية ادارته او تعامله مع القوانين الحاكمة للسلطة؟ اي هل يحافظ علي هذا التوازن؟ وما مدي إلمامه او قربه من العوامل المتحكمة في هذا التوازن؟ وما فرص بكري في احداث انقلاب يطيح بهذا التوازن؟ بمعني هل يملك القدرة والنفوذ والعلاقات التي تمكنه من احداث هكذا انقلاب؟ ام يظل كما عهدناه مجرد صورة باهتة للبشير، او بسبب هذه تم تصعيده بهذه الكيفية؟!
وفي سياق متصل ولكن في جانب آخر، كان سبب لتناول هذا الموضوع، يأتي حديث (الجنرال الصغير) عن التزام الحكومة بحرية الصحافة والاعلان العالمي لحرية الصحافة، وذلك عند لقائه بوفد شبكة الجزيرة والخبراء المشاركين في الندوة الاقليمية، حول حرية الصحافة التي تعقد بالخرطوم، او كما جاء في الخبر. والحال هذه، هل يقصد بكري من ذلك، استمالة الوسط الصحفي لصالحه، وهو يخوض غمار، اما صراعاته الخاصة (إذا كان يتطلع لدور ابعد)؟ او يحاول ان يكمل دوره الشكلي في هدوء (كما هو مخطط ومرسوم له من قبل البشير)؟ بمعني هل هنالك تُغير في قوانين اللعبة، يُوظف فيها الاعلام والصحافة بصفة خاصة، وبشكل مغاير، ولكن بالاستفادة من نفس القوي والآليات الاعلامية، التي تم صُنعها وصُرف عليها الكثير طوال المرحلة الانقاذوية (الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، كنموذج)؟ وهل هنالك قنوات جديدة (قديمة) خارجية، تحاول ان تكمل الدور المرسوم لاعلام الداخل، مثل شبكة الجزيرة او الخبراء المشاركون في الندوة الاقليمية حول حرية الصحافة؟ اي ما سر اختيار الخرطوم تحديدا لاقامة هكذا نشاط يدور حول حرية الصحافة؟ في الوقت الذي تتعرض فيه الصحافة المستقلة، للتضييق الظاهر والحرب الخفية، ويحرم بعض الكتاب والصحفيين من الكتابة دون اعلان مبررات او وجود احكام قضائية تدينهم، إذا افترضنا ان الراي الحر يحاكم بالقضاء؟! هل ذكرنا شيئا عن الاعتقالات التي طاولت كتاب راي او التهديدات التي واجهت صحفيين او الاعتداءات التي اصابت رئيس تحرير؟ وبسؤال محدد، هل اطلعت شبكة الجزيرة وما يسمي الخبراء المشاركون، علي تقرير (جهر) حول احوال الصحافة في الداخل الذي تصدره كل عام، قبل ان تشرع في اقامة ندوتها المشبوهة؟ ام ان ترتيب الاوضاع الجديدة، التي يُتوقع ان تحكم الفترة القادمة، فرضت عليها ذلك؟ والحال ان هذا، ما يدخل هكذا تشكيلات وكيانات اقليمة، في كثير من الشبهات، ويثير حولها الشكوك والتساؤلات، خصوصا عندما تقف وراءها نظم استبدادية، او دولة (مراهقة) كقطر، تسعي للعب دور اكبر من قدراتها، الشئ الذي يحيلها الي مجرد مخلب قط او اداة في ملعب العلاقات الدولية، الذي تتحكم فيه الغيلان والحيتان العابرة للقارات؟!
