فتحي الضَّـو
القراء الكرام…
في البداية أقول.. إن سمو الذي بيننا يُحتم عليَّ الاعتذار عن انقطاع هذه السلسلة، والتي كنا قد خصصناها وشرعنا فيها بتحليل الأسباب التي حالت دون بلوغ الثورة أو الانتفاضة أو الهبّة الشعبية التي اندلعت منتصف العام – على مدى شهري يونيو ويوليو – نهاياتها المنطقية، أي اقتلاع النظام الإسلاموي الفاشستي من جذوره. وتعود ظروف الانقطاع إلى السفر، حيث يتعذَّر على المرء مواصلة الكِتابة. على الرغم من أن بُؤس الواقع المرير الذي يعيشه أهلنا ووطننا يفرضها – أي الكِتابة – كدين مستحق. ومن ما لاشك فيه، يمكن القول إن هذه الظروف جعلت من القضية نفسها هماً مقيماً في أفئدتنا.. ما أقامت بين ظهرانينا هذه العُصبة التي لم تراع فينا ديناً ولا دنيا!
عُدت من القاهرة والتي أصبحت اسماً على مسمى كما تعلمون، وذلك بعد زيارة امتدت لنحو ثلاثة أسابيع. والذين يزورون القاهرة مثلي هذه الأيام، هم قطعاً لا يقصدونها ابتغاء السياحة ولا الترويح عن النفس، أي لا شوق يدفعهم لرؤية أبي الهول، ولا حباً يحرضهم لمشاهدة الموميات التي ترقد باسترخاء في المتحف الكائن في ميدان التحرير. لكن من خلال تماثل غير مرئي لم يكن عصياً علىّ ولا على غيري، أن ندرك من خلال مشاهدات هذه الواقع (الثائر) أنها ليست ببعيدة عما نحن فيه غارقون. فالمسرح هو نفس المسرح وإن اختلفت سيناريوهاته، والمسرحية هي ذات المسرحية وإن تبدل شخوصها!
عندما تكون في مصر، فاعلم – يا هداك الله – أن ثمة أشياء لا يُسأل عنها مطلقاً.. لماذا؟ لأنها إن تبدي لك ستورثك من أمرها عُسراً.. سيان ذلك سواء دخلت مصر آمناً مطمئناً بالمنطق القرآني، أو جئتها قلقاً باحثاً عن اجابة لما استعصى عليك فهمه بالمنطق العلماني. ومع ذلك فلا مناص من أن الأسئلة الحيرى ستحاصرك حتماً، وأنت تختال في قلب ميدان التحرير متبختراً بين الثوار تحاكي أبا دجانة في رهطِه. من يا ترى سمى هذا الميدان بهذا الاسم الجذَّاب؟ لا أدري، ولكن لا أشك في أن ذلك كان في عهود الاستعمار يوم كان الناس يتوقون للانعتاق من ربقته، ولم يخطر ببالهم أن قيصراً جديداً سيخرج لهم من بين مسامات جلودهم ليلهب ظهورهم بما عجز الاستعمار نفسه عن فعله. على كلٍ هب أن التسمية هي كذلك، فلماذا لم تفطن الأنظمة (الوطنية) لهذا الاسم المفخخ؟ وبعبارة أخرى كيف غفلت الديكتاتوريات التي تراكمت عن الاسم دون أن تجرؤ على تغييره؟ أم يا ترى كان سدنتها يتساءلون سراً كما تساءل قوم لنا جهراً.. التحرير ممن؟
على كلٍ، سواء تساءلت أم لم تتساءل، فلا جدوى من الأسئلة بعد أن أصبح الميدان قلب مصر النابض، ورغم صغر مساحته فهو قادر على ضخ الدماء في جسدها طولاً وعرضاً وارتفاعاً. وإذا قُدر لك أن تزوره، ستدرك هناك أن الموميات القابعة في المتحف قربه، نهضت ونطقت وأسمعت من به صمم، وستعلم أيضاً أن أبا الهول أصغى السمع لأمير الشعراء (أحمد شوقي) بعد ما عيل شعره:
أَبا الهَول طالَ عَليكَ العُصُر/ وَبُلِّغتَ في الأَرض أَقصى العُمُر/ كَأنَّ الرِمالَ عَلى جانِبَيك/ وبَين يَديكَ ذُنوبُ البَشَر!
