هل جافت مسامعكم نخوة المعتصم.. و ادار فوراه

لم تمر علينا في السودان الحديث ولا حتى في عهد الممالك والسلطانات حقبة تاريخية تمكن فيها الظالمون بباطلهم.. أشد من الزمن الذي نعيشه الآن، فالسودان أصبح أشبه ما يكون بغابة متخمة بالوحوش الضارية، التي لا ترويها أنهار الدم النازف هنا وهناك في هذه الأرض .. وطناً تتسلط على رقابه حفنة من المجرمين الموتورين، الخونة الإنقلابيين والمهوسسين الذين لا يعرفون غير لغة البندقية وهم الذين خانوا أمانة حماية الوطن.. وامتلكوا قوة المال والسلاح، ولم يجدوا مجالات لاستخدامها إلا في التدمير والتخريب وإشاعة الظلم والقهر والفوضى، فجعلوا من جبروت القوة وسيلة للابتزاز والإذلال، وإرتكاب ما يحلو لهم من الانتهاكات والجرائم بحق المستضعفين في الأرض، وأصبحت القوة هي الآمر الوحيد الذي يحتكم إليه طغاة العصر، فضاعت القيم الإنسانية، وضاعت الأخلاق السوية التي من المفترض أن تتحكم بالنفس البشرية، لتتصدى لمهمة الإعمار والتنمية الوطنية من أجل إرساء دعائم الوحدة والأمن والسلام وعمارة الأرض، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، ونشر العدل والقسط بين الناس!.. {.. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} [هود: من الآية 61].

إن عقيدة القوة الطاغية الباغية في السودان(الشمللة) بمفهوم أهل السودان، قد اعتنقتها العصابة الإنقلابية المتحلقة حول القصر الجمهوري، بعد أن تيقنوا يقيناً لا تشوبه أي شائبة بأن آلية الديمقراطية لا تأتي بهم فأنكروها على أهل السودان ولبسوا جلبابها وتمرغوا في رحيقها، زيفاً وبهتاناً، وأنشأوا ما يسمى باللجان الشعبية، والبرلمان وجلسوا على سدتها يأمرون الناس بأمرهم، فاجتمع جنون النفس البشرية وتجردها من كل خلق إنساني سوي .. مع القوة المارقة الشريرة، فكانت النتيجة بطشاً وظلماً وجبروتاً وطغياناً وتدميراً واستعباداً ونزفاً للدم في كل مكان في الشرق.. والوسط والغرب والجنوب!.. وكانت المحصلة النهائية انقلاب مريع في المفاهيم الإنسانية وأسس التعامل بين السودانيين، فظهرت الدنيا وكأنها تسير على رأسها وليس على قدميها، وانقلبت مع ذلك أسس الروح الإنسانية، فأصبح (الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف) هو أصل العلاقات بين السودانيين.. ولا هادي ولا رقيب.

هذه العلاقات التي نسجت خيوطها حفنة القراصنة الطغاة القابعة في القصر الجمهوري، ولم تعد خافية على عاقل في هذا الوطن.. تلكم الأصابع الخفية الشريرة التي تحرك هنباتة  العصر الحديث والقتلة سمهم كما شئت لأن الأسماء كثيرة والألقاب على كتف من يشيل وأنا أفضل أن أسميهم الجهويين الجدد، الذين تلاقت مصالحهم مع الفاجرين المجرمين، فأختلطت الآنانية بجنون التطرف والتسلط والعظمة في وطن أكثر ما أشتهر عنه الطيبة والسماحة .. فكانت هجمة الوحوش الضارية الشرسة موجهة توجيها دقيقاً، نحو كل بقعة جميلة في بلادنا ولم تسلم دار فور الإسلام دينا وعقيدة ومنهج الحياة، من شرور وشرر هؤلاء الجهويين ووجهوا فوهات بنادقهم وحمم طائراتهم على من يفترض أن يحموهم بها فهرب الآمنين من أرض المليون ميل وقبيلة بعد خلفوا ورائهم تدميراً للأرض وللقيم.

ولم يتركوا مكان في وجدان هذا الإنسان السمح ولا مجالاً للإبداع إلا وئدوه بمعاول وأدوات الشر المقاومة للحق.. واستخلاص العبودية لغير الله عز وجل!..

