د. جون قرنق
حضور فى سونامى الغياب
ملاحظات فى دفاتر الستنيات وميلاد أسر عند الممات
ياسر عرمان
تمرالذكرى الثانية لرحيل و إستشهاد المفكر، الزعيم ، المناضل الوطنى الكبير الدكتور
جون قرنق دى مبيور اتيم المولود فى منطقة وانقلى من ريف مدينة بور فى اعالى النيل بجنوب السودان و رئيس للحركة الشعبية لتحرير السودان – القائد العام للجيش الشعبي لتحرير السودان و المنتمى لاسرة فقيرة و من بين فقرها وعوزها صنع من نفسه انسانا كبيرا اطل على الفضاء الانسانى الواسع ومضى مع ترك البصمات. ستحيى هذه الذكرى فى داخل السودان و فى مناطق عديدة على جنبات الكرة الارضية من محبيه و المؤيدين لافكاره وهذه المقالة مكرسة لاحياء هذه الذكرى و تحية الدكتور جون قرنق دى مبيوراتيم. و قرنق مبيور الذى اودعته العالم امه السيدة قاك ملوال ثم حبلت به كل النساء فى قاع المدينة و هامش الريف ، انتمى لكل البشر و الارض وولدته جميع النساء فى الساحة الخضراء و الناس يستقبلونه بعد ان قاد حرب التحرير و كتب اتفاق السلام و اعطوه شهادة ميلاد ومحبه باسمهم جميعا دون قابلات الحبل او الليزر وفى مولده السابق انتمى لاسرة و عشيرة واحدة وهو اليوم ينتمى لكل البلاد فى القرى و المدن و الازقة و الحوارى و الشوارع و القلوب المفعمة بالحب و العقول النيرة و عند اصحاب النوايا الخيرة و قرنق مبيور اتيم حينما اختتم حياته لتبدأ من جديد و هو يمضى في الحضور ويرحل ليولد من جديد و يغيب فيزدان المكان برؤيته نحو سودان جديد و لازال ملهما بل ان بعضا من الذين خاصموه من قبل يفتقدونه اليوم و تتضح رؤيته وتفصح عن نفسها ببيان شديد الوضوح اكثر من اى وقت مضى فى وقت توقف فيه عن الادلاء بالاحاديث و المحاضرا ت و المؤتمرات الصحفية فى مختلف المنابر و اجهزة الاعلام. و هذه المقاله تسعى لتحقيق اكثر من هدف و لخدمة اكثر من قضية فى الذكرى الثانية لاستشهاده إن استطاعت فهى تحتفى بالالاف من الشباب السودانيين من النساء و الرجال الذين التقيتهم فى ريف و مدن السودان فى العامين الماضيين. و فى ذكرى حدثين هامين كان لى شرف تحمل بعض المسئولية خلالهما و هما استقبال الدكتور جو ن قرنق دى مبيور فى الخرطوم و حملة تنظيم و بناء الحركة الشعبية لتحرير السودان مابعد اتفاقية السلام وفى ذكرى الحوارات العديدة حول رؤية السودان الجديد مع اولئك الشباب و التى لا يمكن تناولها الا بالمرور عبر بوابة الدكتور جون قرنق و فى ذكرى افادات عديدة تطرقت فيها لاسماء مثل انتا ديوب ووالتر رودنى و قد سالنى الكثير من اولئك الشباب عن من هو انتا ديوب ووالتر رودنى وهانذا احاول الادلاء باجابة اكثر شمولا عنهما وعن المصادر الفكرية و السياسية، الاحداث، الشخصيات والمناخ الذى شكل رؤيه الدكتور جون قرنق حول السودان الجديد و سيتضح فى سياق هذه المقالة اهمية و موقع الشيخ انتا ديوب ووالتر رودنى فى عالمه وقد طلب منى عدد من الاصدقاء والمعارف من داخل الحركة الشعبية و خارجها للكتابة عنه وعن تجربتنا فى الحركة الشعبية و قد
فشلت فى اكثر من محاولة للقوص و الكتابة عبر فضاءات احزاننا الخاصة و عن الدكتور جون قرنق فى حضوره الكبير و فى (سونامى) الغياب و الرحيل و حدث هذا من قبل عندما حاولت ان اكتب عن بعض اعزاءنا فمنذ مدة ليست بالقصيرة شرعت فى كتابة مقالة بعنوان ” يوسف كوة مكى إنسان من ازمنة قادمة ومحترمة” ولم تكتمل تلك المقالة حتى يومنا هذا رغم تشجيع الذين اطلعوا على جزءها المكتمل.
