الانتفاضة الثالثة في السودان
* خضرعطا المنان
[email protected]
يجهل الكثيرمن العرب أن الشعب السوداني كان سباقا بل رائدا في الانتفاضات ضد الأنظمة الديكتاتورية وكان أول شعب أدخل كلمة (انتفاضة ) في القاموس السياسي العربي عندما جعلها شعارا للمفكرة الصادرة عن دار مطبعة جامعة الخرطوم العريقة في أكتوبر 1964 حينما خرج في الحادي والعشرين من هذا الشهر ملايين السودانيين – وبكافة فئاتهم – طلابا وعمالا وزراعا وموظفي دولة وقطاع خاص للشارع في هبة لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا في المنطقة واقتلعوا نظاما عسكريا (الفريق ابراهيم عبود ) وأقاموا أول ديمقراطية حقيقية في تاريخ هذا البلد متعدد الأعراق والاثنيات والثقافات والديانات.. ثم أجهضتها الصراعات الحزبية والتدافع غير المسؤول من قادتها حول مكاسبها واقتسام مغانمها ومن حققها ومن فجرشرارتها الأولى . وفي خضم تلك الصراعات كان الانقلاب العسكري الثاني الذي قاده ( جعفر نميري) في 25 مايو 1969 وبعد ستة عشرعاما ووسط دهشة – بل اعجاب العالم بأسره – فجر السودانيون ملحمة شعبية رائعة عرفت باسم ( انتفاضة أبريل 1985) لكنها أجهضت هي الأخرى بانقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو 1989 انقلاب عسكري جاء هذه المرة بلباس اسلامي مما أكسبه شعبية عارمة في بادئ الأمر ليس حبا في تركيبته العسكرية العقائدية ولكن كرها في أحزاب سياسية ظلت تتناوب الحكم في السودان دون أن تقدم له شيئا كوطن يبحث عن أمن واستقرار أو كشعب كانت طموحاته تتمثل فقط في حياة حرة وكريمة .. وهو الانقلاب الذي ظل يقود البلاد لأكثرمن 23 عاما ولا يزال دون أن يعبر به الى بر الوحدة والامن والسلام والاستقرار .. بل جعل من بلد – كانت مساحته مليونا من الأميال المربعة – ضيعة تعبث به الرأسمالية الطفيلية ورجال (حزب المؤتمر الوطني) الحاكم الذين أثروا ثراءا فاحشا وتزوجوا مثنى وثلاثا ورباعا وبنوا الفلل والقصورالفاخرة وأقاموا المزارع في بلد تعيش الغالبية العظمى من أهله تحت خط الفقر ويتسول حتى نساؤه لتوفير مايسد رمقهن ويبيقهن على قيد الحياة وعجز فيه أبناء وبنات ملايين الأسر من امكانية مواصلة دراستهم في وقت لجأ فيه رجال النظام وأثرياؤه لتشييد آلاف المدارس الخاصة وجعلوا منها مصدر ثروة على حساب من استطاع مضطرا من الشعب تعليم ابنائه لديهم مما قذف بالملايين ممن هم في سن الدراسة للشارع لعجز أهلهم عن سداد تكاليف الدراسة .. فكانت جرائم نوعية لم يعرف لها السودان مثيلا انتشرت في أوساط المجتمع وتفشت ظاهرة المخدرات و اغتصاب صغار الأطفال وخطف البنات واختفائهن والتردي الأخلاقي المريع الذي أضحى حديث الناس في بلد كان حتى الأمس القريب من أكثر بلدان المنطقة محافظة على عادات وتقاليد يعتز بها شعبه .