لقد أسقطت الطغمة ـ مع إسقاط كل القيم الإنسانية من قبل العصابات القابعة في هذا الوطن ـ كل الدعاوى العراض، التي حملت شعاراتها في بدايات إنقلابها المشئوم والتي استطاعت تزيف الحقائق على المدى، فسقطت ـ مثلاً ـ مزاعم تحقيق الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية واحترام البلاد وصيانة حدودها فيما يسمى بأسس الشرعية الدولية وفق معايير الأمن.. وغير ذلك!.. وظهر هؤلاء الطغاة على حقيقتهم تماماً، وتبين أنهم ليسوا سوى عصابة من السفاحين الساديين مصاصي دماء الشعوب، الساعين إلى ابتزاز هذا المواطن المستضعف وتدميره واستغلاله وإذلال أهله الطيبين وقهرهم، محملين بكل أدوات الاستكبار والاستبداد من مال وسلاح حتى يتم لهم التمكين من نهب البلاد بعد إنتهاك حرمات أهلها!..

وهكذا وقع السودان في الفخ بين أيدي القراصنة الكبار (التماسيح) المتواطئين في الصراع الدائر في كل بقاع السودان، وكل هذا وذاك محرك لهذه الهجمة الداخلية الشرسة واستعمال المكر والخبث والخداع وقد ألبسوا الحق ثوب الباطل!.. وكانت الرهينة والضحية لكل ذلك، هم سكان أقاليم السودان المختلفة، الذين يرزحون تحت نيـر التجزئة والتشتت والاستبداد والجوع والفقر والجهل وكل ما هو قبيح عبر بعض الخونة والمارقين، المتواطئين مع كل مؤامرة يحبكها القراصنة، مقابل احتفاظهم بمواقعهم وكراسيهم وعروشهم الواهنة والتي هي كبيت العنكبوت والتي تدار عبرها مؤامرات التسلط والاستبداد والاستعباد بحق مواطنيهم المسلمين، فتمنعها من الوحدة والتحرر والسير نحو الحياة العزيزة الكريمة!.. أي أنهم (النظام) يقوم بمهمة المراقب الذي يحرس مصالح القرصان الأكبر، والقراصنة الآخرين على اختلاف أنواعهم!. نظام الفتوات والهنبته.

وكما لم تمر على البلاد حقبة تاريخية كهذه، التي تمكن فيها الظالمون بباطلهم .. فإنه كذلك، لم تمر حقبة تاريخية كان فيها الوطن جهة مستهدفة وحيدة بكل هذه الشراسة من العالم أجمع.. كالحقبة التي نمر بها، فأصبحت المعادلة الدقيقة منسوجة على الشكل التالي: الجهويين بظلمهم وطغيانهم وباطلهم وغطرستهم .. في طرف، والصامتون الغلابة .. في الطرف الآخر، هدفاً وحيداً للطرف الأول!.. ولعل هذا الترتيب الإلهي لطرفي المعادلة، هو الخطوة الأولى لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة المواطنين إلى إنسانيتهم، وإعادة الوطن إلى طبيعته في السير على قدميه لا على رأسه، وإعادة الحقيقة الربانية الخالدة للأمة المؤمنة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .. إلى سابق عهدها!..

