ألا يعلم الطيب مصطفى أن الناس يحترمون الكافر ولا يحترمون المنافق
فى عام 2006 كتب يان برونك، مبعوث الأمم المتحدة للسودان، فى مدونته الإسفيرية عن هزائم تلقاها جيش الإنقاذ فى دارفور فهاج حكام الخرطوم وماجوا وقاموا بطرد المبعوث الدولى دون تفكير وتروى، فالرجل إرتكب أم الكبائر (الحديث عن هزائم الجيش الذى يقوم حكم الإنقاذ على إستغفاله وإستغلاله) فهزائمه تتحول (بقدرة قادر) فى وسائل الإعلام إلى إنتصارات عظيمة وإنسحابات حكيمة.
لكن فور وصول يان برونك إلى نيويورك عقد مجلس الأمن جلسة مغلقة، خرج بعدها ليوجه إنذاراً لحكام الخرطوم لم يفصح لوسائل الإعلام عن محتواه. واذا بأهل الإنقاذ يرضخون صاغرين، ويتم الإعلان فى نيويورك أن برونك سيعود لمزاولة عمله فى الخرطوم وكأن شيئاً لم يكن. ألجمت الدهشة العالم وفى مقدمتهم شعب السودان المسكين عندما سمع حكامه يقولون أن برونك سيعود (ليلملم أغراضه).
وعندما تحول موضوع (لملمة الأغراض) إلى مضحكة، تطوع لرفع الحرج عن الأشاوس المنكسرين، أحد زعماء الأخوان المسلمين، هو الصادق عبدالله عبدالماجد، فكتب فى عموده بصحيفة أخبار اليوم (أن يان برونك سيعود إلى السودان ليبقى تحت الإقامة الجبرية).
شيخ طاعن فى السن مثل الصادق عبدالله عبدالماجد، تجاوز العشر التى قال الزمخشرى إن العرب تسميها دقاقة الرقاب، كان الأحرى به أن يكون صادقاً مع نفسه قبل أن يصدق مع الآخرين، لا أن يسير فى ركب الكذابين والمنافقين، فيبيع دينه بدنيا غيره، لكن من شب على شئ شاب عليه، ومن إستمرأ الكذب مات عليه.
صباح الأربعاء 18 نوفمبر 2009 طالعنا الأستاذ الطيب مصطفى بأحدث زفراته، مقال عن مباراة مصر والجزائر إختار له عنوان (الحاقدون) جمع فيه بين الفرح والتهليل والشتائم والمواعظ، داعياً أهل الإنقاذ لإستغلال الحدث ليزيلوا من ذاكرة الشعوب ما علق بها من جرائم التطهير العرقى فى دارفور، والتى يصفها الطيب مصطفى ب (الصورة البشعة التي رسمها الإعلام العالمي المعادي عن السودان عبر مناضلي الفنادق والانترنت في اوروبا وامريكا وسادتهم من صهاينة وصليبيين).
لكن فى غمرة فرحته بالحدث نسى الطيب مصطفى أن يحدد لنا إن كان من وصمهم (بالحاقدين) هم هذه الفئات التى حمّلها وزر قضية دارفور، أم هم أهل الجزائر، أم السودانيين الذين أختاروا أن يشجعوا الجزائريين.
ما يدهش حقاً فى مقال (الحاقدون) هو قلق الطيب مصطفى من أن يميل السودانيون كل الميل ويشجعوا فريق الجزائر لأن ذلك، على حد قوله، ستكون له آثار سلبية على علاقة من وصفهما بالشعبين الجارين (مصر والسودان) وعلى السودانيين المقيمين فى مصر والعكس.
لم أكن أعلم أن الأستاذ الطيب مصطفى يعبأ بعلاقة (الشعبين الجارين) ولا بالسودانيين المشردين فى مصر أو أى مكان آخر، ولم أقرأ له يوماً كلمة واحدة يشفق فيها لحال سودانى اصابته مصيبة فى أى ركن من أركان الأرض، لا الذين قتلوا فى ميدان مصطفى محمود، ولا الذين يقتلون كل يوم وهم يحاولون عبور الحدود من مصر إلى إسرائيل، ولا الذين يموتون غرقاً فى البحر المتوسط مغامرين بحياتهم للوصول إلى أوربا. فهو لا يكتب عن مآسى السودانيين الا اذا أراد توظيف الحدث لأغراضه السياسية، مثل إستغلاله لبعض الأحداث الإنسانية فى الهجوم على الحركة الشعبية أو على ليبيا (بسبب دعمها لبعض الحركات). ولم تجود قريحته يوماً بكلمة عن الظلم فى السودان، أو قتل الأبرياء فى معتقلات الشرطة، أو الإعتداء على المال العام، أو الفساد، أو سوء الخدمات.