لست من الذين يميلون لاستنساخ تجارب الشعوب، ذلك ليقيني أن ما تعارف منها ائتلف وماتنافر منها اختلف. لكنها قد تتماثل ولا ضير في ذلك. وبصورة عامة فالتاريخ نفسه كما حدثنا المؤرخ الكوني الأشهر أرنولد تونبي (ما هو إلا قنوات متصلة لا فجوات بينها) لهذا لا يغرنك قولنا تفاخراً إن ربيعنا السوداني بثورتيه المعروفتين 1964/1985 سبق الربيع العربي بعقود زمنية. حسناً، بغض النظر عن أن ذلك يعني أننا نصّبنا أنفسنا أمراء على مستضعفي شعوب الكرة الأرضية، ولكن المأزق الذي لم ننتبه له، هو إن استمراء العصبة ذوي البأس الجلوس على صدورنا لأكثر من عقدين حسومين، انتقص من رصيدنا المذكور في بنك الإنسانية. عليه فلندخر ذلك في ذاكرتنا لنتواضع أمام تجارب الآخرين، فذلك ربما أورثنا – على الأقل – حافزاً في استنهاض الهمم لكنس دولة العصبة ورميها في مزبلة التاريخ!
دخلت مصر آمناً، في البداية بدا لي كأنني أبحث عن ثورة استعصت – إلى حين – على الغُر الميامين من شباب بلادي، ذلك ما خطر ببالي كلما وجدت نفسي في خضم مسيرة أو تظاهرة أو اعتصام أشارك في فعالياته كأن لي فيه ناقة وجمل. نعم كان لي فيها ناقة وجمل، لماذا؟ ليس لأن النيل يجري شمالاً، فتلك هي ديكتاتورية الجغرافيا التي لا نستطيع لحُكمها تبديلاً. ولكن لأن الظلم لونه واحد، وأن الاستبداد طعمه واحد، وأن الفساد رائحته واحدة، وأن الديكتاتورية لسانها واحد وإن تحدثت بلغات ولهجات عديدة، وأن الشموليات دينها واحد وإن اتخذت من دستور رب العالمين متكأ. وباختصار فدولة (الإخوان) ملتها واحدة.. من حسن البنا وحتى حسن الترابي!
أرجو ألا تأخذنا العزة بآثام التاريخ، فنحن قوم مجبولون على إطلاق القول على عواهنه، لا سيّما، عندما يتعلق الأمر بفقه المقارنات بين شعوب وقبائل وأمم. عليه أشهد أنني رأيت وعايشت شعباً ثائراً بكل المقاييس. يا إالهي.. ارتجفت أوصالي واقشعر بدني وتلاحقت أنفاسي، عندما شاهدت فتيات وفتياناً في ميعة الصبا يحملون أكفانهم في أيديهم وهم على استعداد للتضحية بأرواحهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. رأيت شباباً يبيت الطوى لأيام وليال، لا يأكلون سوى خشاش الأرض من (فول وطعمية) وبالرغم من تعطل مصادر رزقهم، وتوقفت حياتهم بكل ضروبها، فهم غير عابئين ولا غاية لهم سوى تأكيد دولة المواطنة، وتكريس الديمقراطية منهجاً للحكم. هزني منظر أسرة بكاملها من الجد للحفيد وهي تعتصم بصورة فردية وترفع لافتات تندد بالظُلم الذي حاق بها والوطن, ما أجمل الحرية، اضطرب وجداني أيضاً عندما توقفت أمام رجل مسن بلغ من العمر عتياً يستظل بلافتة كُتب عليها سؤال فلسفي وجوديٌّ قد يعجز جون بول سارتر نفسه عن إجابته.. أنا مين؟
جالست زملاء صحافيين، وسمعت من آخرين إعلاميين، وتحدثت إلى العديد من النخب المثقفة، وخالطت المئات من غمار الناس في الشوارع والمقاهي والميادين والمواصلات العامة، حيث يتواصل الحديث عن الثورة الناهضة ومآلاتها وذاك هو القاسم المشترك الأعظم. كان الناس – ونحن منهم – يظنون وهماً أنهم شعب خانع، وينسون أنه عندما يتعلق الأمر بالشعوب ودروسها لا ينبغي أن تزر وازرة وزر أخرى. بيد أن الصورة وجمالها لم تنسنا في لقاءات المكاشفة والمصارحة مع النخب المهمومة بأمر وطنها أن نذكّرهم بالخطيئة التي ارتكبوها – سهواً أو عمداً – عندما تقاعس غالبيتهم عن إيلاء تجربتنا المريرة العناية الكافية. قلنا لهم لو أنكم فعلتم لكنتم جنبتم بلادكم هذا المأزق التاريخي، منذ أن بدأ بتضاؤل الخيارات، عندما وجدتم أنفسكم أمام صناديق انتخابات لم تعكس الواقع بحذفاره. وصدق الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في قوله: (كل من أدلى بصوته لمرسي كان نكاية في أحمد شفيق) والعكس صحيح!
