سيف الدولة حمدناالله عبدالقادر
الحقيقة التي يحاول النظام تجاهلها تقول بأنه لن يأتي اليوم الذي (تتراجع) فيه
محكمة الجنايات الدولية عن ملاحقة الرئيس عمر البشير وزملائه الذين شملتهم
قائمة المطلوبين، فسوف تستمر الملاحقة لحين القبض أو الوفاة أو الإثنان معاً،
فالإدعاء الأممي ليس به إرشيف لقضايا مهملة مثلما تفعل نيابة السودان، وبحسب
ما تكشف عنه الأخبار فإن دائرة الحصار تضيق على الرئيس كل يوم، حتى يأتي الوقت
الذي يدير فيه أعمال الدولة من فراشه بمنزله العامر، وهذا اليوم ليس ببعيد،
خاصة بعد القرار الذي صدر عن لجنة العلاقات الخارجية للبرلمان الأمريكي الذي
وضع الدول التي تستقبل الرئيس في مأزق الخيار بين قبولها بزيارته ووقف
المساعدات التي تتلقاها من أمريكا، وبحسب علمي، ليست هناك دولة يمكن أن يزورها
الرئيس – فيما عدا قطر – لا تجمع بين إستقباله والمساعدات الأمريكية.
إن مسألة الملاحقة القضائية للرئيس ليست شأناً خاصاً لنسكت نحن أو غيرنا
عليها، وما كان لنا أن نتعرض لها لو أنها كانت بسبب قضية نفقة شرعية أو جريمة
شيك بدون رصيد، ذلك أن كل المحن التي يعيشها السودان تقف وراءها هذه الملاحقة
بأكثر مما يمحننا به الرئيس نفسه، فالشعب يدفع ثمن جرائم الرئيس نيابة عنه،
وللغرابة، دون أن يبدي الكدر الذي يناسب ذلك، وهو ثمن معلوم وليس هناك ما
يدعونا لبيانه.
بيد أن الذي حملنا لمعاودة الحديث عن هذا الموضوع، هو ما جاء على لسان وزير
العدل “محمد بشارة دوسة” في خطابه أمام مؤتمر وزراء العدل والنواب العامين
للإتحاد الأفريقي الذي عقد هذا الإسبوع في أديس أبابا، والذي قال فيه : ” من
حق الرئيس البشير زيارة أي دولة، ولا تستطيع أي دولة القبض عليه، لأنه يتمتع
بحصانة كاملة إستناداً على مبدأ السيادة”.، ثم أضاف: ” إن رؤساء الدول
الأفريقية أصبحوا مستهدفين من الولايات المتحدة والدول الأوروبية ، وهو
إستهداف يشكل ازدواجية في المعايير وعلى الدول الأفريقية الأعضاء في نظام روما
الانسحاب الجماعي من المحكمة الجنائية”.
هذا حديث يثير الشفقة والسخرية على من يقول به لا التعاطف معه، وهو يكشف عن
عقلية لزعيم عصابة لا وزير مهمته العمل على حماية القانون، تماماً مثلما يطلب
بائع الخمور البلدية من جيرانه المستقيمين العمل (كناطورجية) لتنبيهه عند وصول
حملات الشرطة، فالدعوة التي يطرحها الوزير “دوسة”، لم توضح موقف السودان من
جرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية التي تختص بنظرها المحكمة
الجنائية، وهي جرائم لا خلاف – لا سيما في محفل لرجال القانون – حول ضرورة
محاسبة مرتكبيها بأقسى ما يمكن، فمشكلة السودان – لا الدول الأفريقية – أنه
ليست لديه الرغبة أو الإستعداد لمحاسبة مرتكبي تلك الجرائم من الأساس سواء
أمام المحكمة الدولية أو محكمة نيالا العامة، ولو أنه كان حريصاً على ذلك، لما
إنعقد للمحكمة الجنائية إختصاص منذ البداية وفق ما هو معلوم، وليست هناك دولة
أفريقية غير السودان تجابه مثل هذه المشكلة.
لا يوجد بين المسئولين الأفارقة من يناصر السودان بمثلما يفعل المستر “ثامبو
إمبيكي” الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، حتى قال عنه قائل أنه (كوز) ومؤتمر
وطني، ومنذ العام 2004 يلعب “إمبيكي” دور الوسيط في قضايا السودان مع المجتمع
الدولي، ولا يزال يقوم بهذا الدور في الخلاف مع دولة الجنوب، ومع كل هذا
التعاطف، فقد إنتهى “إمبيكي” في تقريره الذي تقدم به في العام 2005، الى توصية
تسلم بوقوع جرائم حرب أرتكبت بواسطة المطلوبين في قائمة “أوكامبو”، ومن بينهم
رئيس الجمهورية، وقد أوصت مذكرة “إمبيكي” بضرورة محاكمة المتهمين أمام محكمة
(هجين) تتشكل من قضاة من السودان بمشاركة آخرين أفارقة، وقد جاءت توصيته كمخرج
للسودان من تسليم المتهمين للمحاكمة أمام المحكمة الدولية، بيد أن حكومة
الإنقاذ تجاهلت التوصية ولم تتكرم بالرد عليها حتى كتابة هذه السطور.
