لا ترتبط مشكلة الإعلام في السودان بالأزمة القائمة في البلاد منذ انفجارها, بل هي مشكلة عميقة وقائمة قبل الأزمة, ولها تجسيداتها في البعدين الداخلي والخارجي. و أساس الأزمة أن الإعلام لا يتوافق بطبيعته مع مضمون نظام استبدادي- أمني مغلق, يمثل الإعلام مشكلة ماثلة في توجهاته وفي سياساته وممارساته, وهو ما جعل الإعلام السوداني أسير مواصفات ومسارات عملية لم تتغير منذ تولي حزب المؤتمر الوطني زمام السلطة بانقلابه المشؤوم 1989.
إذن, هو إعلام تنظيري و تبريري لا يتعدي في تنظيره و تبريره محتويات و مواقف النظام الذي يديره. وبسبب من طبيعة النظام ودور الإعلام فيه, فقد تم إحكام القبضة علي الإعلام المملوك في أغلبه للدولة
, كما تم خلق آليات ضبط الإعلام القطاع الخاص الذي ولد من رحم الإعلام الرسمي وعلي أرضيته السياسية والمهنية, وهو ما يفسر توافقات الأداء المشترك في ظل الأزمة, وخاصة لجهة تبني سياسات ومواقف النظام حيال الأزمة القائمة سواء في أسبابها أو في احتمالاتها أو في أفاق حلها, التي يمكن اختصارها باعتبار الأزمة أمنية, وأن حلها أمني حتي لو استعان الحل بخطوات سياسية.
إن جوهر العلاقة بين النظام والإعلام, يفرض مستوي محددا وأنماطا معينة من علاقات النظام بالإعلام الخارجي.. إذ هي علاقات تميل إلي الاستبعاد في الأصل, وعندما يتم تجاوز ذلك, فيكون المسعي نحو الإخضاع والسيطرة, وفي الأبعد من ذلك, فإن العلاقة عدائية, حيث ينظر النظام الي وسائل الإعلام الخارجية, التي لا تتوافق مع توجهاته, باعتبارها عدوا, أو هي أداة بيد الأعداء.
لقد تركت الأزمة السودانية بصماتها الثقيلة علي السياسة الإعلامية للنظام, ليس في تحشيد إعلامه وضبطه بأعلي درجات الانضباط, بل تجاوزتها الي إغلاق الفتحات المحدودة والمسارات القليلة التي كان قد تم فتحها مع الإعلام الخارجي في الفترة الأخيرة, وجاء في سياق منع وتقييد تأثير الإعلام الخارجي علي السودانيين, وفي هذا تعددت الإجراءات, وبينها منع مزيد من الإعلاميين والمطبوعات من دخول البلاد, والتشويش علي استقبال محطات إذاعة وتلفزيون, وحظر مزيد من المواقع علي الانترنت, وأضيف الي ذلك تقييد او عدم نشاط مراسلي وسائل الإعلام الخارجية سواء في التحرك او الكتابة, والتشدد في منح تراخيص وأذونات المراسلين الوافدين, ومنع دخول او تجديد فترات اقامتهم في السودان, ثم اتباع سياسات قمعية ضد الإعلاميين, تبدأ من التضيق اللفظي ثم الطرد, وقد تصل الي الاعتقال الذي يسبق الطرد, وتشمل هذه السلسلة عمليات تحريض ضد وسائل وشخصيات إعلامية سودانية وأجنبية .. والقائمة في هذا طويلة وبعض تفاصيلها معروفة. وفي غالب الحالات السابقة, يتم وضع قوائم سوداء تتضمن أسماء إعلاميين ومؤسسات إعلامية يمنع التعامل معها او استقبالها ويحظر التعاطي معها في السودان.
وكان من الطبيعي في ظل السياسة الإعلامية, التي اتبعها النظام الكبتي, ان يندفع المعارضون والثوريون السودانيون الي خلق نظام إعلامي مختلف متوافق مع الحراك الثوري المدني والعسكري وأهدافه, واستفاد السودانيون مما توفره تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في نظامهم الجديد, فخلقوا المراسل والصحافي والناشر الشعبي قليل التكاليف والحاضر في قلب الحدث, وطوروا مواقعا وصحفا علي الانترنت, إضافة الي التواصل المباشر والضمني مع وسائل الإعلام الخارجية, ويشارك في هذه التجربة الجديدة والمميزة علي الصعيد العالمي أفراد وهيئات في الحراك الثوري المسلحة واحزاب سياسية معارضة في أداء يمكن القول انه كان تجربة مميزة, تمثل النافذة الأهم في الكشف عما شهدته السودان من أحداث في السنوات العشرة الماضية بصوت وصورة معا, إضافة الي أنها مثلت خرقا قاسيا أكيدا للسياسة الإعلامية التي اتبعها النظام القمعي, وهو ما يفسر القسوة الشديدة التي مارستها السلطات واجهزتها الأمنية القمعية في تعاملها مع مصوري الأحداث, والذين ينشرونها والمضطلعين علي هذا الإعلام والذين يلقي القبض عليهم ويسجنون بتهم قاسية, وبعضهم يتم اعدامه ميدانيا من جانب الرباطة, كما حصل في هبة سبتمبر الماضي وغيرها.
تهيمن الاجهزة الأمنية علي كل وسائل الإعلام السوداني الرسمية والحرة, فوزارة الثقافة والإعلام كانت وما زالت لا تعرف شيئا عما يحصل في البلاد عن الإعلام. ورغم ان في الفترة الأخيرة هناك توجيهات من رئيس الجمهورية عن حرية التعبير وغيرها , ولكنها أكذوبة حقيقية, لم يتغير الكثير في سياسة السلطات في التعامل مع الإعلام وممثليه, كلها حيثيات وتفاصيل تكشف عن اعماق مشكلة الإعلام والنظام الاستبدادي, وخاصة في ظل الأزمة السودانية الراهنة.
احمد قارديا خميس
[email protected]