مهما تكن الصورة، فلابد لأي ديمقراطي مخلص لتوجهاته أن ينشرح صدره وهو يرى تلك الوقفة الصلبة لشرائح المجتمع المصري المتعددة ضد الدولة الدينية، دولة المرشد محمد بديع وأزلامه الذين يريدون قبر مصر بكل تراثها الحضاري في قبوها. إنها ثورة حقيقية قوامها الشباب بكل عنفوانهم وتطلعهم لمستقبل أفضل، وسندها القانونيون من قضاة ومحامين، وعضدها الصحافيون والإعلاميون والمفكرون في مراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني والجامعات والمعاهد، وقوامها الفنانون والممثلون والموسيقيون، وقاعدتها الطبقة العاملة في جمهورية (المحلة الكبرى) نموذجاً، وفي كلٍ كانت المرأة رأس الرمح لإداركها أنها أول من سيعاني من دولة المرشد إن قيضت لها الظروف وصولاً. نعم بمفهوم الثورة الميتافيزيقي فهي كذلك لأن التغيير مسّ العصب الميت في الجسد المحنط، فأنت تلمسها عندما يحدثك عن الدستور قوم صنّفتهم الظروف والطبقية المقيتة أسفل درجات السلم الاجتماعي. وذاك لعمري ثقافة جديدة وقول لا يعض عليه بالنواجذ إلا من اكتوى بنار الظلم وذاق مرارة الاستبداد منذ عهد الفراعنة وحتى عهد الأبالسة!
مأسأة دولة مرسي أنهم يريدون أن يفعلوا ما فعله إخوتهم فينا من بشير ونذير وسعير. فالمرشد والرئيس وقعوا في ذات الخطيئة، يظنون أن الله سبحانه وتعالى ابتعثهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. فامتحنوا الناس في دينهم وقسموهم بين فسطاطين، الكفر والإيمان. ثمّ جاءوا بالخطيئة الثانية وهي امتحان الناس في وطنيتهم، بحيث يدمغ الفرد بالوطنية إن وقف إلى جانبهم ونعته بالخيانة العظمى إن عارض مخططاتهم. ثم جاءوا بالخطيئة الثالثة وهي أنكى وأمرّ حيث حيث قسموا مصر لأول مرة في تاريخها، ذلك حينما عمدوا للتفريق بين المرء وزوجه، الابن وأبيه، البنت وأمها. فقد حدثني الصديق الدكتور (م.م) وهو حتى وإن خالفته الرأى فإنه يعد من المفكرين الإسلاميين المستنيرين وله كتب عديدة تشهد بذلك، كما أنه على أعتاب العقد السابع من عمره، قال لي إن زوجته التي قضى معها العمر كله باتت تصدر عنها أحكام تكفيرية، بالرغم من أنها تعرفه أكثر من قرائه، وقال ساخراً أخشى أن تهجرني يوماً وتقوم بتطليقي!
الواقع أن مرسي وحكومته شأنهم شأن بني جلدتهم الذين خبرناهم، ما أن جلسوا القرفصاء على كرسي الحكم حتى باتوا يفكرون في (فقه التمكين)، لم يقتنعوا بالممارسة الديمقراطية التي كفلت لهم أربع سنوات، فباتوا ينظرون لأربعمائة عام فيها يُرذل الشعب المصري ويهان. لهذا رأى الرئيس ومن خلفه المرشد وأتباعه في المنام ما سُمي بـ (الإعلان الدستوري) وهو في الواقع (لزوم ما لا يلزم) على حد تعبير نجيب سرور عطّر الله قبره. كان الإعلان اختصاراً عبارة عن مشروع فرعون وتكريس ديكتاتور جديد، أراد أن يقول للمصريين في لحظة غفلة من الزمن أنا ربكم الأعلى، فتداعت لذاكرتهم مرارة الظلم والاستبداد والسنين الكالحات، وحضرت في خواطرهم تجارب الدولة الدينية في أفغانستان وإيران والسودان ومن لف لفهم، فأدركوا أنهم أمام مأزق خطير إن غفلوا عنه سيقودهم الهوس الديني حتماً إلى القرون الوسطى!
لأن النيل يجري شمالاً، ولأن الدول مثلها مثل البشرية، إن عطست شمتتها الأخرى، فلا يظنن أحدكم أننا عن همنا غافلون، ونتواصل حول محنتنا التي قاربت منتهاها الأسبوع المقبل بحول الله!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!