الشعب يريد أن يعلم من يحكمه اليوم؟ا

د.سعاد ابراهيم عيسي
المعروف والمألوف أن أية حكومة، منتخبة كانت أو غير ذلك، تظل هي المسؤولة عن إدارة شؤون الحكم ببلادها. وهى التي ستتحمل نتائج حكمها قدحاً أو مدحاً. ولا يعنى ذلك أن تصم الحكومة أذنيها وتغمض عينيها عن سماع ورؤية ما يرى الآخرون، بل لا بد من اعتبار كل ذلك ولكن بمقداره وفى وقته وبقانون. فالدول المتقدمة عادةً ما تلجأ إلى استخدام قياس رأى الجمهور بالنسبة للقضايا التي تهمه، لمعرفة اتجاهاته التي بموجبها يتم التصرف. وبما أننا لا نعطى مثل هذه الطرق العلمية كبير اعتبار، فقد أصبح تحديد اتجاه الرأى لدينا، كثيرا ما يحدده الصوت الأعلى الذى يجد طريقه سالكاً لطرق آذان المسؤولين، وان كان للأقلية القليلة من المواطنين.
أعتقد أنه من بين المشكلات التي تواجه نظام الحكم بالسودان حالياً، والتي قام بخلقها بمحض إرادته، هو فتحه الباب على مصراعيه لكل من يريد أن يبدي الرأي حول أية خطوة تخطوها في أي أمر وفى أي اتجاه، أن يفعل، ليس ذلك فحسب بل وسمح لتلك الآراء، خاصة المعارضة منها، أن تجد حظها في التأثير على رأي السلطة وتطويعه للاتساق مع ما ترى. حتى أصبح المواطن صاحب الحق الأول في إبداء الرأى حول كل القضايا التي تهمه وتتصل بحياته، باعتباره المستفيد الأول من حسم أمرها والمتضرر الأكبر من تعثرها، أصبح متفرجاً على ما تعج به الساحة من آراء معارضة وأخرى معارضة لها، ودون ان تلتفت أي من الفرق المتعاركة إلى رأيه ورؤيته حول ما يعتركون حوله.
فقد بدأت مشكلة التدخل المباشر في شؤون الحكم من خارج إطار سلطاته، بعد توقيع اتفاقية سلام نيفاشا. فقد اتضح حينها، أن هنالك من يعارضون ذلك الاتفاق، من بين صفوف الأحزاب المعارضة بسبب عدم إشراكها في المفاوضات التي قادت إليه، لكن المدهش المجموعات الأخرى والمعارضة للاتفاق ولكنها من بين صفوف ذات الحزب الذى توصل إليه، وفى ظاهرة هي الأولى من نوعها أن تتم معارضة النظام من بين كوادره وعلناً وعلى رؤوس الأشهاد. فجماعات الرفض الحكومية هذه وبعد أن شعرت بأن السلطة ولسبب نجهله، لا تقف في وجه معارضتها لها، ولا تعمل على كبح جماحها عندما يتعدى تأثير معارضتها حدود السلطة ليصيب الوطن والمواطن، فقد شجعها كل ذلك على توسيع دائرة معارضتها، بإغرائها آخرين لاعتناق مذهبها.
وقد أخذت أعداد هذه المجموعات المعارضة في التزايد، وأساليبها في التنوع، ومن بعد خطورتها في التنامي، بعد أن انضمت إليها مجموعات دينية عملت على إلباس معارضتها ثوب الدين الذى يصعب الاعتراض عليه. ومن ثم أدخلت السلطة التي مكنت لها في حرج، بين أن تمضى في تنفيذ خططها وفق ما رأت ولخدمة أهداف حكمها، أو أن تستجيب للرأي المعارض بعد أن تدثر برداء الدين حتى إن تسبب في إفشال خططها وتحطيم أهدافها؟ ومازال الشعب السوداني يجهل السبب الذى جعل الحكومة تسمح لهذه المجموعات المعارضة كي تنمو وتترعرع تحت سمعها وبصرها، حتى خرجت عن طوعها وبلغت مراحل فرض رأيها عليها. ولم يضعف موقف هذه الحكومة أمام هذه المجموعات المعارضة، أكثر من الأصوات أو الآراء المؤيدة لتلك المجموعات والتي تصدر من بين كوادر الحكومة ومن داخل محيط حزبها. وفى هذا اكبر دليل على أن المؤتمر الوطني، إما انه لا يلزم الأقلية من كوادره باحترام رأى الأغلبية والامتثال له، أو انه لا يعنى بأمر الشورى، شعارهم المحبب، مما يجعل لمن لم يستشر حق الاعتراض على الامر الذى لم يستشر فيه.
