.
أضاف شهر يناير لقوامة السودانيين النيئة على موطنهم ثمة حزن جديد فوق “أحزاني العديدة” كما يغني الهادي الجبل، وهو ليس ببعيد عن محمودنا الصغير. تأثيرا فنيا عليه، وقربا منه، وتفضيلا له عن كل صحبته في حوض المغنواتية، والفنانين، وحملة الكمنجة، والضاربين على البنقز. والحزن مرار الدم في الفؤاد حين يرتبط بموت عزيز ملون للحياة بريشة روحه. وأينا أهمه التحازن مليا آن رحيل الروح التي تهدهد مزعة القلب، وترطب زحم العقل، قضم كرها من عمر سعادته قيراطات. وما في مخيال تعابير الحزن المعاصرة تغريدا أكثر من شكية بدر شاكر السياب الوجودية من غدر فيزياء الموت، إن لم يكن من ملك الموت ذاته:
كم يمضّ الفؤاد أن يصبح الإنسان
صيدا لرمية الصياد
مثل أيّ الظباء أيّ العصافير ضعيفا
قابعا في ارتعادة الخوف يختضّ
ارتياعا لأن ظلا مخفيا
يرتمي ثمّ يرتمي في اتّئاد
ثعلب الموت فارس الموت عزرائيل يدنو و يشحذ
النصل
آه منه آه يصكّ أسنانه الجوعى
و يرنو مهددا يا إلهي
إنما الحزن المرتبط بفقد عقدنا “الينايري” المنضوض (محمود الحوت، أو حودة، ومحمود الكبير، وأستاذنا مصطفى البار بست الجيل)، هو بالمقابل ظاهرة إنسانية ضرورية لأنها تفرغ ما في ذاكرتنا من تعبير تجيش، فيضه يدمي المآقي، ويجلب الكدر. ويا للحزن الذي يغمر النفس فيطرحها صرعى لشكاياها منه. وما تلطم وثكل النساء، وجهش الرجال الشيوخ بالبكاء إلا لجور سلطان الحزن عليهم عند الموت الذي يختار الجياد، وأي جياد للرهان يمض فؤادنا كما تمضت شاعر الحداثة الشعرية زائرة الحزن التي تميد في سحابة العمر، فتعصر ضلوع لحظه.
وكان ذلك الحزن الجهيد هو كسب القوم الذي فجع قسم منه بوفاة الفنان محمود عبد العزيز يوم تلاقت ذاكرات موت الأستاذين العطرات بالهوى، كما أشعر محمد محمد علي ولحن برعي وغنى ابو داؤود. وما أجمل قريض الأستاذ محمد علي الذي حفر، هو كذلك، سنان مخياله في الحزن الملتاع، فليتنا درسنا ثقله على صور حياتنا:
عربدت بى هاجسات الشوق إذ طال النوى وتوالت ذكرياتى عطرات بالهوى
كان لى فى عالم الغيب غرام و أنطوى كان لى فى الأمس أحلام وشوق وحبيب
كان للجرح طبيب … لا يدانيه طبيب
وحزني على محمود أمض فؤادي قبلكم يا أيها الشاكون من خروج الحوت عن بحره الخاص إليكم. لم يهزمه بحره ذي الشعاب الثائرة، والمرجان الحرون، والأرخبيل البستان، ولكن هزمته جيولوجيا بركم الذي لم يتنفس فيه. ولذلك مات الحوت..مات وكمامة الاوكسجين تتدلى من فوق وجهه الصبوح أصلا.
إذن كان حزننا على حياته، لا على مماته فحسب. فقد حزنت عليه كثيرا آن كان الشباب يسعدون به، كوني رأيت أن مناخات شعرية كثيرة ولحنية لم يسعد صوته بها، وتسعد. لقد كنت في فترة قريبا منه، وضمنا وادي الخوف عليه من المؤثرات العامة والخاصة التي من حوله فأردت وسامة روحه الفنية قتيلة في محفل المأساة السودانية، وإلى ذلك فصلتنا الغربة فصلا ذميما، فهي مقصلة الصحاب الحادة.
