موظفة دولية تستقيل احتجاجاً على تستّر البعثة على عجزها في حماية المدنيين
بقلم: خالد التيجاني النور
عائشة البصري: ضابط كبير اعترف لي لا يمكننا قول كل ما نشاهده في دارفور
قسم الدم: داخل كارثة الأمم المتحدة في دارفور
بقلم: خالد التيجاني النور
بدأت القصة المثيرة للاهتمام باتصال تلقيته يوم 20 أبريل 2013 من الدكتورة عائشة البصري المتحدثة باسم البعثة المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي في دارفور “يوناميد” فاجأتني فيه بنبأ استقالتها من وظيفتها بسبب “تطورات في عمل البعثة أقنعتها بضرورة ترك العمل فوراً” تاركة التفاصيل عند مقابلتها بعد وصولها إلى الخرطوم قادمة من الفاشر في طريقها لمغادرة البلاد حيث أطلعتني على خفايا قرارها ترك منصبها بعد ستة اشهر فقط, روت لي وقائع أغرب من الخيال فضحت تستّر “يوناميد” المتعمّد على فشلها, وربما بتواطوء البعض, وعجزها عن القيام بمهمة تفويضها الأساسية لحماية المدنيين في دارفور.
عرفت الدكتورة عائشة البصري, التي تحمل جنسية مزدوجة مغربية وأمريكية, لأول قدومها للسودان في العام 2006 للعمل في المكتب الإعلامي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالسودان عندما دعتني وعدد من الزملاء إلى رحلة عمل لتفقد مشروعات البرنامج الإنمائي في عدد من مناطق ولاية البحر الأحمر, وسرعان ما استرعت انتباهنا جميعاً بحماستها الطاغية للعمل, واندماجها السريع في المجتمع السوداني الذي أحبت أهله بدرجة جعلتها تتحمل المصاعب كافة التي نعرفها لتقدم أفضل ما عندها لخدمة المواطنين, وتطورت علاقة مجموعتنا تلك معها إلى صلة صداقة وتواصل طوال أربع سنوات قضتها في السودان, وغادرته لتعمل مع المنظمة الدولية في العراق, ولكن الحنين قادها مرة آخرى لقبول تحدي الصعاب والعودة مرة آخرى للسودان في أغسطس 2013 لتعمل متحدثة رسمية باسم بعثة “يوناميد”.
ويبدو أن انحياز الدكتورة عائشة الذي خبرناه لبسطاء الناس من السودانيين, والإخلاص في خدمتهم من خلال خبرتها وعملها في المنظمة الدولية في مواقع مختلفة على مدار أكثرمن عقد من الزمان, أوقعها في تناقض كبير عندما حلت بالفاشر لتبدأ مهمتها بكل حماسة وتوثب لتكتشف خلال أسابيع قليلة أنها دخلت إلى عش الدبابير, وأن دورها سيتحول من التحدث عن حقائق الأوضاع الإنسانية الكارثية بسبب تفشي أنواع العنف كافة من الأطراف المختلفة التي يدفعها ثمنها مواطنو دارفور المغلوبون على أمرهم, إلى المشاركة في التستّر على حقيقة الوضع الذي يقوده بعض النافذين في البعثة الدولية المشتركة التي أرسلت بتفويض أساسي هو حماية المدنيين لتتحول من شاهدة بالحق, ليس إلى متفرجة على مأساتهم وحسب, بل كذلك متستّرة على الحقائق.
عندما جلست إلى الدكتورة عائشة عشية مغادرتها الخرطوم وسمعت منها بما يذهل عن خبايا وخفايا ما يدور في بعثة يوناميد وينافي مهمة تفويضها وهو الأمر الذي جعلها تستقيل, لم استغرب ما قالت فقد حدثتني بالوقائع والوثائق من شاهد من أهلها أكّد ما أوردته في مقال كنت نشرته قبلها أسابيع قليلة بعنوان “دارفور .. المأساة التي فضحت الجميع”, وكان مما ورد فيه ” عشر سنوات انقضت وجرح دارفور الأليم لا يزال ينزف، يقطر دماً وأسًى ويخلف مأساة لا أحد يعلم متى تنتهي، أو متى تنقضي عذابات ما لا يحصى من مواطنين ضعفاء لا حول لهم ولا قوة وقد أصبحوا وسيلة وأداة سهلة لتحقيق أجندة ومصالح أطراف محلية وإقليمية ودولية، يدفعون من أرواحهم ومن دمائهم ثمن أن تظل الحرب تجارة رابحة لسياسيين متعطشين للسلطة، بلا وازع من ضمير أو إنسانية. ولولا أنها أطراف متعددة مختلفة، ومتباينة الأجندة، لما ساور المرء شك أن هناك ثمة تواطؤ دولي وإقليمي ومحلي هو الذي أدخل، في حالة توافق فريدة وغريبة، أزمة دارفور في ثلاجة التجميد السياسي”.