فما أن بدأت خطوات تطبيق اتفاقية السلام، حتى بدأت الأقلام والأصوات الرافضة لها من بين كوادر المؤتمر الوطني بالذات، في الكشف عن نفسها بل والإعلان عن عزمها الوقوف في وجهها بل وشن الحرب ضدها، ودون أن نسمع بأن هنالك أي اعتراض من جانب السلطة على مثل تلك الممارسات حتى ظن البعض أن تلك المعارضة تتم بمباركة من جانب ذات السلطة. حتى أدى التغاضي عن خطط وبرامج وممارسات المعارضين، إلى تناميها وتطورها حتى حققت أول نجاحاتها بأن جعلت الوحدة بين شمال وجنوب البلاد طاردة، ومن بعد كللت ذلك النجاح بنجاحها الأعظم عندما قادت معارضتها إلى انفصال الجنوب، بكل تبعاته المأساوية التي يكابدها الشمال، الذى بجانب خسارته لثلث مساحته بسكانها، فقد خسر عائدات النفط التي اعتمد عليها كثيراً عندما كانت ميسرة له، في ظل السودان الواحد المتحد.
والحكومة وهى تحاول أن تخرج المواطن من المآزق التي أدخلته فيها، وعلى رأسها الحروب التي اشتعلت نيرانها بولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إضافة إلى الضائقة الاقتصادية التي تزداد ضيقاً كلما اتسعت دائرة تلك الحرب، كنا نعتقد أنها ستجعل من الوصول إلى ذلك الهدف غايتها، التي لن تسمح بأن تقف في طريق تحقيقها أية عثرة. وكم استبشر المواطنون خيراً عندما سلكت الحكومة طريق التفاوض في تحقيق ذلك الهدف، فأرسلت وفدها برئاسة د. نافع للتفاوض مع عقار بأديس أبابا، وكم تفاءل المواطنون عندما توصل المتفاوضون إلى اتفاق لو تم قبوله حينها، قطعاً لكفى المؤمنين شر القتال الذى مازال دائراً حتى اليوم. غير أن ذلك الاتفاق قد تم وأده في مهده، عندما رفضته قيادة الحزب ولحقت بها جماهيره، إضافة إلى جماعات الرفض الأخرى التي لا ترى في أي اتفاق مع الحركة الشعبية الأصل كانت أو الفرع، اى خير يرجى للوطن أو المواطن، ومن ثم ازدادت نار الحرب اشتعالاً، حتى أوشكت أن تقضى على أخضر ويابس تلك المناطق، ومن بعد على أمن وسلامة مواطنيها،
وقد تلاحظ أنه ما أن بدأت المفاوضات بين وفدى حكومتي الشمال والجنوب بأديس أبابا حول مختلف القضايا العالقة بينهما، حتى تأهبت جماعات الرفض بشقيها من داخل وخارج الحكومة، ونشطت لرفض ما يصلون إليه من اتفاق قبل معرفة خيره أو شره. فهؤلاء يرون أن مجرد فكرة التفاوض مع قيادات الحركة الشعبية، تعتبر مرفوضة في حد ذاتها، والغريب أن الرافضين لأي طريق تسلكه الحكومة لأجل الوصول إلى معالجة أي من القضايا العالقة بينها وحكومة الجنوب، وهى المعالجات التي تنتظرها جماهير الشعب السوداني على أحر من الجمر، فإنهم اى الرافضين، لا يشيرون إلى أي طرق بديلة للمعالجة وكأنما الرفض غاية في حد ذاته.
وعندما لاحت بوادر انفراجة عبر تلك المفاوضات وبعد شد وجذب وجهد ومجاهدة، فأعلن المفاوضون توصلهم لاتفاق اطارى حول الحريات الأربع، التي متى تم اعتمادها والعمل على تطبيقها ستخدم مواطني الشمال والجنوب على حد سواء، لكن وقبل أن يجف المداد الذى اختط به ذلك الاتفاق، هبت أعاصير الرفض عليه من كل جانب. إذ لم ير المعارضون في ذلك الاتفاق إلا الجانب الذى سيخدم مواطني الجنوب، ومن ثم فليذهب بما به من فوائد لمواطني الشمال إلى الجحيم لا يهم، كما وانفتحت أبواب جهنم من النقد على المفاوضين من وفد حكومة الشمال، حتى تعدى ذلك النقد حدود اللياقة والكياسة في وصفه للمفاوضين، وفى الوقت الذى كان يفترض تقديم آيات الشكر لهم.