أما الملايين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ليعيشوا فى معسكرات النزوح فى دارفور، يدخلون عامهم السابع، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، تطعمهم دول الغرب، وتحرسهم قوات دولية، فهم فى نظر الطيب مصطفى جناة وليسوا ضحايا، وقد نصح أهل الإنقاذ بإخراجهم عنوة من المعسكرات (وتشتيتهم فى الأرض)، وبذلك تنتهى مشكلة ابن أخته فى دارفور. فهاجس الطيب مصطفى الأول والأخير هو الزود عن حياض الإنقاذ، والذَب عن ابن أخته وإعلان الحرب على كل من يهدد سلطانه ويهز أركان عرشه، حتى وإن كان ذلك ببث الكراهية وإثارة النعرات العرقية وتمزيق البلاد وإهلاك العباد.
للعواجيز فى كردفان دعوة جميلة يقلن (لا تمحنا ولا تبلينا) البلايا معروفة لأهل السودان فقد صاحبتهم طوال تاريخهم، لكن المحن لا يميزها الناس عادة من غيرها من الخطوب.
لا توجد محنة اليوم أشد من التى يعيش فيها عمر البشير (الحاكم الوحيد فى العالم المطلوب للمحكمة الدولية) والذى ظن أن إستسلامه لأمريكا بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 ورضوخه لرغباتها وتعاونه مع السى آى ايه فى حربها ضد الحركات الإسلامية سيعطيه بالمقابل ضوءاً أخضراً ليبقى فى السلطة مدى الحياة، وفى سبيل ذلك له كامل الحق أن يفعل بالشعب السودانى ما يشاء من قتل وتنكيل.
لكن حرب التطهير العرقى التى شناها على الأبرياء فى دارفور، بعد هجوم الثوار على مطار الفاشر، لم تترك لحلفائه فى الغرب حجة لغض الطرف عن أفعاله، فإعتبروه (خارج القسمة) على أن يستمر النظام بما يتبقى من الطغمة (فأمريكا لا صداقة لها ولا عهد ولا خِلة … لها فقط مصالح).
حالة المحنة أيضاً يعيش فيها شيعة البشير الذين أعيتهم الحيلة فى البحث له عن مخرج. فالأستاذ الطيب مصطفى وفريقه فى صحيفة (الإنتباهة) ظنوا فى بادئ الأمر أن مشكلة البشير هى الجنوب، فمتى ما إنفصل عن الشمال دانت له البقية. لكن الرياح تجرى بما لا تشتهى السفن، فالجنوب لن ينفصل بجراحة مريحة، ولا بقية مهمشى السودان ستضع السلاح وترضى بحكم المشير، فحاله حال مروان الحمار آخر خلفاء بى أمية (لقب بالحمار لأنه كان لا يجف له لبد فى محاربة الخارجين عليه).
مروان الحمار كان فارساً مغواراً ، قال السيوطى (كان مروان يصل السير بالسير ويصبر على مكاره الحرب)، يخوض الحروب بنفسه، ويعول فقط على سيفه وترسه، إلى أن قتله بنو العباس فى معركة بُوصير. أما البشير فعول على الإستسلام لمصر وأمريكا والمناورة عليهما والإستنصار بهما فى محاربه شعبه. لكن أصابته دعوات المظلومين وهزمت هِمّم شيوخه الموالين، فأتاه الله من حيث لا يحتسب، وإنقلب السحر على الساحر، ودارت عليه الدوائر.
وصدر من المحكمة الدولية (دون سابق إنذار) أمر القبض على البشير. فقض مضجع المسكين وشيعته. وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فلجأوا كعادتهم لحسنى مبارك، ظناً منهم أنه محظى الغرب ومُدلّل أمريكا بسبب الدور الموكول إليه فى قضية فلسطين، آملين أن يدرأ عن المشير مذكرة المحكمة الدولية. لكن خابت آمالهم، وكان حالهم حال المستجير من الرمضاء بالنار.
فوجّه الطيب مصطفى زفراته نحو مصر، مثل التنين فى الميثلوجيا الصينية الذى يزفر النار من أنفه وفمه، لا يميز فى مصر بين الحاكم والمحكوم، ولا الفرعون الباطش والشعب المقهور. وعندما ضاق أهل الحكم فى مصر بكلماته وشكوا لأولياء أمره من زفراته، أجابوهم بأن الصحافة فى السودان حرة وليس فى وسعهم فعل شئ.
قامت الصحفية النجيبة رفيدة يسن بإستطلاع آراء بعض المعارضين ونشرتها فى تقرير فى صحيفة (الطريق) المصرية ضحدت فيه فرية حرية صحافة الخرطوم، فمقص الرقابة القبلية كان يطال كل الصحف ما عدا الإنتباهة.
عندما ذهب البشير إلى قمة الدوحة وعاد بعد تبديل الطائرة فى مطار جدة وإعلان كذبة نيته أداء العمرة، لم يتمالك الطيب مصطفى أعصابه وظن أن ابن أخته قد تخلص من أمر القبض وأنهى قضية المحكمة. فكتب مقاله (بين الرجال واشباه الرجال) الذى كال فيه الشتائم لمصر وحكامها وقال فيهم مالم يقله الظواهرى ولا عمر عبدالرحمن ولا مشجعو الكرة الجزائريين.
لكن بعد فشل البشير فى السفر الى تركيا إثر التهديد الذى نقله إليه المصريون بأنها ستكون خاتمة المطاف، وخيبة العودة من شرم الشيخ بخفى حنين، أدركت شهرزاد الصباح، وسكتت عن الشتائم والسُباب المباح.
فى عام 2006 عندما أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1706 القاضى بإرسال قوات الأمم المتحدة إلى دارفور، رغى البشير وأزبد، وأقسم وتوعد، وقال انه يفضل أن يكون قائداً للمقاومة فى دارفور من أن يكون رئيساً لدولة محتلة. وقال وزير دفاعه ان باطن الأرض سيكون خير من ظاهرها. لكن كالعادة لم تمضى الأيام الا وخمد الغضب، وتبخر القسم، ولم يتحقق الوعيد. و حطت قوات الأمم المتحدة رِكابها فى دارفور آمنة مطمئنة. ولا يزال ظاهر الأرض خير من باطنها.
قبل أن يُنزّل العلمان البريطانى والمصرى من سرايا الحاكم العام فى يناير عام 1956 لم يكن فى السودان سوى بضع مئات من الجنود البريطانيين و قرابة الألف من الأجانب الإداريين. اليوم (وبحمد الله) فى عهد (التمكين) يوجد فى السودان عشرات الآلاف من القوات الأجنبية، منتشرون من دارفور الى الجنوب الى جبال النوبة الى النيل الأزرق الى أبيىّ الى الخرطوم. كما توجد عشرات المنظمات الطوعية فى طول البلاد وعرضها تقدم للمواطنين الخدمات الأساسية من إغاثة وعلاج وتدريب وتعليم.
قبل أسبوع وافق حكام الخرطوم (فرحين مهللين) على مقترح لجنة امبيكى بإشراك قضاة أجانب فى المحاكم السودانية، وأخذوا يفسرون إيجابيات المقترح الأفريقى (الحكيم) الذى بُنىّ أساساً على عدم أهلية القضاء السودان الحالى وعدم إستقلاله.
ما يسمى بالإحصاء السكانى تم على نفقة دول الإستكبار. والإنتخابات التى يجرى الإعداد لها حالياً تتم أيضاً على نفقة دول الإستهداف والإستكبار. فأموال الشعب من نفط وضرائب وزكاة تنفق فى حفظ الأمن وعقد المؤتمرات وإيفاد البعثات، وبناء الفلل الرئاسية، وشراء اليخوت الرئاسية والطائرات الرئاسية، والسيارات لفرق الكرة المصرية، وعلاج الولاة والوزراء والمحاسيب والسكرتيرات وأسرهم فى الخارج وتعليم ابنائهم فى أمريكا وبريطانيا وماليزيا.
كان المبعوث الأمريكى للسودان فى بادئ الأمر يزور البلاد يومين وثلاثة، لكن جنرال غريشين أصبح اليوم مقيماً بصورة رسمية فى السودان. كان يأتى بصحبة مرافقين، فأصبح اليوم له فريق يكثر كل يوم ويزيد. لهم مكاتب وعربات، وقوة حراسة وطائرات. يذهب أينما شاء، اليوم فى الخرطوم وغداً فى جوبا ومبعوثه فى جبل مرة، يلتقى من يريد، متى ما يريد وأينما يريد، حكام ومعارضين، كتاب وصحفيين، زعماء عشائر وضباط سابقين. يُقرب بين الشريكين، ويُصلح بين المتخاصمين. يجمع حركات دارفور فى ليبيا وأديس ابابا ويصحبهم فى طائرته الى الدوحة. هو كبير القوم، مقبول الشفاعة (مجبور الخاطر) تُفتح له الأبواب وتُذلل له الصعاب، فيه الأمل وعليه التكلان، تستقبله البسمات وتصحبه الدعوات وتعلو من ورائه صيحات التكبير والتهليل.
أما قول السيدة كلينتون أن مبوعثها لن يتعامل مع البشير ولن يلتقيه لأنه مطلوب من قِبل المحكمة الدولية، فهو قول (مبلوع) فالمشير قد إبتلع من قبل الكثير حتى اصبح مثل حيدر قطامة يبتلع الحجارة والحديد.
ربما لا يعلم كثير من الأجيال الحديثة كيف تم وضع فلسطين عام 1922 تحت الإنتداب البريطانى، وكيف قُسّمت فيما بعد فأعطيت الضفة للأردن وغزة لمصر والبقية قامت عليها الدولة العبرية، ثلاثتهم كانوا راضِين بالعطيّة (وما قيل بعد ذلك كله كذب ونفاق)، ذلك لم يكلف حروب ولا غزوات، ولا سفك دماءٍ وثارات. فطواه الزمن وصار نسياً منسياً.
البشير يسافر يجوب البلاد يضع أحجار الأساس. فتعليمات القصر تقول أخطرونا كلما تم بناء غرفة أو زنك خضار أو (مزيرة)، لكى نضع عليها شريط يقصه البشير، ويهز عصاه ويرقص و(يكشر) ويخاطب الجماهير. فهو لا يزال الرئيس.
هاشم بدرالدين
20 نوفمبر2009
بريطانيا