أشكر الدكتور محمود محمد يسين على مقاله بعنوان “فى الذكرى الخمسين لجودة وعنبر كوستى- المغزى والدروس ” المنشور على صفحة سودانايل بتاريخ الحادى عشر من يوليو الحالى . وارجو أن يسمح لى الاخ الدكتور بأن اصحح بعض المعلومات المتعلقة بجملة من الاحداث ،و بمدينة جودة التى وقع فيها الصدام بين الشرطة والمزارعين والمتعلقة كذلك بنشأة اتحاد مزارعى جودة ودوره فى الذى حدث ، والمتعلقة أخيرا بالكيفية التى انتهت اليها الاحداث ، والنتائج التى ترتبت عليها مستقبلا . وأرجو أن أصحح بالحذف والاضافة بعض الذى اورده الكاتب المحترم ، بوصفى شاهد عيان “شاف كل حاجة” عكس اخينا عادل امام الشاهد اللى ما شافش حاجة . فشخصى الضعيف هو واحد من ابناء مدينة جودة الذين شاهدوا ما حدث وبكوا مع أهليهم مما حدث فى ذلك الصباح الدافئ الحزين. نعم كانت جودة مدينة صغيرة يومها . فقد بلغ تعدادها لحظة وقوع الماساة حوالى العشرين الف نسمة بمجموع الذين تجمعو فى القرى والحلال القريبة منها بعد أن جذبتهم الدعاية القوية بمولد الحدث الكبير – مشروع جودة الضخم الذى أنشأته شركة عبد المنعم محمد ، ذلك المحسن الكبير الذى جاء ابناؤه وحفدته الى هذا الموقع على أمل أن يستفيدوا ويفيدوا ، ويساهموا فى خلق واقع حضرى جديد فى تلك البقعة البدوية التى كانت حتى تلك اللحظة موقعا قفرا ، وخاليا من أى مظهر من مظاهر الحياة الحديثة . وقام المشروع الكبير وخرجت جودة الى الوجود لأول مرة . وقامت فيها وحولها الاسواق الكبيرة والشفخانات الطبية والمدارس ،و عدة مناشط حياتية . كان هناك سوق كيلو واحد ، وسوق كيلو اربعة ، وسوق الامتداد ، ومافيها من مدارس وعيادات أنشأتها الشركة مع المشروع كتفا بكتف. وكان ذلك فى مجموعه عملا وطنيا كبيرا ، يحسب للرأسمالية الوطنية . كانت المدينة الصغيرة الوادعة تغلى بجدل شديد بين اتحاد المزارعين الوليد برئاسة العم (اسماعيل المكادى )احد كبار شيوخ بادية قبيلة نزى ( بتشديد الزاى ) التى كانت وما زالت تستوطن هذه المنطقة منذ عهود سحيقة. وكانت الغالبية العظمى من مزارعى المشروع الجديد هم من افراد هذه القبيلة الكبيرة باعتبارهم أهل الوادى الفسيح الذى اقيم عليه المشروع . لقد تركت المجموعة التى جاءت الى المشروع من هذه القبيلة ، تركت وراءها البادية وحياة البداوة وجاءت بقيمها البدوية لتبدأ حياة جديدة تخيلتها من واقع الدعاية المركزة التى بثتها الشركة عن المشروع الجديد حتى ترغب البدويين فى الانتقال من حياة البداوة الى حياة الاستقرار فى المشروع . وجاء على رأس العشيرة الوافدة شيوخ كبار لهم حوزتهم وكلمتهم واتباعهم ليصبحوا مزارعين فى المشروع الجديد.