ثم برزت مشكلة النفط وتصديره عبر الميناء بالشمال، حيث اختلف القوم حول السعر الذى يرضى الجانبين، ومن بعد تمترس كل جانب عند السعر الذى قرره، والنفط كما يعلم الجميع هو أم المشكلات التي يعايشها الجانبان، إذ بسببه دخلت الحكومتان بالشمال والجنوب في المأزق الاقتصادي الذى يواجهانه اليوم. وكالعادة عندما قررت حكومة الشمال ان ترسل بوفدها للتفاوض حول ملف النفط وغيره من الملفات الأخرى، لم يترك للمفاوضين فرصة الوصول إلى غاياتهم من التفاوض، بل تفسح المجال لغيرهم كي يدلوا بدلوهم في مسيرته، خاصة أولئك الرافضين لفكرته من أساسها، وبالطبع فإن للحركة الشعبية جماعات رفضها هي الأخرى، التي تلعب دورها الموازى لجماعات الشمال، مما يزيد الموقف تأزماً، وما أن هددت حكومة الشمال بإغلاق الأنبوب الذى سيعبر به نفط الجنوب إلى الميناء للتصدير، حتى سارعت حكومة الجنوب برد التحية بأحسن منها، فأعلنت عن إغلاق آبار النفط ذاتها، وبموجب هذه المبارزة بين الحكومتين وصقورهم، تم إغلاق شرايين اقتصاد الدولتين حتى أوشك ان يقضى عليهما معا.
وعندما أفلح الجانبان في التوصل إلى اتفاق حول هذا الملف الشائك، ملف النفط، ولا يهم ان تم التوصل إلى ذلك بإرادة وفدى الدولتين أم بدفع من غيرهم، كل الذى يهم الشعب السوداني هو أن النفط سيعود إلى مجاريه السابقة، وبموجب عودته للجريان سيبدأ الاقتصاد السوداني في استرداد بعض من عافيته، التي لابد أن تسمح باسترداد بعض من عافية اقتصاد المواطن أيضا، أو هكذا يجب أن يكون. هذا الاتفاق رغم انه مازال حبراً على ورق، فإنه لم يمنع جماعات الرفض من أن تشرع في رفضه والبحث عن كل ما يعيبه لتبرير ذلك. ولو سئل هؤلاء الرافضون عن وسيلة أخرى تمكن المواطنين من عبور النفق الاقتصادي الذى حشروا فيه، والذي يزداد ضيقاً يوماً بعد يوم. فلا أظنهم يملكون لغير هذا الاتفاق بديلاً. أما بعض قيادات المؤتمر الوطني التي ظلت تردد وتكرر بأن هذا الاتفاق لن يجد طريقه للتنفيذ ما لم يتم حسم الملفات العالقة الأخرى، فكأنما هي تريد أن تعلن أن قيادات وفدها التي فاوضت وتوصلت لتلك النتيجة، إما أنها غير مفوضة بصورة كاملة لتصل إلى ما تراه صواباً، أو أنها غير مدركة لكيفية ترتيب أولوياتها فيما يجب الاتفاق عليه.. فكل الذى يتمناه المواطن الآن هو ان يصمد هذا الاتفاق حتى يتنزل واقعاً على الأرض، وألا يلحق باتفاقيات سبقته، قتلتها كثرة الآراء والأفكار التي أخذت تصطرع حولها حتى قضت عليها.
ثم أطلت علينا الدعوة للتفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، وبصرف النظر عن إطار التفاوض وغاياته.
أما أمر أن تصبح الحركة الشعبية قطاع الشمال حزباً سياسياً قائماً بذاته ومتحرراً من الحركة الشعبية لتحرير السودان، فلا أرى اى سبب يمنع ذلك متى استجاب قطاع الشمال لكل مطلوبات الأحزاب السياسية بالشمال. أما جماعات الرفض التي ترى غير ذلك وتمنع قطاع الشمال من حقه السياسي بحجة أنه سيخرج من رحم الحركة الشعبية لتحرير السودان، وسيحمل أفكارها وايديولوجياتها لتطبيقها في الشمال، هو اعتراض لا نجد ما يبرره، والسودان يعج بالأحزاب الخارجة من رحم أحزاب أخرى خارجه، وحاملة لايديولوجياتها. فدونكم الحزب الشيوعي شيخ الايديولوجيات الوافدة، ومن بعده أحزاب البعث كانت عراقية أو سورية، ثم الحزب الناصري وجذوره بمصر، بجانب حركة اللجان الثورية القادمة من ليبيا. ففي وجود كل هؤلاء ما الذى يمنع قيام حزب باسم الحركة الشعبية قطاع الشمال وأصله بالجنوب
الصحافة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *