( 1 )
لاحظت المعلمة أثناء تبديل الأطفال ملابسهم، إستعداداً لحصة الرياضة بإحدى مدارس المملكة المتحدة ، أن هناك علامات على جسد إحدى الطفلات من أصولٍ سودانية ، أخذتها بعد نهاية الحصة ، وبعد أن طمأنتها ، قالت الطفلة أن أمها تعاقبها بالضرب . ولأن الأم تعلم أن الضرب في بريطانيا ، للصغار والكبار مجرَّم ، كانت تحرص على أن يكون في أماكن يصعب رؤيتها . إنتهت الحادثة بأن احضرت الطالبة سلاح الجريمة ( كان
مفراكة ) بعد أن أخفته داخل ملابسها ، فأُرسِلَت الأم للمحكمة حيث أُجبِرت على الإعتذار لطفلتها وتعهدت كتابياً بعدم تكرارها ، وإلا فإن القانون يقضي بنزع الطفل من والديه وإرساله للعيش في مكانٍ تُحترم فيه كرامته . فبريطانيا ، كشأن الدول الغربية ، جرَّمت الجلد كعقوبة واختفى من قوانينها منذ سبعينات القرن الماضي .
في حادثة أرتالا بوسط دارفور ، الأسبوع الماضي ، وكما ظهر بالفيديو المتداول بالوسائط الإعلامية ، فقد تم جلد رجال القرية ، بلا محاكمة ، وبطريقةٍ مهينة وبها هدر للكرامة الإنسانية ، وترسيخٌ لإذلال المواطن وتجريده من كل حقوقه التي يكفلها له الدستور الإنتقالي وما فسرته من قوانين . حدث ذلك أثناء حملاتٍ لجمع السلاح بالمنطقة بواسطة قوات حكومية . أعاد فيديو أرتالا للأذهان الحديث عن الجلد كعوقبة ، وكيف وجد طريقه لقوانين العقوبات السودانية ، حتى وصلنا اليوم لمرحلة أن يمارس بلا قانون ولا وازعٍ من عاقبة .
( 2 )
( الإسلام لا يقضي بالمسارعة في العقوبة وإنما العمل على إزالتها بإزالة أسبابها )
المفكر الإسلامي راشد الغنوشي معلقاً على عقوبة الجلد
بالنظر للجلد في قوانين العقوبات السودانية ، فقد كان حاضراً في أول قانون ( 1889 ) ، والذي تلاه في العام ( 1925 ) ، ليغيب عن نصوص قانون عقوبات ما بعد الإستقلال الصادر في سنة (1974) ، فأصبح عقوبة بديلة يتم توقيعها على سبيل الجواز .
في كل هذه التشريعات انحصرت عقوبة الجلد على الرجال ، حتى جاءت قوانين سبتمبر في العام 1983م لتعيد العمل بهذه العقوبة للرجال والنساء محددةً أداته بالسوط وعدد الجلدات من 25 – 100 جلدة . ثم أصبح هذا القانون أساساً للقانون الجنائي السوداني للعام 1991م الذي تعدت فيه هذه العقوبة جرائم الحدود الشرعية الثلاث ، فأصبح يوقع الجلد على أكثر من ثلاثين جريمة ، ليصير أسوأ قانون للعقوبات يمر على السودان منذ القرن التاسع عشر . إذ قرر فيه المشرع ، أنه وفي القرن العشرين ( لحظة صدور القانون ) وفي عالمٍ تجاوزت فيه أغلب دول العالم المتحضر عقوبة الجلد ، رأى أن هذا الشعب لا يصلح أن يعيش إلا والسياط على ظهره .
لم تكتفِ الحكومة ، في القانون الجنائي للعام 1991م بإذلال الناس
عبر توقيع عقوبة الجلد في المواد من ( 151_ 156 ) الواردة في باب جرائم العرض والآداب العامة والسمعة ، ولم تشبع شهوتها في الحط من كرامة الإنسان السوداني بمعاقبته بالجلد وفق نصوص فضفاضة تُترك فيها التقديرات لمزاج شرطي النظام العام ووكيل النيابة والقاضي ، لكنها وقبل ثلاثة أعوامٍ سلَّطت سيف المادة 67 من القانون ( جريمة الشغب ) لتعاقب بالجلد على الفعل السياسي. فاعتبرت أن أي تجمهر من خمسة أشخاص فأكثر مخلاً بالسلام العام ، ويعاقب عليه بالسجن أو الغرامة أو الجلد عشرين جلدة ، ليتجاوز القاضي ، في المعتاد ، الخيارين الأولين فيحكم بالجلد ، كما حدث في العام 2015 عندما تمت معاقبة أعضاء بحزب سياسي بالجلد ، لعقدهم مخاطبة جماهيرية في أحد الأسواق . ومن هنا قفز القانون الجنائي ليطبق قبضته على النشاط السياسي السلمي وينزل عليه أكر العقوبات إهانةً للإنسان .
( 3 )
في العام 1997 صنَّفت مفوضية الأمم المتحدة العقوبات الجسدية كعقوبات قاسية وغير إنسانية ومهينة وترقى لأن تكون تعذيب ، وبذا أعتبرت عقوبة الجلد تتعارض مع إتفاقية مناهضة التعذيب ( السودان لا زال يمانع في المصادقة عليها ) ، وقبل عامين طالبت لجنة تابعة للأمم المتحدة المملكة العربية السعودية بوقف العقوبات الجسدية كالبتر والجلد .
وهنا يأتي تساؤل : هل عدم مصادقة السودان على اتفاقية مناهضة التعذيب ، يعطيه الحق في السباحة عكس تيار قوانين حقوق الإنسان العالمية ؟ هل نعيش في جزيرة معزولة يحكمها نظام يتمرد على المؤسسات الدولية وقوانينها ليعيث تعذيباً وهدراً لكرامة المواطنين ؟ هل يقف المجتمع الدولي متفرجاً على قوانين لا إنسانية تطبقها حكومة مارقة ؟
هذا فيما يتعلق بالقانون ، أما بخصوص إذلال الناس ( زندية) كما حدث مؤخراً في أرتالا ، فهي ممارسةٌ بدأت هناك ، وكما عودنا النظام في جس النبض ، لن تتوقف ، سنرى الرجال والنساء يمددون على بطونهم في الأرض في الخرطوم ومدني وعطبرة وغيرها ، وسيجلدون في الساحات دون أسباب أو مخالفة لقانون ، ثم يهرولون مخلفين وراءهم إنسانيتهم وكرامتهم .
يقول ارنستو تشي جيفارا ( إذا فُرِضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد ، فسيفقد إنسانيته شيئاً فشيئا ) .