مكونات خطابنا ووسائل التسديد في أمتنا ودعواها في مساهمة إعادة التشكيل الثقافي
رمضان كريم..
إن مهمة استنقاذ الناس من الإفساد وسفك الدماء، تعتبر من أشرف المهام وأعظمها أجراً وأحسنها قولاً.. لقوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين(33) ولا تستوى الحسنة ولا السيئة أدفع التي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فصلت: 33-34)
فإلحاق الرحمة بالعالمين في حد ذاتها غاية من رسالة الإسلام. لقوله جل وعلا {وما أرسلناك إلا رحمة بالعالمين}. (الأنبياء: 107)
فالإيمان والتدين ثمرة لقناعة الإنسان.. ودليلاً على حرية اختياره.. وإحترام إرادته.. وتحقيق كرامته ومخاطبة عقله.. ليأتي الإيمان اختياراً وليس إكراهاً وإجباراً وعنتاً ومصادرة لإرادة الإنسان.. قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256) وقال: {فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر} (الغاشية: 21-22).
فإن مكونات خطابنا ووسائل التسديد في أمتنا ودعواها في مساهمة إعادة التشكيل الثقافي.. وتحقيق الوعي الحضاري وإسترداد دورنا الريادي والقادر على التذكر والتذكير.. ومعاودة العطاء من المعين لإنقاذ الإنسانية وإلحاق الرحمة به.. وإمتلاك القدرة على المساهمة بمعالجة أزمة الحضارة المتشكلة بمسوحات وهن أزمة دار فور العوار في جسد الوطن المؤذنة بالتمدد والمخالفة وإدراك الدور الذي يمكن أن نضطلع به على مستوى الذات والآخر.. فما هو دوري أنا وأنت أخي..
فإن هذا الدور لن يتأتي ما لم نكن في مستوى قيمنا ومبادئنا.. وتجربتنا الحضارية التاريخية.. ولا أعني تجربة التوجه الحضاري الفاشلة.. بل أعني حراك الأمة إرتكازاً وإعتزازاً.. في مستوى عصرنا.. حواراً ومشاركة ورؤية معاصرة شورية وبرامج وتخطيطاً.. بحيث نصبح قادرين على التنزيل في حياتنا وتقويم واقعها.. وتجسيد القيم في حياتنا لإثارة الإقتداء عند الآخرين.. ونصبح بذلك قادرين أيضاً على الإجتهاد وكيفية التعامل مع القيم وتوليد البرامج والأحكام من خلال إستطاعاتنا وإمكاناتنا وواقعها الثقافي والإجتماعي.. أو بمعني أدق: أن تقوم واقعنا بقيم الإسلام في وجهة.. وتتعامل معه.. تربية وتنزيلاً.. بناءاً وإرتقاءً.. من خلال واقعنا المزري والمخجل في آن واحد وفي وجهة أخرى.
هذا على مستوى الذات.. أما على مستوى (الآخر) وكيفية إيصال القيم إليه فالأمر يقتضي فهم (الآخر).. ثقافة وعقيدة.. وتاريخ وواقع.. ومن ثم تحديد المداخل الصحيحة والمواقع المناسبة.. والآليات أو الأدوات الملائمة لكيفية التعامل معه.. ومن ثم الدراسة الدقيقة لمواصفات الخطاب الموجه إليه.. ليتحقق إظهار الإسلام وظهوره على الدين كله.. بقوته الذاتية وقدرة أتباعه على إزالة الحواجز بينه وبين الناس.
