تركيا أردوغان‚‚من رسالة الموت إلى رسالة الإعمار!

أبو بكر القاضي - [email protected]

الثبات‚ والذهاب للموت على قدمين بعينين ثابتتين غير زائغتين هو علامة تجارية اسلامية‚ فالمؤمن المجاهد يزهد في الدنيا ايمانا منه بان الآخرة خير من الأولى ــ الدنيا‚ قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار‚ تاريخ الجهاد‚ وسيف علي الكرار كرم الله وجهه ــ سيف الله‚ وتاريخ خالد بن الوليد القائد الاسلامي المجاهد الفذ الذي لم يهزم لا في الجاهلية ولا في الاسلام‚ هذا التاريخ يشكل مساحة كبيرة من فكر المسلمين ومناهجهم الدراسية‚ الغرب المسيحي يدرك تماما قوة شكيمة المسلم المجاهد‚ وأوروبا المسيحية بصورة خاصة تدرك استعداد المؤمن لمواجهة الموت وذلك من خلال تجربتها في الحروب الصليبية‚ اسرائيل تدرك قوة المقاومة الاسلامية من خلال تجربتها مع المقاومة الوطنية الفلسطينية مقارنة بالمقاومة الاسلامية لدى حماس والجهاد الاسلامي وحزب الله في جنوب لبنان‚ كما عرفت اميركا ثبات المسلمين للموت والتدمير من خلال الحرب التليفزيونية التي شاهدها العالم كله نهارا جهارا في 11 سبتمبر 2001 حيث قام الشباب المسلم ــ الخليجي ــ باستخدام أدوات التكنولوجيا الأميركية نفسها في ضرب رموز الحضارة الأميركية وكبرياء اميركا‚ في خطوة أدت الى تغيير مجرى التاريخ‚ وكشفت للغرب كله الأخطاء الفادحة التي ارتكبها من جراء استعماره للعالم العربي‚ وتركه للإنسان العربي متخلفا بائسا محروما من ابسط مقومات حقوق الإنسان رغم ان منطقتنا العربية تنعم بخيرات الأرض وركازها من البترول والغاز والطاقة الشمسية! رجب طيب أردوغان ‚‚ من مدرسة حسن البنا ‚‚ وجاهلية القرن العشرين ‚‚ إلى دولة عضو في الاتحاد الأوروبي: من هو رجب طيب أردوغان؟ دعونا نترك جانبا سياسة دفن الرؤوس في الرمال ‚‚ انه تلميذ نجم الدين اربكان‚ الذي هو في النهاية ابن المشروع الاسلامي السياسي ‚‚ مدرسة حسن البنا التي انتجت حسن الترابي في السودان‚ وراشد الغنوشي في تونس والشهيد احمد ياسين في غزة‚ ومشروع اسلام سياسي واسع من الغرب العربي حتى عزة ابراهيم في اقصى جزر سومطرة في المحيط الهادىء ومطلع الشمس في بلد ياجوج وماجوج‚ الكل يعلم ان من أهم الدوافع التي حملت الشهيد حسن البنا للصدع بدعوته هو شعوره باليتم الذي اصاب المسلمين جراء سقوط دولة الخلافة الاسلامية في تركيا عام 1923‚ بعد مرض حضاري طويل كانت تركيا تعرف فيه برجل أوروبا المريض‚ لقد جاء كمال أتاتورك بدولة علمانية في تركيا‚ اخذت بقشور الحضارة الغربية من ربطة عنق وقبعة ‚‚ الخ‚ ولم تأخذ تركيا العلمانية عقلانية أوروبا‚ ولم يجر في تركيا نقاش عقلاني للتراث الاسلامي التركي‚ وانما تم تجاوزه بشطبه بجرة قلم‚ واستبداله بالقشور الأوروبية‚ وبقيت تركيا دولة عالم ثالث يحكمها العسكر تحت لافتة ديمقراطية مزيفة لا صلة لها بديمقراطية أوروبا‚ حزب العدالة والتنمية ‚‚ نقطة تحول في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي: الفكر السياسي الاسلامي الحديث ــ مدرسة حسن البنا ــ طرح الاسلام كشعارات في اطار عاطفي ماضوي‚ الاسلام هو الحل ‚‚ دون ان يقدم لنا الحلول العلمية لمشاكل الفقر والتنمية الشاملة‚ وقضايا الديمقراطية‚ وحقوق الإنسان واصلاح البيئة ‚‚ الخ‚ هذا السلام الوعظي العاطفي ساهم بشكل كبير في ايجاد صحوة اسلامية صاحبت تمدد الأصولية المسيحية وحتى الهندوسية‚ وحتى هذه اللحظة لم تقدم مدرسة حسن البنا مشروعا إصلاحيا شعبيا مقنعا‚ تجربة الانقاذ في السودان اليوم تشكل نموذجا سيئا للحكم الذي يتسمى بالاسلام في عباءة عسكرية استبدادية‚ تحكم البلاد بقانون الطوارىء حتى داخل العاصمة القومية‚ وتحبس زعماء المعارضة السياسية بالسنين بموجب قانون الطوارىء‚ ولم ينعم بنعمة عدالة اسلام الانقاذ أحد‚ ولا حتى شيخ الانقاذ نفسه الدكتور