الجدل الذى كان يدور فى المدينة الصغيرة فى ذلك اليوم تركز حول قضية صغيرة وطارئة ، ولم يكن أحد يتصور أن تتطور الاحداث بسببها بذلك الشكل ،أو تسير فى المنحى الذى سارت فيه بتلك السرعة وتصل الى تلك النهاية الفاجعة التى تجاوزت تقديرات جميع الذين شاركوا فى صنعها بوعى او بغير. كان الجدل يدور بين الادارة المحلية للمشروع وبين اتحاد المزارعين حول مطلب وحيد وبسيط تقدم به الاتحاد الى الادارة. وكان الطلب هو أن تؤجل الادارة ترحيل اقطان ذلك الموسم الى محالج ربك الى أن تتمكن الادارة من صرف متاخرات الموسم السابق التى يصر المزارعون على صرفها قبل السماح بترحيل اقطان الموسم الجديد الى المحالج كنوع من الضغط على الادارة المحلية لكى تضغط بدورها على الادارة العليا للشركة فى الخرطوم للإيفاء بالتزاماتها نحو المزارعين . وكان عدد من اعضاء الاتحاد الوليد يدركون أن منع ترحيل الاقطان بالقوة هو نوع من أخذ القانون فى اليد ، ويخالف قانون “علاقات الانتاج” الذى يحكم العلاقة بين ادارة المشروع والمزارعين. كان رئيس الاتحاد وسكرتيره اكثر الملمين بخطورة ذلك التصرف من الناحية القانونية ، وكانا من ضمن المجموعة التى كانت تحاول الوصول الى منطقة وسطى بينها وبين الادارة المحلية تفاديا الوصول الى المنطقة الأصعب. المجموعة الرافضة للحلول الوسطى كانت هى صاحبة الصوت الأعلى ، وكانت لها اجندة سياسية واضحة آتية من خارج ذلك المجتمع البدوى الصغير الذى كان مبتدئا فى كل شئ ولم يكن يفهم شيئا كثيرا خارج محيطه البدوى الصغير مما يقال عن حركة النضال الطبقى فى تلك القضية واعتبار جودة ” ذروة ذلك النضال !” لقد دونت جانبا من ذلك الجدل الطريف فى روايتى بعنوان( عشرون دستة من البشر ) وهو عنوان قصيدة زميلى الاستاذ الشاعرالمرحوم صلاح احمد ابراهيم التى رثا بها أهلى ( شهداء ) عنبر جودة . وهذا هو الوصف الذى نطلقه عليهم حتى اليوم ، باعتبارهم قتلوا ظلما سواء كان ذلك القتل بالرصاص او بالاهمال و بالاختناق . واقول زميلى صلاح احمد ابراهيم ، لأن زمالات كثيرة قد جمعتنا ، منها زمالة الثقافة ، وزمالة الكتابة ، وزمالة المهنة . زمالة المهنة ، نعم . فقد كان كلانا سفيرا لبلده وخدمها بحب واخلاص ، وضحى من أجلها بالمنصب والجاه وضرب فى البيد والفيافى من أرض الله ةالواسعة بحثا عن لقمة عيش شريفة لأبنائه وعن راحة الضمير. لقد دونت ذلك الجدل الطريف فى ( عشرون دستة من الشر) لأثبت كيف كانت مناهج التفكير تتناطح فى المجتمع البدوى الصغير الذى كان يقوده اتحاد لم يشب عن الطوق وجد نفسه فى خضم معركة اكبر من فهمه ووعيه السياسى دون أن يدرى أنه كان يشترك فى معركة سياسية رسمت خطوطها المتعرجة بعيدا عن محيطه الصغير فى جودة. وكانت النتيجة أن ازهقت ارواح كثيرة بريئة وضاعت حقوق كانت اقرب الى اهلها من حبل الوريد. ابن عمى ” الجاك عبد الله ابراهيم” صفع وكيل العمدة الذى كان يحاول تهدئة الثائرين . عندما دوى الرصاص كان الجاك أول الباحثين عن منفذ النجاة ! واصبح دائما يتذكر ذلك الموقف بندم شديد ، ويقول ” كنا مثل البهايم تساق نحو السلخانة وهى تجعّر فرحانة ! أطال الله عمر الجاك ، ورحم الله وكيل العمدة الذى فقد ثلاثة من اشقائه وعشرات من بنى عمومته فى عنبر جودة الذى نجا منه الجاك.
واضح جدا من سرده للاحداث ان الدكتور محمود رجع الى مدونات سياسية حزبية ، او ربما مدونات اتحاد العمال او مدونات اتحاد مزارعى الجزيرة. وقد كانت تلك الاتحادات ناشطة جدا و مؤثرة فى ما كان يعتبر معركة طبقية تدور رحاها بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة . وكنا صغارا ومبهورين بشيخ الأمين فى الجزيرة ، والعبيد عامر فى النيل الابيض وقد كانا من كوادر الحزب الشيوعى وسط المزارعين وكان لهما القدح المعلى فى خلق وتطوير تنظيمات المزارعين فى الجزيرة وفى النيل الابيض. فى مستقبل الايام وعندما تقدم بى العمر قابلت الشيخ العبيد كثيرا فوجدته شخصية جاذبة وهو الرجل شبه الأمى ولكنه يتحدث بفهم وعمق عن نظريات سياسية معقدة . لقد ثقفه الشيوعيون ، هؤلاء الناس الذين فى امكانهم أن يثقفوا الحجر كما كان يقول صديقى “شقلاب”.