من المعلوم، أن أي متهم في قضية جنائية لا بد أن يكون له ما يعرف ب “خط
الدفاع”، وهو تعبير يعني الطريق الذي يختاره المتهم أو وكيله (المحامي) في
سبيل الدفاع عن نفسه، وخط الدفاع نوعان لا ثالث لهما، الأول يقال له الدفاع
(الموضوعي)، ويكون بمجابهة الوقائع المنسوبة للمتهم ومحاولة دحضها، إما
بإنكارها، أو بإثبات السبب الذي يمنع مسئولية المتهم عنها، كأن يثبت بأنه كان
في حالة دفاع شرعي عن النفس … الخ، والثاني يسمى بالدفاع (الشكلي)، وهو
يستهدف الحصول على البراءة من خلال الطعن في صحة (الإجراءات) القانونية للقضية
دون التعرض للوقائع التي تشكل الجريمة كالطعن في صحة أمر التفتيش الذي كشف عن
الجريمة، أو تمسك المتهم بالحصانة القانونية.
وفي المقابل، ليس هناك في القانون ما يتيح للمتهم رفض المثول أمام المحكمة
بدعوى عدم إختصاصها، فالدفع بعدم الإختصاص يتم تقديمه للمحكمة المطعون في
إختصاصها نفسها، ولو أن القول بغير ذلك كان ممكناً لكان الشهيد مجدي محجوب
يمشي بيننا اليوم، فليس هناك ما يمنح المقدم/ عثمان خليفة وهو عسكري مشاة،
الإختصاص في محاكمته عن قضية ليس لها علاقة بمحيط العسكرية في وجود سلطة
قضائية تقول عن نفسها أنها مستقلة وتعمل على حماية سيادة القانون.
على الرغم من مرور كل هذه السنوات منذ توجيه الإتهام للرئيس وزملائه الذين
شملتهم القائمة، لم تصدر – حتى اليوم – كلمة واحدة من الرئيس أو من ينوب عنه
في سبيل الدفاع عن نفسه سوى القول بأنه يمثل رمز سيادة السودان وعزته، وقد
يكون لمثل هذا القول معنى في فؤاد من يزعقون به، ولكنه لا يصلح كدفاع في محكمة
قانون، فالرئيس الليبيري تشارلس تايلور الذي تمت إدانته قبل أسابيع، كان هو
الآخر رمزاً لعزة وكرامة شعبه الذي وقف خلفه عندما قاد الثورة الشعبية التي
أطاحت بسلفه الرقيب صمويل تولبرت الذي كان قد وصل للحكم عن طريق إنقلاب دموي،
ولم تعصمه تلك الرمزية من نزوله اليوم ضيفاً بزنزانة ضيقة في سجن لاهاي
المركزي.
تقتضي قواعد الأخلاق أن يثبت المرء براءته من التهمة بمجابهة الوقائع المنسوبة
اليه (الدفاع الموضوعي)، لا التستر خلف غطاء (الدفاع الشكلي) حتى لو كان توفر
له الحماية من المساءلة بالكامل، وهذا ما فعلته الصحفية لبنى حسين، فحين قبضت
عليها شرطة النظام العام بتهمة إرتداء زي فاضح، لم تتمسك بالحصانة القانونية
التي توفرت لها بموجب عملها في منظمة سياسية، وأعلنت عن تنازلها عن تلك
الحصانة لتثبت براءتها عن التهمة التي لفقت في حقها، وقد نجحت في ذلك، ومثل
هذه القيمة أولى بأن يتبعها الرئيس بأكثر مما فعلت لبنى حسين.
من حق الشعب أن يسمع دفاع الرئيس (الموضوعي) حول ما أثير حوله من تهم، كأن
يقول – مثلاً – أنه لم يرتكب تلك الجرائم، أو أنه كان نائماً في فراشه وقت
الطلعات الجوية التي قتلت الأبرياء، أو أنه كان يرقص في حفلة عرس حين صدرت
أوامر دون علمه بإرتكاب تلك الجرائم، أو أنه أُسيئ تفسير حديثه الذي قال فيه:
“ما عايزين أسير أو جريح” بالقول بأنه كان يقصد منه تسليم الأسرى والجرحى الى
ذويهم عن طريق الهلال الأحمر…الخ.
لقد حان الوقت ليدخر الوزير “دوسة” وقته لينفقه فيما ينفع، فأفريقيا لم تعد
كما كانت عليه بالأمس، فالعالم من حولنا يتقدم بقوة نحو الحرية والديمقراطية،
ويقف دليلاً على ذلك ما جاء على لسان دولة أفريقية صغيرة لم يسمع بها كثير من
سفراء الذين يضيق بهم مبنى وزارة الخارجية، حدث ذلك في جمهورية “بتسوانا” قبل
أيام، ففي أثناء مناسبة ليست لها علاقة بموضوع السودان، وقف الرئيس البتسواني
“إيان خاما” يلقي كلمة في حفل عشاء أقيم على شرف الرئيس الليبريري “ألن
سيرليف” الذي كان في زياره لبلاده، فقال: ” إن قيادة الرئيس البشير للسودان
بمثابة سرطان يتغلغل في جسد شعبه، ولذلك طلبنا من دولة مالاوي عدم السماح له
بدخول أراضيها لحضور القمة الأفريقية، وعلى البشير أن يسلم نفسه لمحكمة
الجنايات الدولية لكي لا يضيف مزيداً من الجرائم ضد الإنسانية لسجله”.
ولا يزال المرء ليعجب للذين يهتفون في الطرقات “سير سير يا البشير”.
لا يمكن ختام مقال هذا الاسبوع دون التعبير عن حزني العميق لوفاة المطرب نادر
خضر، فدائماً ما كنت أشعر بأن هناك شيئ ما في “نادر” يبعث الأمل في عروقي كلما
إستمعت الى صوته، شيئ يدفعني للتمسك بالحياة ويحرك الحلم في أشجاني بالعودة
للوطن لنحيا فيه من جديد، فنادر يشبه الوطن الذي كنا نعرفه، وقد نكأت وفاته
جراحنا بفقده وتناقص الأمل، رحم الله “نادر” وليبقى الأمل في أجيالنا القادمة.*