واليوم أضحى السودان وطنا في مهب الريح وذلك بعد سنوات من الحروب العبثية والصراعات السياسية وتفشي الفساد الاداري والثراء الفاحش بين كافة منتسبي الحزب الحاكم في السودان ( حزب المؤتمر الوطني ) الذي يعد الوليد الشرعي لـ( حزب الجبهة القومية الاسلامية ) الذي قاد الانقلاب العسكري بزعامة (حسن الترابي) الذي رآى – بدوره – في المشير(عمر البشير) ضابطا مغمورا يمكن له أن يكون مطية يستطيع من خلالها تمرير كافة أجندة حزبه في الهيمنة على مقدرات البلاد والعباد وهو في مأمن من جانب الجيش السوداني الذي كان دائما – قبل تفريغه من كافة كوادره غير الحزبية – وعبر تاريخه ظهيرا ومساندا قويا لكل انتفاضة صنعها شعب السودان في السابق.
ان مايحز في النفس ويبعث على الحزن هو أن العرب جميعا ومن خلفهم فضائياتهم المعروفة لا زالوا يتعاملون – حتى اللحظة – مع مايجري اليوم على ارض السودان انما هو مجرد مظاهرات طلابية محدودة من حيث النطاق الجغرافي وعدد المشاركين فيها .. وهي في الواقع غير ذلك ولكنها انتفاضة ثالثة حقيقية بل (ربيع سوداني) جارف امتدت شرارته لتشمل معظم مدن السودان شرقا وغربا وشمالا وحتى تلك المناطق الواقعة قرب حدود الجنوب المنفصل في التاسع من يوليو العام الماضي وهذه سبة أخرى في جبين النظام الحاكم في الخرطوم كانت نتيجة حتمية لممارسات استعلائية واقصائية مارسها النظام مع اخوة كرام كان يمكن أن يكونوا جزءا مكملا لنسيج سوداني ظل يفاخر بتنوعه وتعدد ثقافاته وأعراقه واثنياته قرونا .
ان ما يجري في السودان الآن انما هو ثورة – بل انتفاضة ثالثة – لن يستطيع النظام الحاكم اخماد جذوتها أو السيطرة عليها مهما استخدم من وسائل قمعية أو قبضة أمنية أو استنفر من (شبيحة) أو ( دفاع شعبي) أو ما يطلق عليها (عزة السودان ).. وهؤلاء في سوادهم الأعظم هم شباب يفع مغرر بهم موعودون بوهم كبيرغسل به أهل النظام أدمغتهم يقوم على الخلود في جنات النعيم والتمتع بالزواج من الحور العين والالتقاء بمن يحبون هناك .
انها مأساة كبرى يعيشها السودانيون اليوم في ظل نظام ظل – وعلى مدى سنوات حكمه الطويلة – يتفنن في صناعة الأعداء ليخوض حروبا يوهم بها الشعب على انها مسألة كرامة ووطنية ودفاع عن عقيدة هو في الواقع مرغها في التراب بممارساته التي لا تمت للاسلام بصلة في بلد بلغ عدد مهاجريه في الخارج اليوم أكثرمن ثمانية ملايين (أي ربع سكانه ) بالتمام والكمال بعد انفصال الجنوب .
يبقى على أهل النظام في الخرطوم أن (يفهموا) ويعوا أن الشعوب التي خرجت منادية بالحرية والانعتاق والديمقراطية وذابت في أتون ( الربيع العربي ) وتحقق لها ما أرادت ليست بأفضل أو أكثر وعيا من شعب السودان أنهم – أي أهل الحكم هؤلاء – أمام ثورة شعبية لن تخمد جذوتها الا برحيلهم.. وعليهم أيضا أخذ العظة والعبرة بالقادة الذين غابوا تحت التراب على أيدي شعوبهم (القذافي في ليبيا ) أو انهم قابعون خلف القضبان انتظارا لمصير مجهول (مبارك في مصر ) أو أولئك الذي فروا بجلدهم هربا من سيوف العدالة (زين العابدين في تونس ) أو الآخرين الذين ينازعون الآن سكرات الرحيل المر ( الأسد في سوريا ) .