وبعيدا عن التلفظات الوعدية التي ادمنتها الانقاذ، وامتهنها البشير او سار علي دربها بكري، او من لف لفهم واستن بسنتهم، تظل وعلي الدوام مسألة الحريات بصفة عامة وحرية الصحافة علي وجه الخصوص، هي العدو رقم واحد لكل الانظمة ذات الجذر الانقلابي والمحتوي الاستبدادي. والسبب ان تلك الانظمة لم تقم، إلا لمصادرة الحريات وفرض الوصاية وقانون الامر الواقع! وهو قانون بطبعه لا يعادي الحريات فقط، ولكنه قبل ذلك يشوه صورتها وغيرها، من خلال تحكمه في التشريعات والسياسات والموارد، وصولا لاحتلال الفضاء العام بالكامل؟! اما مصير الصحافة الحقيقية، التي لا تقوي علي الحياة إلا في بيئة حريات معافاة، فهو الاكثر قتامة. ليس بسبب الحصار الخانق والرقابة الامنية القبلية والبعدية، ولا بسبب مضايقات السلطات واستفزازات المسؤولين، ولا الصعوبات المنتصبة امام الحصول علي المعلومة او الحجر علي نشرها، او وضع خطوط حمراء علي تناول قضايا الامن والفساد (الجنجويد واسرة البشير خاصة) ولا غلاء مدخلات انتاج الصحف وضعف القوة الشرائية للجمهور، ولا القوانين التعسفية والمتضاربة فيما يتعلق بالصحافة والنشر وحرية الراي، ولا ولا ..الخ فقط، ولكن قبل ذلك كله، تسمم البيئة الصحفية وفسادها، من خلال اعادة رسم دورها، كابواق تسبح بحمد النظام ورموزه، او كتبرير للاخطاء او اسدال ستار كثيف علي مكامن الفشل والفساد والتجاوزات. وبقول آخر، تسود نوع من الصحافة المضللة والصحفيين المرتزقة اذا جاز التعبير، الذين تتاح لهم الاموال والفرص وتسن لهم القوانين، التي تمكنهم من التأسيس للصحف والتحكم في سياسة تحريرها، وتاليا زيادة مساحة تغبيش الوعي العام، وذلك وفق نهج يهتم بشيطنة المعارضة وتخوين المعارضين، وإثارة الكراهية والفتن الدينية والقبلية، وكذلك التركيز علي سفاسف الامور والتفاصيل الشكلية، وملاحقة المسؤولين وانشطة الحكومة في الداخل والخارج، وفي احسن الاحوال التوسع وشغل الراي العام، بنتائج الاخطاء ومضاعفات الخطايا، ولكن من دون الغوص في مسبباتها الاساسية او تتبع جذور الفشل، والتي تلتقي جميعا عند عقدة واحدة، تسمي الاستبداد وتوأمه الفساد ومرجعه الانقلاب. وبكلمة محددة، تم حدوث تحوُّل شامل في مفهوم ومضمون الصحافة، بحيث آلت الي نوع من الصحافة الصماء البكماء او المغيبة للوعي والحقائق، وذلك تم علي حساب الصحافة الكاشفة للحقائق والحاملة لمشاعل الاستنارة والتقدم. وهذه الصحافة الاخيرة، هي عينها ما يثير حفيظة السلطات وحساسية الاجهزة الامنية، وتاليا هي المستهدف الاول بترسانة القوانين والتشريعات (المكتوبة او غير المكتوبة واكثرها تقديرية/مزاجية) المقيدة للنشر (راجع مرة اخري تقارير جهر عن احوال الصحافة في الداخل، لتعلم مدي صعوبات ومجازفات العمل الصحفي الحقيقي، وانكشاف ظهر الصحفيين العاملين في الداخل). وإضافة الي ذلك، التشويه المتعمد لأصحابها وما يقومون به من مجهودات خرافية، وما يقدمونه من تضحيات مهنية ومالية وصحية واسرية ( ولم تترك حتي قامة بحجم معلم الاجيال الاستاذ محجوب محمد صالح، والذي إذا طُلب من مهنة ان تسجد لاحد، لطُلب من مهنة الصحافة ان تسجد لمحجوب محمد صالح او محجوب الذهبي حسب وصف المبدع كمال الجزولي، عرفانا منها لما قدمه في بلاطها) او القيم التي يدافعون عنها كالحرية والديمقراطية والشفافية وحقوق الانسان. والاسوأ من ذلك، انه تم حدوث تجريِّف شبه كامل، للحواضن او المواعين السياسية والفكرية والثقافية والفنية، التي تغذيها بالمواد سواء كافراد او مراكز او مؤسسات، هذا من جهة! ومن جهة مقابلة، تم ضرب اهم قاعدة او قطاع مستهدف بالرسالة الصحفية، وذلك عبر عملية تدمير ممنهج لوعي اجيال كاملة او تسطيحها، من خلال تعريضها لمناهج تعليم في غاية التخلف والرجعية ومفارقة روح العصر.
وبناء علي ما سبق، يبدو ان قدر الصحافة الجادة والحقيقية، ان تكون في وجه المدفع، بسبب تماسها المباشر، ليس بمشاكل الناس العاديين والتعبير عن همومهم المعيشية وتطلعاتهم للحياة الكريمة، ولكن في الاساس لعداءها المستحكم، او ما يفترض انه عداء مستحكم، بينها وبين المنظومة الاستبدادية (ليس كافراد وآليات، وانما كثقافة عامة مؤثرة علي الميول وموجهة للسلوكيات). اي كأنها تعمل علي جبهتين، مقاومة الاستبداد من جانب، والعمل علي استبداله بثقافة ديمقراطية مغايرة من جانب آخر. اي في الوقت الذي تكرس فيه الانظمة الاستبدادية لقانون صحافة السوق، عبر تسليع كل الفضاء العام، وتاليا تحول الصحافة الي شركة تجارية، او شراكة سياسومالية لها اهداف ربحية (سياسية اقتصادية)! يصبح الهامش بالغ الضيق للصحافة الرسالية ذات المضامين التنويرية.
