إفادات سوداني بوجدان الانتماء
عبد الله ادم خاطر
كلما سنحت الفرص تكرر عمتي حليمة خاطر على مسامعي ذات القصة عن طفولتي . قالت لي أول مرة كنت طفلا ممتلئ الجسم، رخوا وكثير العرق لا تتحمل حرارة الشمس وكانت النساء يتفادين حملك لمسافات طويلة خاصة في المناسبات التي تحدث ويتطلب الأمر زيارات أسرية جماعية، وقالت أنها دائما كانت هي من تتولى حملي علي كتفها وعلي ظهرها دون ملل لأنها كانت ولا تزال تحب والدي وشقيقها حبا جما. ليس هي وحدها التي حكت لي عن طفولتي فقد علمتُ أيضا أن والدي رحمة الله تعالي كان يحبني علي نحو خاص لاني شديد الشبه به ،
واني كنت أول القادمين إلى الدنيا من أبنائه الثلاث. كان يعبر عن حبه وولعه بي بوسائل مختلفة فهو يكثر لي من الدعاء وذلك أمر هام في ثقافتنا المحلية خاصة عندما يأتي الدعاء من حافظ للقران الكريم مثله، لكن أكثر ما أدهشني أنه كان يحتفظ بدجاجة ومعها سبعة من أبنائها كان قد ذبحهن جميعاً في أوقات مختلفة. أما والدتي فيكفي أنها أهدتني أغلي ما تملكه المرأة لأوقات الحاجة وهو عقد ذهبي يسمي الشف. كان ذلك في مناسبة قبولي بالمدرسة الوسطي فأجلستني إليها وحكت لي تاريخ العقد فقد كان حجل فضة أهدتها إياه حبوبتها وفيما بعد أضاف والدها التاجر(سر التجار) لمنطقة كبكابيةٍ مالا لتحويل الحجل الفضي إلى عقد ذهبي فى احدى زياراته الى مدينة الفاشر . قالت لي أمي: كنت انتظر هذا اليوم لأقدم لك هذه الهدية التي تعبر عن اعتقادي أنك ستصبح رجلاً مذكوراً بالخير. لا اذكر ما اذا كانت تنظر الي جسدي المنهك بالسفر والعودة بعد منتصف الليل بعد رحلة شاقة وامتحانات عسيرة. كان الحب شيئا مألوفا في طفولتي وفي صباي وعند كل مكونات شبكتي الأسرية وكان ذلك مردوفا ومصحوبا بالنجاح في الدراسة منذ الخلوة والمدراس والجامعة فيما بعد ، وكان ذلك قد جاء ردا لجميل أسرتي ومجتمعي الذي أحاطني بالحب والرعاية ، بيد أن مشوار الحب والرعاية الحميمة والنجاح في الدراسة أنتهى بي إلى الشعور بمسؤوليتي تجاه المجتمع العريض والانتماء اليه والاحتفاء بتقديم كل عون ممكن، هل كانت تلك أيضا بذرة الانتماء إلى السودان الوطن ؟
في طفولتي أيضا كنت أراقب مظاهر الأبهة والقيم التاريخية في مدينة الجنينة دار أندوكا ، حيث كان السلطان بحر الدين مهابا من قبل الإداريين البريطانيين ، ولم يكن في يوم من الأيام أن خضع لأجنبي ، وفي المقابل نتيجة احتجاج منه تم نقل معتمد الجنينة البريطاني في فصل الخريف وكان السفر بالدواب.
في مرحلة لاحقة عندما انتقلت أسرتي إلى كبكابية بسبب مرض والدي كنت أعيش مناخا تاريخيا زاهيا اذ كانت كبكابية ملتقي عصور تاريخية شكلت الوجدان السوداني المشترك في رحلة المليون ميل مربع الذي يعتبر إشارة انتماء للوطن العريض. في الجزء الجنوبي من كبكابية تقع آثار السلطان تيراب في شوبا ومنها اشتهر قصره ، كما كانت هناك مقبرة للأمير سنين آخر المحاربين المهدويين في السودان ، وبالجوار تقع آثار الإدارة التركية في صورة سد ترابي وطابية مراقبة وعلي تلك الطابية وضعت الإدارة البريطانية طابيتها بالطوب الأحمر والاسمنت المسلح. مما كان يثلج صدور جيلنا من أبناء كبكابية أن انتماءنا لبلدنا السودان جاء مؤرخاً بالوثائق والآثار والروايات الشفاهية المحلية وأحاجي الحبوبات عن بطولات أجدادنا في كل عصر وزمان .