ونحن على اعتاب الذكرى الثانية لرحيل زعيمنا الدكتور جون قرنق دى مبيوراتيم فاننى اود ان ارسل له التحية عبر هذه المقالة و ان ابدا من حيث كانت البدايات بمحاولة تحفها المحاذير فقبل الكتابة عنه او عن تجربتنا فى الحركة الشعبية لتحريرالسودان لنحاول الاجابة على سؤال طالما حاولت الحصول على اجابته فى حوارات مباشرة مع الدكتور جون قرنق امتدت على مدى عقدين من الزمان عن مصادره الفكرية و السياسية والاحداث ، الشخصيات ، الامكنة ، الازمنة ، التجارب والمناخ الذى اسهم فى تشكيل رؤيته و شخصيته الذكية الباهره و المتوقدة. الدكتور جون قرنق الذى يتمتع بكاريزما الحضور و الغياب.و فى تقديرى المتواضع فان الدكتور جون قرنق اهم قائد سياسى سودانى فى القرن العشرين ولولا التحيزات العرقيه لتم الاعتراف بذلك منذ زمن!! و فى القرن التاسع عشر كان الامام المهدى. و تاثيرقرنق على مستقبل السودان يقع فى منطقة شديدة الحساسية بالنسبة للسودان منطقة ان يكون السودان او لا يكون و ما ان ياتى عام 2011 عام الاستفتاء على حق تقرير المصيراذ سرعان ما تتكشف هذه الحقيقة البسيطة الكبيرة لا سيما و ان الدكتور جون قرنق قد حسم اجابته دون ان يترك مساحة للشكوك فهو مع وحدة السودان على اسس جديدة لا مع غيرها و هو صاحب احلام كبيرة تبدا من السودان و لا تنتهى عنده بل توصل الى موقفه من وحدة السودان عبر احلامه الكبيرة تلك التى تمتد من القاهرة الى الكيب تاون. و فى تلك الحوارت والذكريات الممتده على طول الطريق تناولت معه سنوات بدايته الاولى وحتى مدرسة رمبيك الثانوية و سنوات اللجوء ، سنوات الانانيا ، سنوات شرق افريقيا ، الولايات المتحدة الامريكية، ما بعد اتفاق 1972 و الانانيا الاولى ، سنوات الحركة الشعبية و لاسيما البدايات. و بالمصادفة فاننى اسجل هذه الملاحظات فى زيارة للجامعة و الولاية التى امضى فيها الدكتور جون قرنق نحو ثمانى سنوات من سنواته التسع فى الولايات المتحدة الامريكية و قد اتاحت لى مكتبة جامعة ولاية ايوا –إمز الضخمة الرجوع الى معلومات متنوعة عن احداث و شخصيات فى متن هذه المقالة. و قد اخترت التركيز على شخصيتين هامتين فى حياة الدكتور جون قرنق و فى مصادر ثرائه الفكرى و السياسى و هما ليس مجرد شخصين ردد الدكتور جون قرنق اسمائهما وانتهى الامراو شارك مع احدهم فى العمل الحركى(رودنى) و لكنهما يمثلان و يعبران عن تيار سياسى وفكرى ، جذرى هام داخل مجموعات (البان افريكان) التى ينتمى الى مدرستها بصدق الدكتور جون قرنق و يعتبر واحدا من الناطقين باسمها. احد الشخصيتين صديق و معاصر و زميل كفاح و رؤية مشتركة معه هو البروفيسور والتر رودنى و الاخر اثر على نحو كبير فى مسالة الابعاد التاريخية لاطروحة السودان الجديد و هو البروفيسور السنغالى الشيخ انتا ديوب واحد من زعماء المثقفين الافارقة الجالسين فى مقدمة الصفوف و قد كان لهما من ضمن عوامل اخرى قدرمهم فى حياة الدكتور جون قرنق. و الشخصية المحورية الاخرى التى تناولتها فى هذه المقالة لسبب مختلف هو المهاتما غاندى فى محاولة لاعاده قراءة لمواقفه من قضايا وحدة الهند على اسس عادلة و العلمانية و المقاومة السلمية و هى قضايا متداخلة و ذات اكثر من صلة بما يجرى فى السودان. تتناول المقالة ايضا احداث و شخصيات شكلت المناخ العام الذى اثر بشكل مباشر فى بلورة رؤية و شخصية الدكتور جو ن قرنق دى مبيور و هنالك بعض الشخصيات و الاحداث التى تطرقت لها ذات صلة غير مباشرة و لكنها تصب فى المجرى العام بان قضايا التحرر و العدالة الاجتماعيه هى قضايا ذات سمات و خصائص انسانية عامة و عالمية. و هذه الملاحظات الاولية علها تجاوب على بعض اسئلة الشباب ذوالبصائروالعزائم الحية و علها ايضا تشحن رصيدهم الفكرى و السياسى ببطاقة جديدة و ترد القليل من بضاعة سلفت و دين مستحق للدكتور جون قرنق. و فى ذكرى حواراتنا وعملنا معه من اجل الناس العاديين فى الرصيف و هامش الحياة و بعضهم ” من هول الحياة موتى على قيد الحياة” (نجيب سرور) و لا يزال الحوار مع الدكتور جون قرنق لم ينقطع و لا تزال روحه المرحة المطبوعة بالدعابة والسخرية اللازعة التى ترصد مفارقات الحياة و الوجود و حواراته المثقفة لحمتها و سداتها الفكر الانيق وهولا يكل ولا يمل فى نشر رؤيته والدعوة لوحدة السودان على اسس جديدة. و الشخصيات الواردة فى المقالة كثير منها من الابطال الشخصيين بالنسبة لى و الذين اشكرهم على المساهمة فى تشكيل عالمى الداخلى و لهم افضال شخصية على ففى سنوات الحرب والرهق وإغراءات النفس باختيار ايسر السبل واسهلها كان هؤلاء البشر الاسوياء الغائبين الحاضرين يبثون الينا الاشارات عند الملمات و حينما تنبهم الطرق و لطالما سعدت بالتعرف عليهم و قد اجتهدت فى ان احذف كثير من تفاصيل حياتهم المغرية بالتناول واتمنى ان يكون التطرق لهم قد اضاف على نحو جيد لهذه المقالة و لم ينتقض منها.
