آخِر ما أوصى به نميري الشعب السوداني فما الذي سيوصِيهم به البشير ؟
{ وحقيق للملك، إذ كان الراعي، أن يرحم رعيته؛ وإذ كان الإمام، أن يرق على المؤتم به، وإذ كان المولى، أن يرحم عبده.}
من كتاب التاج في أخلاق الملوك ـ للجاحظ
لم يحكم السودان إن لم نقل أفريقياً رجل في قوة وأبهة وحيوية الرئيس الراحل جعفر نميري ـ في زمانه ـ فقد كان مثالاً نادراً للجندي المحترف قولاً وعملاً , شهد له بذلك الأعداء والأصدقاء على السواء , فرغم اختلافك معه تجد نفسك مضطراً للاعتراف له بقدراته الخارقة التي كان يتميز بها في العديد من مكونات شخصيته المريبة التي جرّبت كل الممكنات طوال سنوات حكمه الستة عشر ألا رحمه الله , رحل نميري وترك الكثير من بصماته الإيجابية في العديد من بقاع الأرض والتي ربما شفعت له وأضافت إلى ميزان حسناته من باب عمل صالح ينتفع به وإن كان الشعب السوداني هو الراعي الحقيقي لتلك الأعمال لكن كما يقولون دائماً ” الخيل تجقلب والشكر لحماد ” , فحينما زار الرجل العاصمة التشادية أنجمينا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ويبدو أنه قد طِيف به في شوارعها الترابية وحينما لم يلحظ متراً واحداً مسفلتاً كان له الفضل في أن يكون أول من أدخل الطرق المسفلتة إلى العاصمة الشادية ” شارع نميري ـ من أشهر شوارع أنجمينا ” بل كان الشارع الوحيد على امتداد سنوات حتى بدأت البلد بعد ذلك تعرف معنى تعبيد الطرق , ثم مدرسة نميري أو الصداقة السودانية الشادية والتي تخرج فيها معظم القيادات الفاعلة من أبناء وبنات شاد الناطقين باللغة العربية والتي تقف شاهداً حتى تاريخه , أشجار النيم لأجل الظل بالمشاعر المقدسة بمكة المكرمة وغيرها الكثير كل هذه أعمال تدل على روح المبادرة والثورة التي كانت تسم شخصية الرجل , وأخيراً على هامش ذكر الحسنات والإعجاب الذي كان يلقاه الرجل فقد قابلت قبل أكثر من عشر سنوات بمدينة مايدوغري ” عاصمة ولاية برنو ـ نيجيريا ” رجلاً نيجيرياً من ذوي الأصول العربية ناهز الستين من العمر وكان حينها جندياً بالمعاش وهو أحد الجنود الذين خاضوا حرب بيافرا ونشأت بيننا صداقة برغم فارق السن والسبب في ذلك حين أكتشف أنني أتحدث العربية أنس إليّ وأكثر من ذلك أنني سودانياً ولهذا أيضاً كان هنالك دافع ومعنى وهو أنه كان معجباً بنميري أيما إعجاب , ففي ذات يومٍ سألني أين نميري الآن ؟ فأخبرته بأنه في مصر رهن منفاه الاختياري , فأستغرق الرجل في سرد حكاية رؤيته للرئيس الراحل وذلك عندما كان ضمن مجموعة من القادة الأفارقة في قمة عقدت بتلك المدينة وكيف أنه كان يرقب تحركات الرئيس ويحصي خطواته ـ و بوصف محدثنا جندياً سابقاً فقد أخذه الإعجاب بمظهر نميري الجندي ـ وكيف أنه مُنح أي الرئيس ـ على هامش تلك القمة ـ شرف قص الشريط التقليدي إيذاناً بافتتاح الخط الحديدي القادم من لاغوس إلى مايدوغري وكيف أن نميري قفز من على إحدى عربات القطار فبينما الرجل يسترجع تلك الذكريات فإذا بالدموع تفيض من عينيه و كأني بلسان حاله في تلك اللحظة يقول ليت الزمان يعود يوماً عليّ أظفر بنظرةٍ أخرى إلى وجه الرئيس , فقد بكى نميري قبل مماته ثم لم تمضِ أيام قلائل حتى مات عمي محمد في حادث مروري أليم ألا رحمه الله وأسكنه فسيح جناته , ونعود مرة أخرى إلى نميري في حياته قبيل مماته : كانت خطاباته تتسم بالنبرة القوية وتحظى بحضور مميز من جميع قطاعات الشعب السوداني عماله وزراعه , مدنييه وعسكرييه رجاله ونسائه فالكل كان يترقب لحظة الخطاب وربما توقفت المركبات عن الحركة وكان هذا الجو يفرض علينا ونحن في أول الشباب أن نلتقط ما تيسر من تلك الخطابات فقد كانت لا تخلو من بعض الأخطاء الإملائية والنحوية وبعض حشو من العبارات العامية إلا أنَّ نبراته القوية وجديته الدائمة تطغيان وتغطيان على تلك العيوب وتمر على المستمع بأسرع ما يكون إذ أن الراديو كان الوسيلة الأكثر شيوعاً واستخداماً من قبل أن ينتشر التلفاز وتتفشى أدواءه ويعم أذاه وينقل إلينا خطابات ورقصات , خطاباته كانت عديدة ومتباينة المقاصد كما ذكرنا لكننا في نهاية هذا المقال ننقل إليكم فقرة واحدة من آخر خطاب له موجه إلى الشعب السوداني , حيث جاء ذاك الخطاب إثر الأزمة الاقتصادية والغذائية التي كانت تمر بها البلاد في الفترة التي أعقبت سنوات الجفاف , حيث حاول أن يبرر تراجع الجنيه السوداني أمام الدولار وارتفاع الأسعار فقال مخاطباً الشعب السوداني في آخر خطابه : { علينا أن نقتصد في كل شيء : من يأكل ثلاث وجبات يأكل وجبتين , ومن يأكل وجبتين يأكل واحدة , ومن يأكل وجبة واحدة يأكل نصف وجبة , ولماذا نشتري المعلبات الغذائية والصلصة ؟! , نحنا يا جماعة نأكل الويكة } … انتهى , من آخر خطاب لنميري أمام مجلس الشعب : التاريخ 26 / مارس 1985 م , تأملوا هذه هي آخر وصايا رئيس لشعبه !! وبعدها بيوم واحد أي في يوم الأربعاء 27 / مارس سافر إلى الولايات المتحدة ـ بحجة إجراء فحوصات دورية ليخرج بذلك من السودان إلى أجل غير مسمى , وإلى الأبد من كرسي الرئاسة , ثم يعود بعد ذلك إلى تراب بلاده , بعد ربع قرن من الزمان من ذاك الخطاب ليخرج من الدنيا كيوم أن ولدته أمه مُعلناً نهاية الصراع , ليكرمه نفس الشعب الذي قد أورثه الجوع , يحدث ذلك و بأبهى ما يكون حتى بعد مماته ! فهل في ذلك عبرة لأولي الأبصار ؟!, والسؤال الأخير هو : ماذا يُحضِر الرئيس الحالي الأخ المشير البشير لشعبه من مفاجآت في آخر عمره الرئاسي الذي قد آذنَت ساعته برحيلٍ ؟؟
حاج علي
Monday, June 08, 2009
[email protected]