لقد لعبت الصدف والاخطاء العفوية دورا رئيسيا فى تطور الاحداث فى مأساة جودة . ولم يكن هناك تدبير مسبق من الادارة المحلية او من قيادة الاتحاد لتفجير مواجهة بأى صورة من الصور، لاسيما الصورة المفجعة التى انتهت اليها الاحداث المتسارعة . فالمأساة وقعت بسبب حادثة عرضية صغيرة لا يمكن أن ينظر اليها فى اطار الصراع الطبقى بين الحاكمين والمحكومين . لأن الاحداث اخذت الجميع على حين غرة ولم يكن فى تخطيطهم أو تدبيرهم او فى حسبانهم الذى حدث. فالذين ساروا الى ميدان تجميع القطن فى الكيلو4 فى ذلك الصباح ، بما فيهم والدى ، وبما فيهم الشيخ اسماعيل المكادى رئيس الاتحاد لم يسمعوا بان هناك صراعا طبقيا يدور من حولهم وان اتحادهم كان طرفا اصيلا فى ذلك الصراع كما يوحى مقال الدكتورالقيم . فمزارعو جودة ،فى غالبيتهم العظمى ، بما فيهم رئيسهم اسماعيل المكادى ، كانو بدويين قدموا لتوهم من بوادى دار محارب المختلفة . ولم يكن لهم سابق عهد بالعمل المطلبى او النقابى ، ولم يسمعوا بنضال الحركة النقابية وما الى ذلك من التخريجات التى هولتها السلطة فى نطاق حربها ضد الحزب الشيوعى الذى حملته حكومة الازهرى كل الوزر فى الذى حدث وبرأت نفسها من وزر ما حدث وحكمت على بعض قادة الحزب الشيوعى بالسجن بصورة تعسفية فى نطاق العداء الذى كان مستحكما بينها وبين الحركة النقابية . فقد كان مطلب الاتحاد بسيطا وكانت الاستجابة له أسهل ، ولا تكلف الادارة شيئا ، وهو طلب كان الهدف منه اعطاء الادارة فرصة لتهدئة الخواطر المنفعلة. الحوار الطويل الذى دار بين الشيخ المكادى والضابط السمانى يوسف رئيس الشرطة قبل لحظات من انفجار الموقف ، والمنلوج الداخلى الذى اعتمل فى صدر الشيخ المكادى وهو ينحنى فوق جثة سكرتيره (ابوشاتين) ويحادثها فى حزن قاتل ، مما حفلت به رواية (عشرون دستة من البشر ) ، جسد حقيقة وحجم المأساة التى كان كل الذين اشتركوا فيها ، كانوا أقل الناس ادراكا لما قد يقود اليه تصرف كل واحد منهم فى تلك اللحظات الحجة. لقد جاءت اللحظة الحزينة المباغتة عندما اطلق احد افراد مجموعة الشرطة التى كانت تحرس الضابط السمانى يوسف وهو يحادث رئيس الاتحاد وسط جموع المزارعين المنفعلين عندما اطلق رصاصة تحذير فوق رؤس المزارعين فى محاولة لابعادهم من حول الضابط ، فاصاب سكرتير الاتحاد ( ابوشاتين) وارداه قتيلا من حيث لم يقصد، لينفجر الموقف بصورة خرجت تماما عن السيطرة من يد كل الاطراف . ويرد المزارعون بقتل خمسة من العساكر بمافيهم رئيس الشرطة الضابط السمانى يوسف والعسكرى الذى فجر الموقف . الضابط السمانى كان احد ابناء المنطقة وكان يسعى لتهدئة الطوفان ، فاخذه الطوفان.