ذات مرة و نحن نواصل مناقشة امتدت طوال فترة المفاوضات و حتى مجىء الدكتور جون قرنق للخرطوم و كان يرغب فى اقناعى بالمشاركة فى جهاز الدولة لما بعد الاتفاقية و مؤسسات الحركة الشعبية و ذكرت له فيما يخص جهاز الدولة فانى اود التصويت لمجموعة هى اقلية شاركت فى حركات التحرر ولم تشارك فى جهاز الدولة و ذكرت له عدد كبير منهم فاجابنى ساخرا ” لماذا تصوت لاقلية لا تكسب عليك التصويت لاغلبيتنا التى ستكسب و تشارك فى جهاز الدولة و تغير المجتمع فى ان معا” . و بعد الاتفاقية لاحظت مثل اخرين تنامى النزعات الفردية و السعى لحل القضايا الشخصية و الزهد فى التضحية من اجل الاخرين والقنوط احيانا من امكانية التغير و غياب النموذج الذى يشعل الحماس فى خوض المعارك من اجل التغير فى بعض الاوساط لاسيما الشباب والعالم من حولنا كله يمر بظرف دقيق ومخاض مؤلم يحجب الرؤيا الصحيحة احيانا ولا نرى الا ضباب كثيف و تكاد تغيب النماذج التى تصنع الشجاعة فى زمن الجوع و العولمة و لذا فان هذه المقالة ترغب فى استعادة نماذج بشرية خيرة و تاتى على اسماء ذات حضور و رنين و جرس مكانه الحياة لا اضابير الكتب والمكتبات و المتاحف و لان المضى نحو المستقبل يحتاج للتوقف عند الماضى ولا يمكن قياس نجاحات الحاضر و فشله الا بالرجوع بالماضى الذى نحاول الرجوع اليه بعيدا عن زحام المعارك السياسية و ضغوط الحياة اليومية و نستعيد هؤلاء البشر الذين يزودون النفس و رئة الحياة بهواء نقى و من المدهش إن قضايا الامس التى واجهتها جميع الشخصيات التى توقفت عندها لا تزال فى جوهرها و اعماقها و كانها قضايا اليوم، ونحن جميعا نحتاج للتوقف عند تلك الشخصيات حتى نتزود بقطرة ماء قبل ان نقطع صحراء الربع الخالى. ولابد من القول ان هذه المقالة و الحديث الوارد بها عن الدكتور جون قرنق دى مبيور لم يكن المقصود منه مطلقا تناول سيرته وحياته ذلك مكانه سياق مستقل اذا ما اسعفتنا الحياة ببقية لرسم صورة إنسانية عن قرب للدكتور جون قرنق دى مبيور كانسان ومفكر، مثقف ثورى،زعيم و قائد، و مناضل من اجل الحرية . منى و من اخرين كثر عايشوه على مدى سنوات و ماورد عن الدكتور جون قرنق اقتضته القضية مدار البحث و هى كيف توصل لمصادره الفكرية و السياسية و ماهى هذه المصادر.
ولابد لاى حديث رصين و بحث متعمق فى شخصيته،البيئة،المناخ و العوامل التى شكلت طريقه و رؤيته و جعلته شخصا اوسع من الحياة و مكنته من ممارسة كل هذا التاثير الهائل و إمتدادته التى ستاتى من ان يتوقف عند مراحل و ازمنة بعينها كانت بمثابة دفقات و موجات قوية دفعت بالرياح فى اشرعته كمفكر و مثف ثورى بارز و مناضل من اجل التغير و التحرير و إعادة البناء الوطنى و فى ذلك من الطبيعى ان تكون الاولوية و البداية فى التركيز على البيئة الداخلية منذ نشأته و مولده داخل السودان ثم التاثيرات الاحقة فى مراحل حياته المختلفة ولكن ما نحن بصدده فى هذا المقالة هو محاولة إبراز صورة واضحة ما امكن ذلك لمرحلتين هامتين ساهمتا بوضوح على المستوى الفكرى والانسانى فى بلورة رؤيته و شكلتا المراجع و المصادر الفكرية و السياسية له دون التقليل من العوامل الاخرى مثل تجربة الانانيا مابعد اتفاقية 1972 و الصراعات السياسية التى دارت داخل السودان بعد الاتفاق و قبله و فى ذلك ركزنا على مرحلتى شرق افريقيا- تنزانيا و فترة الولايات المتحدة الامريكية و الاولى تنزانيا كانت مركز من مراكز الوعى و حركات التحرر الوطنى و منبر من منابر المثقفين الافارقة من ذو الطموحات الكبيرة فى نهضة و وحدة افريقيا و الثانية كلية قرنيل بايوا فى امريكا فى الستينيات كانت فترة معاصرة لقمة نهوض حركات الحقوق المدنية والاحلام الكبيرة للافارقة الامريكان و اطروحاتهم ذات الاثر المتعاظم و التى تتوخى هذه المقالة رسم صورة للمناخ و الشخصيات المؤثرة فى تلك الحقبة و التى تفاعل معها كناشط و مثقف لم يخطىء ذهنه و عينه الفاحصة الصلة بين تلك الاحداث وما يدور داخل السودان و املنا ان يساعد ذلك فى إزالة كثير من التشوهات التى حاول خصوم الدكتور جون قرنق الصاقها به عبر التحيزات العرقية و الدينية ونظرية المؤامرة و المصالح الخارجية فى محاولة لبناء جدار سميك من العزلة بين افكاره و بين من تقدصهم تلك الافكار. رغم ان هذه المسألة قد تمت الاجابه عليها عمليا فى الساحه الخضراء.