لقد جربت البشرية خلال عقود ضياعها، كل المناهج الممكنة لتحقيق العدل والمساواة والسعادة والرفاهية .. من أقصى يسار الاشتراكية والشيوعية، إلى أقصى يمين الجهويين وما يسمى بالليبرالية .. فكانت النتيجة مذهلة مروعة: مزيداً من الجور والشقاء والعبودية لغير الله!.. وظهرت هذه الحقيقة بأجلى صورها، خلال السنوات التي بدأت بتحكم إنقلاب الجبهة الإسلامية (خلال حقبة تمكنا) فالمواطن السوداني لم يحصد في هذه السنوات العجاف، إلا مزيداً من الجور والشقاء والخوف وفقدان الأمن والفاقة والفوضى!.. ولعله لم يبق لخروج المواطن من مأزقه الخطير الحالي بعد حرب دار فور وسقوط المناهج الوهمية، إلا المنهج الرباني: الإسلام، ومنهجه العادل الصالح لكل زمان ومكان .. الإسلام منقذاً في أول الأمر، ثم ناظماً لحياة البشر وحاكماً لهم، يرخي عليهم ظلال العدل والمساواة والسعادة والرفاهية والأمن، وإحترام إنسانية الإنسان وحقوقه، وإحترام الكرامة والمروءة الإنسانية، وإحياء الروح الإنسانية الحقة، بكل ما تختزنه من رحمة وقيم خلاقة كريمة عزيزة!.. ولهذا كان تاريخنا منارة تحكي إن كون الإسلام والمسلمين في دار فور أحد شقي المعادلة الآنفة الذكر، هو الخطوة الأولى لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وإعادة الأمور إلى طبيعتها الإنسانية الكريمة!.. في وطن أكثر ما يعرف عنه في هذا العصر الفقر والجوع والفقر.. والتشرد.

لا يغرنكم ظهور الباطل وسطوته وقوته الهائلة، ولا غياب الحق وضعفه وقوته المغيبة!.. فأساليب القهر والظلم والمكر، والاستفزاز المتواصل، لأبناء الغرب عموم.. ستكون عاملاً حاسماً في إيقاظهم من غفوتهم، للبحث بجد عن أنفسهم ودعوتهم وهويتهم وإسلامهم، وتفجير عوامل قوتهم الهائلة المخزونة والمعطلة.. ومن منا لا يبحث عن أمر فيه نجاته وتحرره وتحقيق كرامته وعزته .. فسيجده لا ريب في ذلك، وعندما سيجده لن يحصد الباطل وقراصنته إلا المقاومة والدفع والانقضاض المشروع، الذي سيأتي بالإسلام منهجاً شاملاً وحيداً لحياة الناس، بعد أن يتهاوى الباطل وجنوده ومنهجه في كل مكان، ويأتي اليوم الذي تعود فيه دار فور إلى سيرتها الأولى ويعيش فيها الإنسان السوداني بلا شر، أي: بلا كيان جهوي متسلط ولا خائن إنقلابي ولا قراصنة مجرمين، من أولئك الذين خانوا المبادئ الإنسانية التي رفعوا شعائرها!.. { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام:44].

عندها سينعم السودان وتعيش دار فور عدلاً إسلامياً كما كان في سلطنة الفور، حين بلغت أوج حضارتها والتي تمثلت في خروج الأنصار طلباً للشهادة في سبيل الله بزعامة المجاهد الأكبر الخليفة عبدالله التعايشي، وصحبه الميامين، محمود ود أحمد والزاكي طمل، وحمدان أبو عنجة، وأبو قرجة.. والعقد طويل.... فكانت ثورة تحرير الإنسان السوداني وما ذبح غردون باشا إلا ثأراً لإنتهاك الحرمات التي تمت في أقاصي البقاع بيد الجند الأتراك.. والعزة كانت منارة أخرى تشرأب لها النفوس تمثلت في كسوة الكعبة وإرسال صرة الحرمين من فائض رغد العيش، بزعامة الشهيد السلطان علي دينار، وإبتعاث البعوث للدراسة بالأزهر الشريف، ووقفة الشرف والبطولة التي وقفها المجاهد السلطان تاج الدين أمام الجيش الفرنسي المحتل، فكانت رحمة ربانية، ورخاء محاطاً بمنظومة متكاملة من الأخلاق السليمة والقيم الإنسانية النبيلة!..

ولا يغرننا اشتداد سعار الباطل وقراصنته والذي نشهده هذه الأيام، فالطاغوت يكون أشرس ما يكون وأكثر حمقاً ورعونة وسادية، حين تبدأ أركان قوته وأسس وجوده بالانهيار، في طريقها إلى الزوال والاضمحلال، يوم ينسفها الله جلت قدرته نسفاً، كأنها لم تكن بالأمس!..
(
.. وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا } [طـه: من الآية 97]. 