كان كل العدد الذى قتل فى مدينة جودة هم هؤلاء الخمسة. ولست ادرى من أين جاء الدكتور بهذه الاعداد الضخمة. هل اختلط عليه الامر ، فخلط بين عدد المئات الذين ماتوا بالاختناق فى عنبر كوستى الذى يطلق عليه كذلك عنبر جودة ، والذين قارب عددهم الثلاثمائة شخصا كان منهم 86 شخصا من أهلى الاقربين : من عم وخال وابن عم وابن عمة وابن خال . وكان منهم صديق صباى عبد الله هجو الذى كان هناك بلا لزوم كما يقول الشاعر . وكان فيهم ابن خالتى ( سليمان التوم ) الجميل الوسيم الذى كان ينادى على شرطة الحراسة من داخل عنبر الموت لتعطيهم صفيحة ماء بمبلغ مائتى جنيه كانت فى جيبه فى تلك اللحظة ، ولكنه لفظ انفاسه الاخيرة وسكت عندما لم تأته صفيحة الماء العزيزة.
واقول للدكتور محمود أنه ليس صحيحا أن الصدام بين الطرفين فى جودة وقع لرفض المزارعين اجراء محاكمات اتحاد مزارعى النيل الابيض بجودة. فجودة لم تجر فيها محاكمات . ولم يكن أى واحد من اتحادها الوليد قد اعتقل قبل وقوع المأساة. كما اقول ان عددا كبيرا من الذين شاركوا فى تلك الاحداث مازالوا على قيد الحياة. ومنهم (ابراهيم حامد ) ذلك الانسان الجزل الفكه الذى اذا سمع ما يقوله الدكتور من وقائع غريبة إذن لأضحكه بقفشاته التى تضحك حتى الذى بفمه صمم كما يقول الشاعر المتنبى . ومنهم عمى(مضوى تاج الدين) الذى طلب منه القاضى أن يحكى له عن حالة الناس داخل العنبر قبل أن يموتوا ، فطفق يحدث القاضى عن حالة ( زنك ) الغرفة الذى كاد يطير من الضوضاء ، فذكره القاضى بأن سؤاله كان حالة الناس وليس عن حالة الزنك ، فضجت المحكمة بالضحك .
قلت ان الصدف والاخطاء الغبية هى التى فجرت مأساة جودة التى لم يكن أى واحد من الذين شاركوا فى صنعها كان يرغب ، او كان يظن أنها ستسير فى المنحى الذى سارت فيه . طلقة العسكرى التى طاشت فقتلت ( ابوشاتين ) كانت هى الصدفة الغريبة وغير الموافية التى فجرت المأساة . وتصرف الضابط محمود غندور الذى حشر المزارعين فى عنبر صغير كان تحت التشييد فى حامية كوستى عندما لم يجد مكانا يحفظ فيه العدد الاضافى من المعتقلين الذين وصلوا الى مدينة كوستى فى وقت متأخر من الليل، فكان أن اختنق العدد الكبير بسبب نقص الأوكسجين ليسمع العالم بمأساة عنبر جودة ، تلك المأساة التى كحلت عيون الحكم الديمقراطى الوليد بالقذى واسقطت حكومة الازهرى ، وتركتنا فى مدينتنا الصغيرة على محجة سوداء من الحزن الكليم . اذكر حتى اليوم كيف كانت نساؤنا النائحات يخرجن صباحا ومساء الى الفضاء الفسيح ويكلن التراب فوق رؤوسهن الكاشفة الحاسرة يبكين ازواجا واعماما واخوالا وابناءا ذهبوا بلا كلمة فى رحلة ابدية بلا زاد غير زاد المظلوم يطلبه عند رب حكم عدل لا تضيع عنده الحقوق ، ولا يحتاج عنده المظلوم الى محامى يدفع عنه مظلمته .
الشكر مجددا للأخ الدكتور محمود الذى هيأ لى هذه الفرصة لكى اشرك معى قرائى على الانترنت وعلى (صحيفة الخرطوم) اشركهم معى فى حزنى القديم الجديد . ورحم الله عمى عبد الفراج عبد الله الذى كان آخر شخص يقتاد الى القندران 24 الذاهب بحمولته الى كوستى حيث كان ذلك العنبر الذى اشتهر بعنبر جودة ، فذهب مع الذاهبين فى تلك الرحلة الابدية بدون وصية يتركها لبنته الوحيدة. كان عمى عبد الفراج عائدا من حواشته عند المساء عندما قابلته عربة الشرطة التى كانت تلتقط الناس من الطرقات المجرم وغير المجرم. وعندما قال لهم أنه لم يكن حاضرا قالوا له اركب و قل ذلك للقاضى . وركب عمى عبد الفراج . ولكنه لم يجد الفرصة ليقول ذلك للقاضى!
على حماد من أبناء قرية جودة