من المهم بالنسبة لى ان اذكر وبشكل واضح وقاطع ولا لبس فيه فى مقدمه هذه المقاله اننى من المؤمنين بان اتفاقية السلام الشامل تعد بحق انجازسودانى فكرى وسياسى جرئ لمعالجة قضايا مزمنه راوغت شعبنا منذ الاستقلال وانها نتاج تقاطع مشروعين قديم وجديد مثل احدهم الدولة السودانية ما بعد الاستقلال على نحو عام وليس كامل والاخر مثل احلام المهمشين على نحو عام وليس كاملا ايضا مع ذلك يمكن للاتفاقيه ان تحدث نقله جديده وهى افضل خيار متاح لحل قضيتى التداول السلمى الديمقراطى للسلطه والوحده الطوعيه. رغم الملاحظات وعدم الرضا عن بعض جوانبها عند كل الاطراف الا انها تمثل البديل المتاح، وما يدعو للقلق ان بعض النافذين والمؤسسات القديمه الراسخه لا تقيم وزنا للاتفاق وتتعامل معه على نحو مرحلى. وبديل الاتفاق على الضفه الاخرى لا تسلم الجرة فى كل حين.
الدكتور جون قرنق ربما يكون الاقتصادى الوحيد المتخصص الذى وصل الى قمة السلطة فى الدولة السودانية منذ الاستقلال و لديه افكارعديدة حول إحداث نقلة تنموية تقوم على اساس شامل يستهدف إيجاد صلة عضوية بين الريف و المدينة و لما كانت قضية التخلف و إنتاج ثروات جديدة و التوزيع العادل للثروات و ربط اجزاء البلاد المختلفة ببنية تحتية قوية وهى ذات صلة وثيقة بوحدة السودان احدى اهتماماته العميقة و التى بلور حولها افكار واضحة و محددة و تناولها فى المنابر الداخلية و مع بعض المؤسسات العالمية و غيابه يعد ضربة موجعة حينما ياتى الحديث عن التنمية والتخلف،الاقتصاد و الوحدة، هذا الجانب من شخصيته لم تتح للناس بهجة التعرف عليه.
