الإصلاحيون بحاجة إلى إصلاح الذات قبل الدولة
لا يوجد خلاف في أن الإنسان خلق أصلا ليترقى نحو مدارج الكمال النسبي. وهو في سبيل هذا الترقي يتخبط ثم يحسن هنا، ويأثم هناك، عبر تقلبات الممارسة الحياتية. ولكن المهم هو الخاتمة الحسنة. وهناك أمثلة من التاريخ عن رموز إنسانية وقومية تعثروا في تفاصيل حياتهم، ولكنهم نهضوا من فشل تجاربهم ثم انتهوا إلى كونهم رموزا لم نجد نحن والبشرية بدا من الاستفادة منهم. ولكن السعي إلى هذا الترقي، مع ماضي التخبط والخطيئة، يحتاج إلى اعتراف بالخطأ صادق، وعزم على جدية إصلاح الذات محسوس. القاعدة هي أنه ليس هناك ما يمنع أن يولد الإنسان مرة أخرى.
إذا طبقنا هذه القاعدة على تيار الإصلاح داخل المؤتمر الوطني، أو من سموا أنفسهم بـ (السائحون) أو بعض الخارجين عن مجمل مشاريع الحركة الإسلامية الأولية التي انتهت إلى تأسيس هذا الاستبداد الذي يطوق البلاد، فإن النتيجة مخيبة للآمال، حتما. وإذا اتفقنا على ضبط ما يشير إليه مفهوم الإصلاح، وتيقنا تماما من كارثية تطبيقات مشروع الإسلام السياسي، فلا بد للإصلاحيين أن يفكروا وفي بالهم سوء المآل الذي أوصلتنا إليه فكرة الأسلمة. وإن لم تقترب أدبيات الإصلاحيين المتمثلة في القول الملفوظ، والبيان المكتوب، وحواراتهم معنا ، من الصدق ونشر الحقائق، فإن النقد ينبغي أن يوجه لمرجعيات النظر الإسلاموي، عوضا عن تعنيف الشخصية المستندة على هذه المرجعيات. ذلك ما دام أن ما ينجز الآن من خلال أدبيات الإصلاحيين الآن ليس هو الإصلاح بعينه، وإنما الفتك بمفهومه.
ولئن كان الإسلاميون الإصلاحيون يناورون، ويداورون، ويكابرون، ويتذاكون علينا، ويغيبون عقولنا، فليس أمامنا إلا تجديد تفكيك هذه المرجعيات لنرى كيف تشكلت جذور خداع الذات. والتفكيك عمل بذله على المستوى الإقليمي مفكرون وكتاب أمثال محمد سعيد العشماوي، وحيدر إبراهيم، ومحمود محمد طه، وأركون، وسيد القمني، وشمس الدين ضو البيت، ونصر حامد أبو زيد، وطه جربوع، وإبراهيم الكرسني، والقراي، وموسى الباشا، وإبراهيم عيسى وغيرهم. ولقد قام أولئك النفر من الناقدين بتشريح نظرية الإسلام السياسي، كل واحد من زاوية تخصصه واهتمامه، وبالتالي أضافوا للإسلام أرثا في أصوله النقدية، والمعرفية، والسجالية. ولكنا نحتاج الآن إلى مجهودات بحثية لآخرين في حقل تطبيقات نظرية الحكم الإسلامي وأثرها على الفرد الإسلاموي المستفيد من “خراج الدولة”. وذلك كي يحددوا لنا الاسباب التي ما تزال توجب على الإصلاحيين والسائحين غض النظر عن مراجعة المرجعية التي نفذت ثم ثبت فشلها التام. وتبعا لذلك قصرت مجهودات الإسلامويين الآن على مراجعة التخطيط السياسي الذي يحافظ فقط على مواريث الإسلام السياسي لأجل أن يعاد انتاج الأسلمة بكيفيات جديدة. ربما تكون فتاكة بشكل أكثر مما أحدثته أوليات التفكير الإسلاموي الذي سبق تطبيق المشروع الحضاري. وما يدلل على ذلك فقرة صيغت في بيان الإصلاحيين الأخير والتي فيها ينفون الحاجة إلى مراجعة نظريتهم، وأيضا الحاجة إلى استنباط خطاب جديد، وتقول الفقرة: “إن ما ندعو له ليس خطاباً مخترعاً ولا أفكاراً مستوردة ولا أدبيات مكتشفة. ما ندعو له مضمن في مرجعياتنا الفكرية حتى وإن قصرت عن بلوغه هممنا وأفعالنا. نحن لا نستحدث خطاباً، بل نحيي سنة الالتزام به وتطبيق مقتضياته.” ولو لاحظنا أن الفقرة تشير إلى عدم الحاجة إلى أفكار مستوردة، وينسون أن الفكر المستورد هو الذي يطور نظرتنا للحياة، وجامعاتنا، وتصورنا لحاجة الصناعة، وتطوير بنياتنا الفنية، ذلك في وقت لم ننتج نحن الديموقراطية، ولا برلمانها، ولا فصل السلطات، ولا حتى فكرة صندوق الاقتراع. وما تضمره الفقرة بإحياء سنة الالتزام يحيل إلى إمكانية انتاج الأسلمة بصورة جديدة خلافا للصورة التي نعايشها. وهذا يعني أنه علينا أن نصبر مرة أخرى للإصلاحيين حتى يجربوا فينا مشروعا حضاريا جديدا يربطنا بصحيح الدين. ديموقراطيا ليس هناك ما يمنع من الدعوة إلى ذلك، ولكن عمليا تبدو مسألة إعادة الثقة في أخلاقية الإسلاموي المجربة بحاجة إلى معجزة لاهوتية أو ناسوتية.