والحال كذلك، تصبح حرية الصحافة التي بشر بها (الجنرال الصغير)، هي حالة شبيهة بحرية الاسواق التي تنتهجها بعض الدول الراسمالية (مع فارق المرجع الديمقراطي الاكثر نعومة في الاخيرة والاسبتدادي الاكثر همجية في الاولي). اي حرية ان تزداد ارباحي، او كل الوسائل مباحة لزيادة الارباح، ولكن عند تعارض الحرية العامة مع الربحية الخاصة عند اي منعطف، يُشن عليها هجوم كاسح، اي تحل محل الشيوعية سابقا والاسلاموفوبيا حاليا، اي كتوجه مضلل يحتمي بالآخر العدو سواء اكان حقيقي او متوهم، هروبا من مواجهة الذات او مساءلة المنطلقات، او الابتعاد عن السعي الجاد لعلاج العللل الداخلية، وما تسببه من خسائر فادحة للنخب الضيقة المسيطرة علي المنظومة! اما وجه الشبه مع حرية الصحافة الموعودة، فيجسده هامش الحريات كمتنفس للنخب المعارضة والجماهير الغاضبة والحالة المحتقنة، وهو هامش يسمح بكل نقد وتعبير معارض، كي يُظهر مدي تحضر ورحابة صدر و(ديمقراطية!) النظم المستبدة، مجاراة للتيار العالمي العام الذي يرحب بهكذا مسلك؟! ولكن عند المساس بحقيقة بطلان سيطرة المنظومة الحاكمة، بسبب مرجعيتها الانقلابية غير الشرعية، وذلك سواء كان عبر، التعبيرات السلمية كالمظاهرات والاعتصامات او بناء الاحلاف السياسية والعسكرية، التي تستهدف ارجاع الحق (الشرعية) لاصحابه (الشعب). عندها فقط يظهر، كم ان وهم الحرية الممنوحة، هو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهذا في حال لم تغدو جريمة (يعاقب عليها القانون!) وتهديد لامن الوطن واستقرار المجتمع. وبتعبير واضح، الحرية مباحة طالما انعكست ارباحا علي النظام، وإلا فهي بدعة منكرة ورجس من عمل الشيطان. وعليه، يصبح حديث بكري صالح عن التزام الحكومة بحرية الصحافة، هو اكبر عائق امام تلك الحرية! والسبب انه جعل الحكومة وصي علي الصحافة والعمل الصحفي، وهو ما يناقض هكذا حرية مزعومة جملة وتفصيلا. والحال، ان حرية الصحافة (المعلومة من الديمقراطية بالضرورة) يجب ان تكون جزء من حريات وحقوق عامة، متضمنة في صلب دستور ديمقراطي، يقوم عليه دستوريون وطنيون مشهود لهم بالكفاءة والمجاهدات الوطنية الديمقراطية، والاهم ان يتم ذلك في بيئة ديمقراطية كاملة الدسم. اي كحق اصيل من حقوق الانسان وآلياته المجتمعية، وليس منحة (عيدية) او مِنَّة سلطوية، تمرر من خلالها الحكومة مصالحها الخاصة، والتي قطعا تتعارض مع المصلحة العامة.