استمعت باهتمام عميق لمختلف الروايات عن السلاطين والأمراء والميارم الذين صنعوا تاريخ سلطنة دارفور بامتدادها ومن جاء من بعدهم من المناصب الإدارية التركية مثل الحكمدار في العاصمة الجديدة الخرطوم. أما تاريخ المهدية فقد كان شأنا دارفوريا ، حيث أن المعارك دارت والدماء سالت تحت شعارات سيادة العقيدة من جهة واستمرار سيادة العقيدة من جهة أخرى واستمرار سيادة التراث الدارفوري من جهة ثالثة ، والحوارات بينها ما تزال مستمرة. أما الحكم البريطاني والذي أعقب دولة السلطان علي دينار ،لم يكن حكما عدائيا لذا لم يجد مقاومة صارخة وان احتفظ الناس في دارفور كما في بقية أنحاء السودان الأخرى بحق العودة إلى مواثيقهم التاريخية واستعادة المبادرة وبناء دولة المواطنة وقد أكد شعورنا بالانتماء إلى السودان الوطن والذي لم يتراجع ، لسبب بسيط وهو أن الحب الذي رضعناه من ثدي أمهاتنا ومن مجتمعنا أعطانا الدافع والقدرة علي إبقاء انتمائنا للسودان الوطن بين جوانحنا. عندما أتيت إلى العاصمة المثلثة في أواخر ستينات القرن الماضي ، لم تكن أمدرمان والخرطوم إلا الامتداد لما كنت اعرف من تاريخ كان مؤثرا في نفسي. عندما زرت ضريح الإمام المهدي ومتحف الخليفة عبد الله وكل ما يتصل بالتاريخ لم أجد ما أدهش له ، بل وجدت الكثير الذي ازداد به انتمائي للسودان الوطن. خلال سنوات دراستي الجامعية و علي نحو بسيط وغير مكلف كنت أحجز تذكرتي في القطار بالدرجة الرابعة أو لوري خلف ولا يهم إلى أين يتجه .
بتلك الكيفية أعدت زيارتي للشمال فقد كانت الزيارة الأولى قبيل تخرجي من المدرسة الثانوية ضمن جمعية التاريخ بمدرسة الفاشر الثانوية لزيارة مناطق الآثار في الشمال خاصة ما يعرف اليوم بولاية نهر النيل. تتابعت زياراتي العفوية لتشمل شرق السودان، القضارف وكسلا وبورتسودان وجنوب النيل الازرق حتى الدمازين ومنطقة النيل الأبيض في كوستي وأجزاء من كردفان بما فيها الأبيض ، وقبل بضع سنوات وجدت الفرصة لزيارة جنوب السودان ، وقد وجدت فيه امتداداً وتواصلاً مع بقية أنحاء البلاد في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان وجنوب دارفور. وبزيارتي للجنوب اكتمل انتمائي للسودان الوطن، ولم يخطر ببالي يوما أننا بلد واسع لا يمكن إدارته بكفاءة ولم يدر بخلدي أننا مختلفون أواننا لا نستطيع احتمال بعض .
نعم نحن متنوعون وانه وقعت بيننا كوارث بسبب الإدارة المركزية بالبلاد ، بيد أن الفرص متاحة اليوم أمامنا لنبدأ من جديد بشكل حسن
إدارة التنوع
إن حسن إدارة التنوع سيكون المفتاح للدخول إلي الوحدة المتراضي عليها بين شعوب السودان .
ما زاد عندي من إمكانيات الانتماء للسودان الوطن أنى عملت ضمن المجموعة التي أسست مصلحة الثقافة في أعقاب اتفاقية أديس أبابا (1972) تحت إدارة الأستاذ إبراهيم الصلحي الفنان التشكيلي الرفيع في العالمية والفنان الملهم للانتماء. كنا مجموعة صغيرة من الشباب ودون إمكانيات مادية واسعة ولكن كنا نملك إدارة البحث عن الذات والعمل علي تصميم انتمائنا للوطن . كانت مظاهر بساطة عملنا كثيرة فكان بوسعنا الاجتماع تحت ظلال الأشجار دون ضجر ولقد قتلت رغبتنا في تأكيد انتمائنا للتنوع الثقافي كل رغبة أخري في الاستعلاء أو الترقي الوظيفي أو الانتماء إلى طبقات البيروقراطية بأصنافها المختلفة
في تلك السنوات الباكرة وتحت إعادة تشكيل صورة السودان في وجداني صرت انظر أكثر إلى ما يجب أن نبذل من جهد لتطوير سوداننا ويبقي جميلا ورائعا وبسيطا .
أن التقدم المادي لا يحرم أي منا من أن يستمع مجددا إلى مقولات الطفولة وأحاجيها وصورها . أنه لأول مرة في السودان ندرك قيمة المدخل الثقافي للانتماء للسودان الوطن فالثقافة هي التي تجعلنا أكثر صبرا علي معالجة الصعوبات وتجاوز المحن وتجعلنا أكثر دفئا وتجعل عقولنا أكثر مشغولية بتجاوز النزاعات وبناء الفيدرالية ، بخصوصية إدارة التنوع وتجاوز الإدارة المركزية إلى الأبد .أما الذين وجدنا أنفسنا في حالة نزاع معهم فقد تعاملنا مع التجربة الثقافية بأن لا نحاربهم بل نحاورهم من اجل الوصول إلى تسوية وفض النزاعات بيننا فى سياق التحولات الديمقراطية ، ومن اجل أن يبقي الانتماء للسودان الوطن مشتركا وإلى الأبد.