وهكذا يتحدث خطاب الإصلاح الإسلاموي دون نقد لهذه المرجعيات التي أوردتنا إلى هذه التهلكة. فالإصلاحيون يريدون فقط إضفاء مساحيق على تجربة الأسلمة الماثلة لتجميلها. ولكنهم ضد التغيير الجذري الذي تنادي به غالبية تنظيمات الجماهير. فهم يقولون “ونحن نؤمن بأن هناك حاجة عاجلة لمبادرة سياسية جديدة وشاملة قوامها تعزيز التوافق الوطني، واتباع سياسة سلام جديدة تعطي أولوية للتفاوض مع من يقبل به، والتطبيق الحازم لكل اتفاقيات السلام الموقعة، ومراجعة السياسات والبرامج الاقتصادية بما يولي عناية خاصة للفقراء، وضمان حيادية الدولة ورئاسة الجمهورية إزاء كل المواطنين والقوى السياسية والاجتماعية، وإصلاح الممارسة البرلمانية وإعداد البرلمان لأداء مهمته في هذا الصدد، وبسط الحريات بما في ذلك حريات التعبير والتظاهر السلمي، وإصلاح القوات المسلحة وضمان هيمنتها على استخدام السلاح، والتوافق من أجل إعداد الساحة لانتخابات حرة ونزيهة في عام 2015.”ولنا أن نكتشف حجم التناقض في الخطاب. فالفقرة السابقة تشير إلى عدم الحاجة إلى خطاب مستحدث، ولكن كيف يمكن استحداث “مبادرة سياسية جديدة وشاملة قوامها تعزيز التوافق الوطني”، كما يقول البيان نفسه، دون تقديمها في خطاب جديد يتناسق مع مقتضيات نجاح المبادرة نفسها؟. وعلى أي أساس، أو آليات فكرية، تقدم هذه المبادرة إن لم تكن هناك حاجة لاستحداث خطاب جديد من الإصلاحيين، مختلفا عن الطريق التي اعتمدها الإسلاميون لتنفيذ ما جاء في خطاب المشروع الحضاري؟.
الحقيقة أن المرء أصيب بالصدمة من مجمل القراءات المتعددة والمنتظمة للاتجاهات الإصلاحية الإسلاموية والتي نحاول بها تفهم رؤيتها لما ينبغي أن يقال، ويكتب، لإصلاح السودان، وحركة الإسلام السياسي نفسها. فكلما أكثرت القراءة وتحاورت مع بعض إسلاميين ألحظ أن الإصلاح الذي يبتغونه في المقام الأول متصل بضرورة عدم المس بعقيدة أسلمة الدولة في ذاتها برغم الضربات القاضية التي تلقتها ركائز هذه الدولة من فكر الإسلام السياسي حتى تجزأت. وكثيرا ما يتجنب الإصلاحيون نقد فكرة “اسلمة الدولة ديكتاتوريا” من أجل المحافظة على فرص قادمة لإعادة تطبيقها بما يتجاوز الأخطاء التي ارتكبت مثلما يفكرون. إنهم معنيون في الأساس بتعطيل أي جهد لعلمنة الدولة، وقطع الطريق أمام المخالفين لوراثتهم، وإنجاز مشروع بديل لا يتمثل إلا في مشروع الدولة القومية التي تحيد المتدينين السودانيين في الشؤون العامة التي تحتمل أكثر من تفسير ديني. والغريب أن عددا من الإسلامويين، ودعاة الأسلمة من السلفيين تراصوا الآن للوصول إلى هدف استراتيجي ألا وهو الإبقاء على هذا الجمع بين الدين والدولة بصرف النظر عما سيترتب عليه من تفتيت لكل السودان، هذا إذا لم تقو القوى السياسية على أن تكون في مستوى التحديات. ونظرا لأن علاقة الإسلام السياسي بالمكتسبات الوطنية ضعيفة، أصلا، كونهم لم يشاركوا في تعميقها، فالولاء الإسلاموي للوطن يظل غائبا. والسبب هو أن الهدف الأسمى المظنون هو إقامة الخلافة الإسلامية، وسند الحركات الإسلامية في المنطقة أو العالم بعضها بعضا متى ما واجهت الضغط الداخلي، أو متى ما لاحت فرص الاستئثار بدولة من الدول. والدليل على ذلك التجاهل الإسلاموي للإرث الوطني هو أن الإسلامويين في الدولة، وفي تيار الإصلاح، هدموا كل البناءات الفكرية، والثقافية، والفنية، والزراعية، والخدمية، والاقتصادية، وغيرها، من أجل صياغة بديل متأسلم يعبر عن قناعتهم هم، وليس قناعة غالب السودانيين.