حزنت لمحمود قبلا حين حاولنا، ربما عابثين، لنكون استنصارا له بحيلة أمانينا. كنا ثلة من الأصدقاء. الراحل البروف فيصل مكي، مقدم الصلات الطيبة، والملحن المحامي هاشم عبد السلام، الذي قدم له ألحانا شجية، وزميله في جنة الأطفال الصحفي عبد الباقي خالد عبيد. هدفنا أن نشكل فريقا يحسب في صرة لقائه بعض عش دافئ لمحمود في ساحة كانت تحتاج لمن يفجرها باللحن، ويبشر فيها بغصن الكلم الرطيب، والأداء المختلف. تجاوب معنا وجلس محمود بوجههه الطفولي، وعيونه المحدقة، وحزنه الشرود الدفين، وسمته الخجول، وحياء ما رأيته في نجومية أترابه. في خميلة منزل الراحل فيصل تعارفنا، وزاد هاشم عبد السلام بأن أتى بعوده وأسمعه (عمري) ووافق محمود على أداء الأغنية وتحولت الجلسة بعد كلام هنا وهناك إلى بروفة. وظل الملحن هاشم يسمعه اللحن مرات ومرات وبعد فترة وجيزة طلعت الأغنية فتلقفها الشباب في النصف الأول من التسعينات:
عمري أعدو بالساعات عشان خاطر مواعيدك
أماني اللقيا في عيوني متين القاك واضم إيدك
وحتى عيوني يا غالي بقت ولهانة بتريدك
ثم كتبت عنه مرة مشجعا في وسط انتقادات حادة وجدها في وقت كان الشباب لا يعرفون صليحا مغنيا لهم غير مصطفى سيد أحمد وكان يسيطر على تلك الأوان على جماهيرية الشباب المتفتح ذهنه وسط زحام التمكين. آنئذ كان كثير من النقد الذي كتبه زملاء الصحافة وفي خلفية تفكيرهم الفنان مصطفى. مقالي جاء بعكس تلك الكتابات وأشرت إلى استثنائية صوته وأدائه وسط جوقة من أترابه مغنيي جيله الذين أنجبهم جوف التسعينات الحار على الغناء. كان هناك الجيلي الشيخ وعصام محمد نور وأسامة الشيخ ووليد زاكي الدين. قرأ محمود المقال وبعدها قصد أن يناقشني حوله. وبوسيط إلتقينا في استديو الجزيرة فجادلني وجادلته
ثم تفرغنا. نلتقي مرات في شركة حصاد التي أوقدته إلى روسيا ليجلب لنا من الفاتح حسين (سكت الرباب). ناوشته المشاغل والحفلات وجاءت الغربة لتقيم بيننا. وتابعته يشق طريقه بأعمال لملحنين كثر حفروا في أخدود حنجرته أنغاما للشباب الذي أبكاه موته مر البكاء.
-2-
أما محمود الأستاذ الشهيد فقد تكاثفت الكتابات والقصائد هذا العام لتمجد شخصه، وفكره، واجتراحاته، وبلاده قد تركها لنائبات الإسلام السياسي في أوج حيرتها وتخثرها. وكأنه روح الإسلام كلما تقادمت السنون تعرف الناس عليه أكثر، وبانت اهمية اجتهاده، وتراجع أعداؤه ذوي السطوة السياسية والدينية. ففكرته الجمهورية تتمدد في ظل انحسار فكر جلاديه الذين أعادوا بهوسهم الذي حذر منه البلاد إلى الوراء حتى أن بعضهم تمنى فقط لو أن تعود البلاد إلى غداة الاستقلال. ويا له من مسخ مجتمعي يتجذر في ثقافتنا التي لا بد أنها تجيب ضمنيا على سؤال الطيب صالح الشهير. فالبلاد ما تزال متوطنة في كفرها بتعددها الخلاق، والانتهاز السياسي هو دستور سياسييها، إلا من رحم ربي. وكيف لا وموروثها ما يزال يضرب شسوع المناطق.
وقلنا من قبل إن “وعي الأستاذ محمود حاضراً، فلم يتدجّن بكل القراءات التي مارسها في سبيله لاستنباط المنهج السياسي السودانوي الذي به يناضل والسلوك الذي بواسطته يعرف. لم تغرقه بلاغة اللغة في مخاطبة الجماهير أو يقعرها آن يكتب، وإنما تحدّث بالمفردات التي يفهمها العامة، وكتب بالسهل الممتنع الذي يبين ويتعمّق. ووجدناه لم يتأثر بمناخ كلية غردون كما حدث التأثر هذا مع أترابه، ومن ثم يحترف لبس البذلات وإنما حافظ على لباس من الدمور ليدل على زهده، ولم يتنافس مع زملاء له من مهندسين وبقية أفندية وقتها في بناء القصور كما يفعل الآن قتلته وإنما تواضع لله فعاش سودانياً كريماً في منزل من «الجالوص» ولم يهرب من مجاورة عامة الناس إلى «الأحياء الثرية» التي هرب إليها قضاته. ولم يبرح وطنه هرباً من بطش أو خوفاً من ديكتاتور، وإنما تسمّر حضوره بين أهله وتلاميذه فعانى ما عانوه وشقى بما شقوا. كان يأكل من غالب طعام الشعب، وليس مثل من استمتعوا برؤية مشهد جثته تتدلى والابتسامة الساخرة كأنها تغفر لهم جهلهم، هؤلاء الذين تمتلئ ثلاجات منازلهم بما لذ وطاب من طعام، وكان في «برندته» يستقبل ضيوفه ومن بينهم تلاميذه الذين يجلسون على الأرض، فيما وجدنا أن قتلته لا يرتضون إلا بقصور تمتلئ بالثريات ومرفقة بأحواض للسباحة.