وورد فيه أيضاً نصاً ” أما المجتمع الدولي والإقليمي، لا سيما كبار لاعبيه، فلعل مأساة دارفور فضحته بأكثر مما فعلت مع كل هذه الأطراف مجتمعة، فقد تمخَّضت كل تلك الضجة المثارة عن قضية دارفور عن جعجعة بلا طحين عشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة التي ثبت أنها لا حققت أمناً، ولا بسطت سلاماً، ولا فرضت عدلاً، عشر سنوات ومواطنو دارفور من المنكوبين يرون عشرات الآلاف من قوات حفظ سلام مزعوم لا وجود له أصلاً، عاجزة عن حماية نفسها، دعك من حماية من أرسلت لنجدتهم، أكثر من عشرة مليارات دولار أنفقت على مدار السنوات الماضية باسم الأمن والسلام في دارفور، وكانت النتيجة إبقاء نيران الحرب متقدة، تغير لون قبعات الجنود بعد جدل عقيم فتغير كل شيء إلى الأسوأ، تزداد معاناة المواطنين البسطاء فترتفع تصريحات المبعوثين الدوليين علواً، ويقدم الأمين العام للأمم المتحدة التقرير تلو التقرير حتى غدت مسألة دارفور مع كل الضجة التي رافقتها مجرد حدث بيروقراطي يعتاش باسمه الموظفون الدوليون”.
تحدث المجتمع الدولي عن أهمية تحقيق العدالة وحرك آليات المحكمة الجنائية الدولية ثم تبيَّن أنها لم تكن أكثر من مجرد وسيلة ضغط على النظام في الخرطوم تجعله أكثر طوعاً تحت طائلة الخضوع المستمر لمصالح ومآرب الدول الكبرى تحقق من خلالها أجندتها المتحركة بثمن زهيد لا يكلفها شيئاً “.
علّقت الدكتورة عائشة يومها على هذا المقال في رسالة “شكراً على المقال البليغ والتحليل الصائب لمحنة أهل دارفورالتي يتحمل مسؤوليتها الجميع بدون استثناء, وأرجو ألا تكون هذه الذكرى مجرد جعجعة إعلامية أخرى يعود العالم بعدها إلى صمته على هذه المأساة الإنسانية”.
ولكن ما حدثتني عنه عائشة يومها كان فوق توقعاتي كنت أظن أن فشل بعثة يوناميد يعود إلى عجز في أداء مهمتها لأسباب لوجستية, ولكن لم يدر بخلدي أبداً ان يكون وراء الأمر تستّر متعمّد, أوردت وقائع حول حوادث انتهاكات محددة تعرض لها المدنيون في بعض مناطق دارفور دون التدخل المفترض من حفظة السلام, وعندما لم تجد تفسيراً لذلك نقلت قلقها بهذا الشأن مع أحد قادة بعثة يوناميد أصيبت بصدمة عندما رد عليها اللواء “و. ك” مقللاً من شأن ما يحدث بقوله “على قوات يوناميد أحياناً أن تخفي الحقيقية, عليك أن تعرفي أنه يتعين علينا أحياناً أن نتعامل كدبلوماسيين”, ومضي ليضيف قائلاً “لا يمكننا قول كل ما نشاهده في دارفور”.
ومما روته عائشة تلك الحادثة الشهيرة التي التي تعرّض فيها مجموعة من النازحين كانوا في طريقهم إلى مؤتمر النازحين على متن ثلاث حافلات في موكب حراسة تابعة لبعثة يوناميد إلى الاختطاف من قبل إحدى المجموعات المسلحة التي يعج بها الإقليم, ففي مساء يوم 24 مارس 2013 استوقفت مجموعة مدججة بالأسلحة على متن شاحنتين الموكب واقتادت الحافلات الثلاث بركابها النازحين إلى معقل الحركة الرافضة لمحادثات السلام حيث أوسعتهم ضرباً ونهباً, المثير في الأمر أن قوات يوناميد المفترض بها حماية هؤلاء النازحين وقفوا يتفرجون على اختطاف النازحين المكلفين بحراستهم, فقد ذكر قائد قوة الحراسة الملازم (ب. ن) أمام لجنة تحقيق أنهم حاولوا منع المسلحين من اختطاف النازحين, غير أن سائقي الحافلات المخطوفة, وبعض النازحين المخطوفين الذي أطلق سراحهم لاحقاً أبلغوا لجنة التحقيق أن ما جرى بالفعل هو عملية تسليم وتسلم بين القوة المكلفة بحمايتهم والمجموعة المسلحة, وقال البعض أنهم شاهدوا بعض جنود يوناميد يؤدون التحية للمختطفين. كانت عملية الاختطاف الجماعي التي تعرض لها أولئك النازحون المشاركين في ذلك المؤتمر, التي تواطأت الأمم المتحدة في الصمت عليها ولم تكشف عن ملابساتها إعلامياً, قد شكلت ضربة مهينة أفصحت عن مدى تراجع بعثتها لحفظ السلام عن القيام بمهمتها في حماية مدنيين كانوا تحت حراسة جنودها.