على أن جانبا من تصريحات المسؤولين في الدولة وممارساتهم تمظهر أيضا إلى أي مدى صارت الحرب على البدائل الفكرية والثقافية السودانية الأخرى أكثر نجاعة بالنسبة لهم، كما ظنوا، من تقديم تصور موضوعي يقوم على مقارعة هذه البدائل بالحجة الموضوعية لا المقارعة بعناصر القوة. حجة تنافي استخدام سلاح الكذب، والبهتان، والمراوغة، وشيطنة الممارسات ضد الآخر. وحجة تقدم تصورا عمليا بشأن افكار عملية متسامحة لإصلاح شؤون الفكر، والسياسة، والقضاء، والإدارة، والثقافة، والفن، والزراعة، والاقتصاد، والصناعة، وتطوير العلاقات الإقليمية، والدولية، وتنمية الشعور القومي، إلخ. وهذا النهج أفضل لتطوير النظر إلى الإسلام وإثبات أنه دين يتميز بالتسامح ومواكبة للعصر، عوضا عن توظيف الدين لملاحقات أمنية وكيدية ضد الرأي الآخر الذي لديه تصورات محكمة بشأن إصلاح الأوضاع المتدهورة في البلاد.
إن كل تلك المجهودات التي تتطلب عصفا ذهنيا، واسهاما وافرا من العطاء الفكري، بعد الحوار، غائبة على مستوى تفكير الإسلاميين المتحكمين في مفاصل الدولة، ولدى الذين ينوون إصلاح الحركة الإسلامية بمظنة أن ذلك سيعود بالخير العميم على البلاد. وحتى إن استوثق الإسلاميون في أنفسهم بجعل تصوراتهم العامة مقبولة للعامة فإن حيلتهم الفكرية ستخذلهم. إذ يبدو أن تفكيرهم يقوم، عندئذ، في أساسه على مرجعيات أمنية للمحافظة على أرواح ما تبقى من الاسلاميين في سدة الحكم، وليس من أجل إبراز جمال الروح. ولعل هذه الأولوية الأمنية تتقاصر دونها أولويات الإسلامويين. وعليه لا يتوفق الإسلاميون في إبداع خريطة طريق لتجاوز الأزمات التي تضاعفت في بلادنا بسبب قصر الإسهام الوطني على المواليين، لا المؤهلين. وفق هذا التفكير الذاتي يتلاقى الإصلاحيون مع زملائهم الذين هم في السلطة. فالإصلاحيون، وهم يفكرون بناء ً على التخوف الأمني والشخصي من البديل، لا يرون أهمية اقتراح، على الأقل، سلطة انتقالية وطنية ترث النظام الذي شاركوا فيه. وذلك بهدف إحداث التسوية القومية وجعل حمل ثقل المسؤولية الوطنية مشتركا. ما يركز عليه الإصلاحيون من تفكير مدفوع، في الواقع، بتخوفات من تغيير قد لا يفرق بينهم وبين أولئك الذين قد تسقطهم انتفاضة مقبلة، أو خلافها. ولعل هذه التخوفات تنتاب أيضا اتجاهات طائفية تخشى علمنة الدولة، واستشراء التنوير في المناطق المقفولة، وانحسار تأثيرها البرلماني في حال قيام انتخابات في عهد جديد. عموما ما لم يحترم الإصلاحيون عقول الناس المكتوين بالتجارب التي خاضوها، فلا نظن أن الثقة في توبتهم وترقيهم في مدارج الكمال ممكنة بعد آثام جارحة للذات باستمرار.