كان ذلك هو الرمز السودانوي محمود محمد طه الذي عاش عمره فقيراً من جاه أو مال أو حاشية أو زبانية أو منصب حكومي ولا تعرف له بعض بواخر تجوب عرض البحار، بل ولا يعرف له حظ في البورصة الدولية كما هو شأن الذين كفّروه وكادت ضغينتهم تجاهه أن تصلبه. هذه هي السودانوية التي تبحث عنها الجماهير عند زعمائنا السياسيين فلا يجدونها، فكيف إذاً، لا نصبر على بؤس الحال وشقاء المآل.
-3-
وهكذا تتلاقى الذكريات العطرات في العام القادم بذكرى مصطفى الفنان الذي كان أقنوما سودانيا مورقا بالكلم واللحن والأداء والسيرة النبيلة. ذهب أيضا وهو عمر محمود بعد أن أروى الشباب من روحه الشفيفة التي تقطر عسل المحبة لبلاده، وفنه، وشخصه. فقدناه في شبابنا وما نزال، ونحن نخطو في العمر، نراه النبراس الذي أضاء لنا مناطق جميلة في تراثنا الغنائي بصوته، ومواقفه التي عبرت عن صموده أمام المرض وسلطات الدمار الاجتماعي.
تركنا مصطفى الذي قلنا عنه قبلا إنه لا بد قد “جدد الفهم حول العملية الغنائية. وكذلك جدد فهم الفنان لعلاقته بمحيطه المجتمعي. فالغناء مدارس ذوق، والفنانون أنواع. ومع ذلك، لا يقلل من قيمة الفنان إن كانت تهدف إلى منهج الفن من أجل الفن. ولكن بالمقابل ما يعلى قيمة الفنان أكثر هو بذل مجهوده الفني للفن، والناس كذلك. ويجدر ذكره أنه لا تبقى في خاتم المطاف إلا القيمة الفنية أكثر من الآيديلوجية، هذا إذا كان منهج التقييم للظواهر الفنية يستند على منهج النقد الفني، وليس الآيديلوجي، أو السياسي مثلا. ولكن مصطفى سيد أحمد لم يكن نصا شعريا فحسب، فهو في الأساس ذات فنية امتلكت أولا ذائقة نقدية لتخير خرائد الشعر. ويكون من الظلم الكبير أن يرى البعض أن الأقوى في تجربته الشعرية هو النص فقط، على ما في نصوصه من دور كبير في إثراء غنائيته. فقوة الفنان الراحل، أولا، في منظوره الثاقب الذي حدد شكل العملية الغنائية، وما ينبغي أن تكون عليه. وتتمثل عناصر القوة الفرعية في قراءاته، ووعيه بصراع الآيديلوجيا، ومبدأيته في الوقوف ضد سلطات العمل الغنائي من شعراء تقليديين، وعازفين، وإعلاميين. ولا ندري إلى أي مدى كان يمكن أن ينتهي إليه تاريخ الفنان لو أن قد قدم تنازلا في بدء تجربته لهذه السلطات التي فرضت على شعريته حصارا. والحقيقة أن هناك كثيرا من المبدعين الذين حوربوا، وأجبروا على إتباع المألوف. فمنهم من توقف، ومنهم من انتهى إلى مجرد مغن وكفى. ولعله من هنا تستبين عناصر القوة في تجربة مصطفى. فروحه العنيدة في عدم مسايرة التيار هي التي قادتنا إلى الكيفية التي لحن بها مريم الأخرى، أو عم عبد الرحيم، أو عباد الشمس. وبأي حال من الأحوال ليس هناك من شئ يقلل من قيمة الفنان إلا تخليه عن ما قنع بأنه السبيل الوحيد لتطوير ذاته الفنية، وتخصيب المرحلة الفنية التي عاش في خضمها..”
salah shuaib [[email protected]]بقلم: صلاح شعيب