ولعل من الأمور التي باتت مطروحة اليوم بقوة وإلحاح.. بعد هذا المتغيرات العالمية المذهلة والمتسارعة، التي أختزلت الزمان وطوت المكان، وأزالت الحواجز وألغت الحدود، وفتحت الأبواب على مصاريعها وقدمت من تقنيات الإتصال والإعلام وفنونه.. ما يتجاوز طاقة الإنسان الفرد على الإحاطة بها.. بلغة إستعمالها.. الأمر الذي جعل التفكير بالإنتقال إلى العمل المؤسسي ضرورة بقاء وإستمرار حياة.. فعلى مستوى الوسائل ورسم الأهداف المرحلية نؤكد القول:
بأنه قد أصبح من الأمور المطروحة اليوم بقوة وإلحاح.. أنه لا بد من وقفة للمراجعة والتقويم.. على مستوى الذات.. لمعرفة أسباب القصور وتحديد مواطن التقصير.. وكيفية تجاوزها وتداركها في ضوء التطورات والتغيرات المحيطة والسبق الحضاري على مستوى (الآخر).. حيث لا بد أن ينعكس هذا على وسائلنا وأهدافنا المرحلية ومعرفة دورنا في هذا الواقع العالمي بدقة.. فلا مكان للخاملين عريضي الوسادة.. في هذا العالم المتسارع الخطى مهما كانت دعواهم وإدعاءاتهم وشعاراتهم في عالم الفاعلين الأذكياء.
الوقت يطول في الكلام عن العظمة والقيم والعطاء والشريعة حتى صرنا كما نقصد الأمر الملفت لتلبس الذات بالقيم.. بحيث أصبحنا وكأننا نحن العصمة التي لا يخطئ.. وأن أي نقد أو مراجعة أو تقويم لفعلنا كأنه موجه لنقد القيم الإسلامية و النيل من قدسيتها وعصمتها.
لذا نلفت النظر إلى أنه قد: استغرق الدفاع عن الإسلام الأوقات الطوال.. لأنه في الحقيقة جاء لوناً من الدفاع عن النفس.. ومحاولة للتستر على الأخطاء الفردية على حساب النظر في كيفية بناء الأمة بهذا الإسلام وتجسيده في حياتها.. ومحاولة إخراجها للناس من جديد.. وتحديد الدور الممكن والمنوط بها في كل مرحلة بحسب الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة. لذلك باتت أية محاولة للنقد والمراجعة والتقويم لمسيرتنا ومواصفات عملنا.. تحارب وتحاصر وتطارد باسم حماية العقيدة والوطن والحيلولة دون النيل منه تارة وباسم حماية الصف الدعوي وعدم تبصير الأعداء بمواطن الضعف والخلل والثغرات حتى لا يوجهوا سهامهم إليها تارة أخرى! وبذلك تكرست الأخطاء.. وقدست الذوات.. وتوقفت عمليات النقد والمراجعة والتقويم.. وشكلت الأخطاء والخطايا ألغاماً وأصناماً إجتماعية في جسم العمل الدعوي أدت إلى إنفجارات مخيفة على مستويات متعددة.
لقد آن الأوان ـ في نظرنا ـ لتأسيس وتأصيل عمليات المراجعة والنقد والتقويم.. للتمييز بين نقد الذات الإيجابي وممارسة جلدها باسم النقد والتصويب.. كما أنه آن الأوان لفصل القيمة عن الذات.. ليسهل التعامل معها بدون خوف أو توجس.. والتحول إلى البحث والدراسة عن واقعنا اليوم.. ودورنا المفقود والغائب وأسباب ذلك.. وكيفية إسترداده.. بدل إستغراق الحديث عن عظمتنا وتاريخنا وحضارتنا.. حيث أننا نتكلم بمعالي الأمور في منابرنا ونفتقد لأبسطها في واقع حياتنا..
فالتكليف بالتجديد والإجتهاد والمراجعة الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) (اخرجه أبو داود). هو إخبار دائم ومستمر بالتجديد والإجتهاد والمراجعة ونفي نوابت السوء والعودة إلى الينابيع الأولى من وجه آخر. ذلك أن التجديد هو الهاجس الدائم الذي يحمي المسيرة من السقوط ويسدد الخطوة ويرتقي بنا لنكون بمستوي عصرنا..
وللتشكيل الثقافي بقية.
التعايشي،