وفي الختام، حرية الصحافة كغيرها من الحريات العامة، مسألة ليست خاضعة للانظمة الاستبدادية بالمطلق، ولكنها تتحرك مع حركة المجتمع ونضالات مكوناته، تجاه تحسين شروط حياتهم، لانه ليس لهم حياة اخري بنفس المواصفات، تعوضهم عن ضياع او التفريط في حياتهم الدنيا. اما الآخرة فهذا شأن آخر ومنطق آخر يخص المؤمنين، وهم ليس كل المواطنين. وهذا ما يستدعي اخراج العقائد نهائيا من مجال الصراع المجتمعي، او كبديل ضمن البدائل المجتمعية التي لا تقصي احد. والسبب انها ليست مصممة لمعالجة اشكالات الواقع التقنية، والاخيرة مدار ما يواجه المجتمعات من تحديات تتعلق باحتياجاتهم المادية الاساسية، وتاليا تتطلب معالجات من نفس الصنف. بمعني آخر، اخراجها من مدار الصراع لا يحفظ لها قداستها فقط، ولكنه يقطع الطريق علي العاطلين سياسيا والمأزومين نفسيا وثقافيا ووطنيا من المتاجرة بها واستغلال اتباعها. وعليه، المصلحة المتحصلة لا تصيب بفوائدها غير المتدينين، ولكن في المقام الاول المتدينين انفسهم، علي اعتبارهم اكثر من يتضرر من تسييس العقائد. وذلك لأن المصلحة الدنيوية تعود بصورة حصرية، للمتحكمين بعملية التسييس، او ما يسمي مفكرون وقادة دينيون كنموذج الترابي او منظومة عقائدية كجماعة الجبهة الاسلامية، اما بقية المتدينين (العوام) فغير ان خطاب حراس العقيدة (عدتهم او مبرر وجودهم) يتوجه لهم كضالين ومقصرين علي الدوام، إلا انه وبنفس منطق الدين يتم تبرير حرمانهم والعسف بهم، وهذا عندما لا يتحولوا الي وقود لمعارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وانما تخدم فقط مصالح النخبة المتحكمة في العقيدة؟! والخلاصة، إذا كانت الحرية بصفة عامة وحرية الصحافة بصفة خاصة، متضررة من الانظمة الاستبدادية، فهذا الضرر يتضاعف ويسوغ وتصعب مجابهته، عندما يتلبس الاستبداد مسوح الدين، وهو عين المأساة التي يرزح تحتها الوطن الجريح. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
آخر الكلام
كنت في وارد التوسع في شأن مقال، احسبه واحد من اكثر المقالات جدية وتحذيرية، خاصة وهو يصدر عن اهل الاختصاص الذين يلامسون جذور المشاكل بادواتهم العلمية وفي مظانها الحقيقية، وهذا غير انه يصدر عن نفس ملأتها الوطنية وروح المسؤولية والخوف علي بسطاء بلادي وهم الكثرة الكاثرة، والمقصود هنا مقال الاستاذ جلال الدين محمد ابراهيم (مركز اخبار السودان اليوم). يتحدث فيه عن الزيوت المستخلصة من بذرة القطن المحور وراثيا، وغيرها من المواد التي تهدد حياة الملايين، وتترصدهم بالسرطانات والامراض المزمنة؟! ولكن في الوقت الذي يخرج علينا الخبراء والعلماء بالحقائق العلمية اعلاه، وينبهون لخطورة الاوضاع وتردي الاحوال. يخرج علينا (المحامي؟؟!!) كمال عمر بآخر صيحات الدجل والشعوذة، وبما ينافس كبار مصممي الازياء الغريبة ومخرجي افلام الاطفال العجيبة! فهل يعقل ان يتفوه شخص كامل القوي العقلية والنفسية بما تفوه به المدعو كمال عمر، عن رؤيته للنبي وبصحبة الترابي ومعالجتهم اياه في تلك الزيارة المباركة؟! فهل وصل بنا الانحطاط والخرافة والهذيان الي هذه الدرجة؟! والمدهش اكثر ليس ممارسة الدجل وتسويق الخرافات واعلانها علي الملأ من اعلي السلطات، فهذا ما يلازم عهود الركود والبوار اوآخر مراحل الاستبداد (اي عندما يفقد كثير من بريقه الخادع ومصادر قوته المادية والمعنوية وتحاصره الاخطاء والفشل والعجز من كل جانب!). ولكن ان يصدر الدجل عن فرد ينتمي لمنظومة شيَّدت بنيانها علي شرف جرف هار من الدجل والشعوذة، فانهار بالدولة كمؤسسات والمجتمع كقيم اسفل سافلين، ثم بعد هذا الدمار والضياع والعتمة التي تسد افق المستقبل، ياتِ ذات الفرد ويعلن فينا ان وجدتها وجدتها وجدتها، وهو عار كما خلقته امه من المصداقية والمعقولية والمسؤولية؟! قال جاني الرسول قال! يا له من رسول (بائس) ذاك الذي يرافق الترابي؟! والمقصود بالطبع، ان مصدر البؤس هو الترابي، الذي نشر البؤس في ارجاء السودان وتاليا هو قادر علي نقله لاي مكان، وليس الرسول عليه افضل الصلاة والسلام، الذي تمنعه صفاته التي نعلمها عن القرب من الترابي حتي في الكوبيس، والذي للأسف لا يتورع الاسلامويون عن استغلال (رمزيته) في متاجراتهم القذرة؟! ودمتم في رعاية الله.
[email protected]