ومن المفارقات أن القوة السياسية السودانية لاذت بصمت مطبق كأن الذي يحدث في دار فور لا يعنيها وأركان حزب الأمة، ورغم ما تمثله دار فور من أرث تاريخي وحضاري وعلاقتهم بالإنصار يبدو أنها صارت علاقة إنتخابية فقط، وولاؤهــــم للحزب الذي عينهم ويدفع رواتبهم، وليس لهذا المجتمع الذي يعتنق الدين الاسلامي الحنيف وتعاليمه الخالدة في قول كلمة الحق.

فعندما صمت الزعماء السياسيين صمت وعاظهم، وامتنعوا كلياً عن الكلام، وكأن الأمر لا يعنيهم تماماً، فمن الواضح أن د. علي حسن تاج الدين عبر عن سخطه بخروجه من مظلة كيان الأنصار إلى مظلة المؤتمر الوطني ولم يكن الشعبي هو الوحيد الذي عبر عن رأيه ضمناً غير مهنئاً للرئيس عمر البشير علي عملية الاعتقال والقتل والتشريد، أما القطب الإتحادي د. فاروق أحمد آدم القطب والذي يرى فيه النظام أنه حصان طروادة والذي لجأ إليه ليحل كل العقد المتراكمة عبر طاشرات الظلم لم يكن كذلك وقد عبر عن رأية على إستحياء بأن قدرنا نحن في دار فور هو أن نكون بعيدين عن سلطة المركز، أي مركز يا دكتور فاروق آمل أن تجول في دار فور لترى ما أهلكته الحرب.. أم أن هذا القتل والتشريد شأناً دار فورياً محضاً لا يعني المتسببين فيه... وأعلم أنه إذا كان تم ذلك بواسطة السلطة فتلك كارثة.. وإن تم بواسطة مليشيات الجيم والجواد (الجنجويد) فتلك كارثة أكبر.. لأنها إحدى إفرازات ممارسات الأنقاذ الفاشلة في دار فور والتي سعت بإشعال فتيل نار الفتنة بين أثنياته المتحابة.

وهناك بعض من الأسألة التي لا بد من الإجابة عليها.. هل الضباط السودانيين المنتمين إلى غرب السودان والمعتقلين في سجون النظام هل وصلت دباباتهم إلى مشارف الإذاعة والقصر الجمهوري، أم أنهم وقفوا على الحياد في حرب التنكيل والتشريد بأهلهم في دار فور، أم أن دار فور هي جبهة قتال؟

ألم يكون دار فور مستهدفين بالعدوان بالدرجة الأولى.. فهل طلب العدل والمساواة جريمة تخصص لها الميزانية للوأد والقتل والتشريد.. بدلاً من التنمية والإزدهار.. ولأ أظن أن طلب حق الحياة الكريمة جريمة يقتل فيها من يقتل ويشرد فيها من يشرد..

ولا نعرف كيف نفسر هذا الصمت المريب لزعماء قبيلة الإعلاميين تجاه سياسة تكميم الأفواه وإعتقال زميلهم الصحفي مراسل قناة الجزيرة إسلام صالح، وطرد الإعلام الحر فهل ذلك يعني حصر حرية الإعلام .. أم الأمر يتعدى ذلك ..

الأمر يعني قبيلة الإعلاميين بالدرجة الأولى.. ويعني أهل السودان بالدرجة الأخرى.. بهذه الطريقة المهينة للآلة الإعلامية، هل رضا الإعلاميين بذلك أم هي علامة الرضا عما يحدث، أم هو إحتجاج مبطن وصامت؟

السؤال الأخير.. لماذا يتحرك قطار نيالا من الرهد.. ويتحرك قطار الشمالية من مدينة بحري بالعاصمة القومية ولا يكون ذلك بمدينة الجيلي أسوة بأخوانهم الغرابة لإقتسام ألم المعاناة التي نحياها؟؟؟؟؟؟؟. السبب.. الهدف.. المتسببين.. متخذي القرار..؟؟

نتمنى ان يتحلى هؤلاء ووعاظهم بالحد الادنى من الشجاعة، ويقولوا لنا، ولشعوب العالم الحر، عما اذا كانوا مرتاحين أو مستائين، للعلم بالشيء فقط.

التعايشي،

[email protected]