ومن أخطر إفادات عائشة البصري ما ورد في تلك المرسلات المتبادلة على البريد الإلكتروني بينها والسيدة عايشاتو مينداوودو التي تولت قيادة البعثة لفترة انتقالية بين المبعوث السابق السيد قمباري والحالي السيد محمد بن شمباس, فقد أقرت بصورة خاصة أن المعلومات المتعلقة بالهجمات على المدنيين تتعرض للتلاعب والتحوير فيها بواسطة اثنين من الموظفين الدوليين التابعين للبعثة “اختطفا عملية كتابة تقرير يوناميد” على حد تعبيرها. أحدهما من جنسية إحدى الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وأضافت أن هناك “الكثير من الألعاب التي تجري من قبل أطراف لديها أجندة مختلفة تخدم أغراضاً لا هي من أجل تفويض يوناميد ولا من أجل مواطني دارفور”.
وروت الدكتورة البصري أن تقارير داخلية كشفت أن بعض الدول المشاركة في مد البعثة بالجنود والعتاد, خاصة من إفريقيا, تتربّح من ذلك بإرسال جنود غير مدربين, وبعتاد متهالك, في وقت أحجمت فيه الدول المقتدرة عن مدّ البعثة بالآليات والتجهيزات التي تساعد على أداء مهامها.
كانت هذه مجرد عينات لمعلومات موثقة كشفتها الدكتورة عائشة البصري عند لقائي بها في مثل هذه الأيام من العام الماضي عن خبايا وكواليس مجريات الأمور في البعثة المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي في دارفور, وآثرت عدم نشر وقائع هذه القضية المثيرة حينها نزولاً عند رغبتها من أجل المزيد من التحقق ورفع الأمر إلى الجهات المعنية والأجهزة المختصة في الأمم المتحدة قبل إطلاع الرأي العام الدولي والمحلي عليها, وها أنذا أنشر مقتطفات عامة من هذه القضية الخطيرة بعدما علمت من الدكتورة عائشة أن مجلة أمريكية ذائعة الصيت ستنشر في غضون أيام قليلة تحقيقاً مطولاً على ثلاث حلقات معتمدة على أكبر عملية تسريب لآلاف الوثائق السرية في تاريخ عمليات حفظ السلام الدولية, وتتضمن المراسلات الإلكترونية الداخلية لبعثة يوناميد, وتقارير شرطتها, والتحقيقات الداخلية, والبرقيات الدبلوماسية التي من شأنها تعضيد الاتهامات التي وجهتها للبعثة الدولية.
“من الإنصاف القول إن حفظة السلام في بعثة يوناميد فشلوا إلى درجة كبيرة في حماية المدنيين في دارفور, وأن وجودها لم يمنع الهجمات عليهم من قبل أطراف الصراع المختلفة” كانت هذه الكلمات من ضمن التقرير الذي قدمته عائشة البصري في ختام مهمتها بعد استقالتها احتجاجاً, واضافت “في بعض الأحيان يقفون عاجزين يتفرجون على الهجمات والاعتداءات على المدنيين, وبعضها يقع بالقرب من تمركز فرق يوناميد”.
والواقع الإنساني المأساوي الذي تعيشه دارفور اليوم يغني في الحقيقة عن آلاف الوثائق الفاضحة لهذا العجز والتواطؤ الذي تعرض له البسطاء من مواطني دارفور الذي عز عنهم النصير فلم يجدوه لا من بني جلدتهم، ولا من بني وطنهم، ولا من المجتمع الدولي الذي تبين ان كباره يتاجرون أيضاً بقضيتهم. فبعد ثمانية سنوات من نشر بعثة يوناميد, وصرف أكثر من اثني عشر مليار دولار عليها, ما هي النتيجة, تواصل القتل المجاني واتسع نطاقه, وتزايدت أعداد النازحين بمئات الآلاف, واضطرب الوضع على نحو غير مسبوق حتى بمعيار أيام الحرب لأول أمرها, صحيح أن الفرقاء السودانيون المحليون, في المركز وفي الإقليم, يتحملون المسؤولية بالدرجة الأولى عما يحدث, ولكن ذلك لا يبرر أن يواصل المجتمع الدولي إعطاء أمل كاذب لحماية المدنيين بالسماح لاستمرار بعثة يوناميد بعد كل هذا الفشل الذي لا يحتاج إلى دليل, وكل هذه الأموال المهولة التي أنفقت على البعثة.