حسن الترابي! الجديد المبتكر لدى حزب العدالة والتنمية انه أتى للسلطة عبر صناديق الاقتراع وفي اطار التداول السلمي للسلطة في دولة علمانية أوروبية‚ لم يطرح رجب طيب أردوغان وعبدالله غول شعارات عاطفية مثل ــ الاسلام هو الحل ــ وانما تقدموا ببرنامج حزبي عصري لحكم دولة عصرية طبقت العلمانية 70 عاما‚ لم يقدم اردوغان الاسلام في شكل لحية طويلة او ثوب قصير‚ ولا عبر معركة الحجاب للنساء‚ لا ‚‚ لا ‚‚ قدم حزب العدالة الاسلام كسلوك وقيم حضارية وكنموذج اسلامي في عفة اللسان واليد والنأي عن الفساد المالي والإداري عندما تولى أمر بلدية انقرة فسلوك المسلم هو ابلغ لسان للدعوة للاسلام‚ النقلة النوعية التي اتى بها حزب العدالة والتنمية في تركيا هي التصالح مع العلمانية التركية التي وضع لبناتها كمال أتاتورك ‚‚ والتسامي بها من القشور الى اللباب‚ بمنحها البعد الأخلاقي الذي يقوم على الحرية كقيمة انسانية‚ فالعلمانية لا تعني الكفر ولا الإلحاد‚ انها تعني العقلانية وتعني تحييد الدولة تجاه الدين‚ بحيث تكون الدولة مدنية وليست دينية‚ وان يكون امر الدين متروكا للشعب بمؤسساته المدنية يتولى امر الدعوة والتبشير بالتي هي احسن دون عنف او سيف او دبابة‚ ويتحاور أهل الملل والنحل حوارا حضاريا من غير تصادم او قتال ببساطة هذه هي العلمانية‚ وهي آلية للحكم‚ مثل الديمقراطية‚ مشكلة المسلمين انهم في مواطن الاسلام الأصلية يرفضون العلمانية تحت المفهوم الخاطىء لعبارة الاسلام دين ودولة‚ وعندما يكونون اقلية وسط اغلبية هندوسية او مسيحية يطالبون بالعلمانية ــ لانها هنا تخدم مصالحهم‚ أو يطالبون بالانفصال وتقسيم البلاد لأسباب دينية‚ لعدم ادراكهم لمفهوم المواطنة التي تعني رابطة الوطن ــ الأرض ــ هذا المفهوم الذي يقدم اعتبار المواطنة على اعتبار الدين‚ ففي عام 1947 غلّب المسلمون في الهند عامل الدين على عامل الوطن‚ فقرروا بقيادة محمد علي جناح تقسيم البلاد على اساس ديني‚ فظهرت دولة باكستان بشقيها الشرقي والغربي ــ بنغلاديش‚ أما المسلمون اليوم في الهند‚ وعددهم يزيد على 120 مليون فانهم يتمسكون بالدولة العلمانية في الهند‚ لأن العلمانية تخدم مصالحهم في مقابل مليار هندوسي‚ واليوم رئيس الجمهورية في الهند مسلم‚ ولولا علمانية الدولة لما صار رئيسا‚ ورئيس الوزراء سيخي‚ ولولا العلمانية لما صار رئيسا للوزراء‚ لان العامل الحاسم في دولة الهند العلمانية لاختيار الناس للمواقع القيادية وغيرها‚ هو الكفاءة وليس دين الشخص او لونه‚ النقلة النوعية التي أتى بها اردوغان‚ خريج مدرسة اربكان هي قبول التحدي العلماني العقلاني وذلك بالمطالبة بان تكرس أوروبا العلمانية التي ظلت تتبجح بها خلال فترة 300 سنة‚ وذلك بالسماح بدخول تركيا المسلمة الى النادي المسيحي الأوروبي ــ الاتحاد الأوروبي‚ ماذا يعني رفض دخول تركيا النادي الأوروبي؟ عاد رجب طيب اردوغان الى انقرة يحمل راية الظفر والانتصار بعد ان وافق قادة أوروبا ــ الاتحاد الأوروبي ــ على تحديد 3 اكتوبر 2005 موعدا للتفاوض مع تركيا لتأخذ العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي خلال فترة من الزمن حسب الظروف قد تمتد من خمس الى خمس عشرة سنة‚ ولكن على كل حال بدأ مشوار المليون ميل‚ والسابقة واصلة‚ والمبدية متمومة‚ وبذلك حققت تركيا حلم نصف قرن من الزمان تقريبا‚ والسؤال الذي نطرحه بصيغة أخرى‚ لماذا تحقق هذا الانجاز علي يدي اردوغان بالذات؟ وهل كان بإمكان اوروبا رفض دخول تركيا للنادي الأوروبي؟ للاجابة عن هذا السؤال احيل القارىء الى دراسة للاستاذ محمد نور الدين استاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية بعنوان «تركيا والاتحاد الأوروبي ــ مسألة الهوية والرهانات والشرق الأوسط» المنشورة بمجلة شؤون الأوسط العدد 116/2004‚ وألخص الاجابة في النقاط التالية:

 1 ــ رفض الاتحاد الأوروبي لتركيا كان سيهزم كل جهدها العلماني العقلاني لتكون دولة اوروبية ويدفعها الى الانكفاءة والردة‚ وسيكرس القناعة بان العلمانية كانت مجرد أداة لنزع الهوية الاسلامية لتركيا‚ وليس أداة رافعة تجاه الأوربة والحداثة‚ وبالتالي سوف تتجه نحو ماضيها الاسلامي التقليدي‚

 2 ــ سيكون صاموئيل هانتنغتون اسعد الناس بهذا الرفض‚ لانه سيؤكد رؤيته حول صدام الحضارات‚ وبحكم علاقة الجوار بين تركيا وأوروبا فإن الأخيرة ستدفع الثمن‚ واي حرب دينية ــ بين الاسلام والغرب ــ سوف تعزز الهيمنة الأميركية على المنطقة على حساب أوروبا‚

 3 ــ ان شعور تركيا انها ستبقى الى الأبد خارج الاتحاد الأوروبي سيدخلها في خيارات اقليمية ودولية جديدة‚ وروسيا وايران هما الخيار البديل لأوروبا بالنسبة للاتراك‚ الأمر الذي سيمس مصالح أوروبا ومن ورائها اميركا‚ ولعلنا نذكر جهود أربكان ــ استاذ أردوغان في خلق تكتلات اقليمية بعيدا عن أوروبا‚

 4 ــ هذه المقدمات تقودنا للاجابة عن السؤال لماذا اردوغان بالذات هو أكثر القادة الأتراك تأهيلا للحصول على موافقة الاتحاد الأوروبي بدخول تركيا الأصولية الاسلامية الى النادي الأوروبي المسيحي‚ ولعل السبب هو معرفة اوروبا بالتوجهات الاسلامية لحزب العدالة والتنمية وقيادة رجب طيب أردوغان وعبدالله غول‚ ولهذا السبب كان تصريح السيد توني بلير فور موافقة قادة الاتحاد الأوروبي ببدء التفاوض هو قوله: الاتفاق يبرهن على انه لا وجود لصدام الحضارات بين العالمين المسيحي والاسلامي‚ إذن ان رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا كان سيعني التفريط في قوة عظيمة يمكن ان تكون شعلة للنور على امتداد العالم الاسلامي وخطوة لاندماج العالم الاسلامي كله في الحضارة الانسانية باعتبار ان تركيا كانت عاصمة الخلافة الاسلامية ومركزا لوحدة المسلمين‚ لتتحول الى أداة هدم ومواجهة للحضارة المسيحية‚ تركيا الإسلامية ‚‚ من رسالة الموت إلى رسالة الإعمار!! إشكالية المسلم هي انه يتقن فن الموت ولكنه لا يحسن رسالة الاعمار والحياة وخلافة الأرض‚ ولعل هذا الوضع ناتج عن موروث العربي البدوي الذي يعتمد في رزقه على سيفه‚ وقد وظف استعداده الطبيعي هذا في رسالة الجهاد فصار له سهمان‚ حصة لسيفه وحصة لحصانه‚ الجديد الذي يقدمه رجب طيب أردوغان بانضمامه لأوروبا العقلانية ذات القوة الاقتصادية هو رسالة الاعمار والتنمية الشاملة المتضمنة حقوق الإنسان‚ والديمقراطية كنموذج اسلامي معتدل لقد انتكس الاصلاح في ايران ولكنه لم ينهزم‚ وسوف تفتح تركيا المعتدلة العقول على قيم انسانية رفيعة‚ نعتقد اننا كمسلمين اولى بها من الغرب‚ إذن رسالة تركيا ستكون نموذج الحداثة وحوار الحضارات‚