عرف عن دكتور جون قرنق قوة العارضة و الحجج و النفس الطويل فى التعامل مع خصومه و محاصرتهم وكشفهم و لكنه و هوالاهم يفكر فى ايجاد المخارج و المعالجات و الارضية المشتركة و محاولة النظرة بموضوعية لمازق الخصم و كيفية التعاون معه لايجاد نقله نحو المستقبل. لقد كانت لديه افكار واضحة حول مابعد اتفاقية السلام فى اخر مناقشة لى معه بفندق الهيلتون الخرطوم. و كان دائما ايجابيا ينطلق من الماضى نحو اصلاح المستقبل. ومن المفيد ان تدرك المؤسسة الحاكمة فى الحكم او فى المعارضة انها تحتاج لزيارة افكار الدكتور جون قرنق مرة اخرى اذا ارادت ان تعبر الى الضفة الاخرى من مازقها التاريخى عبر مساومة تاريخية فالدكتور جون قرنق و رؤيته حول السودان الجديد تعد الممثل الفعلى والحقيقى الاكثر دقة و صرامة لقوى الهامش من كل الاديان والاثنيات و النوع، مما يضع قومية مثل الرشايدة و جماهير النساء فى الجانب الذى تمثله اطروحة السودان الجديد من التاريخ و تقع المصالحة الوطنية الحقيقة ووحدة السودان حيثما يقع السودان الجديد. و قضياتان يحفهما غياب دكتور جون قرنق بالحنين والاشواق اليه و يذكراناه والنهار مودع هما المساومة التاريخية التى تعنى الحفاظ على وحدة السودان على اسس جديدة والتنمية الاقتصادية المتوازنة.
الدكتور جون قرنق هدية التاريخ لشعبنا و قد كان قارئا جيدا للتاريخ و من قراءته لتاريخ السودان توصل للصلة و الترابط بين شعوبه و مناطقه الجغرافية المترامية وجيرانه ، بحث باستمرارعن ايجاد الصلة بين الدعوة للسودان الجديد و تاريخه القديم والمعاصر. ويظل التشويه المتعمد وغير المتعمد والدراسة غيرالمنهجية لتاريخ السودان التى ادت وتؤدى الى تزايد البون والتباعد بين اجزاء و شعوب السودان وتكرس الفرقة والشقاق و تقلل من قيمة السودان نفسه وعمق إنتماءاته التاريخية والحالية و المستقبلية والقراءة الصحيحة و الصحية و المتوازنة وحدها هى التى ستدفع بالسودان نحو المصالحة الوطنية الداخلية و التفاعل الصحى خارجيا دون افتعال المعارك بين ماهو افريقى وعربى و شمالى و جنوبى و غربى و شرقى. والسودان الموحد على اسس صحيحة وحده المفيد للعرب و للافارقة و الانتقاص من تاريخ السودان سيؤدى حتما للانتقاص من جغرافيته!! و لذلك التوقف عند الابعاد التاريخية لاطروحة السودان الجديد فى فكر الدكتور جون قرنق هو التوقف بعينه عند قضية وحدة السودان. و الحركة الشعبية لتحرير السودان كمجسد لرؤية الدكتور جون قرنق التى تسعى لاقامة كيان سياسى عابر للاثنيات والاديان واجزاء السودان الجغرافية تعد احد اليات وحدة السودان على اسس جديدة مع إمكانية التوصل لتحالفات عريضة للوصول للسودان الجديد.ولقد ظلت الحركة تمارس دور اكبر من ان يمارسه اى تنظيم سياسى بل اصبحت جزء من عملية البناء الوطنى فهى كيان نادر يجمع قوة مهمة من كافة ارجاء السودان بدات بالجنوبين،النوبة، واهل النيل الازرق و تنتشر فروعها و مكاتبها الان فى بقية اجزاء السودان مما يجعل من عملها السياسى جزء من عملية البناء الوطنى التى تجمع اناس من اعراق و اديان و ثقافات و لغات مختلفة على نحو طوعى فى تنظيم سياسى واحد ولا شبيه لها الا ما قامت به المهدية بتجميع السودانيين من قبائل مختلفة فى اطار واحد وساهمت فى اعادة التشكيل و البناء الوطنى و لذلك فان الحركة الشعبية بالنسبة لى ليست مجرد تنظيم سياسى بل هى جزء من عملية البناء الوطنى التى تجمع (خلق الله ) من كل حدب و صوب و لذا التمسك بها اكبر من مجرد التمسك بعضوية تنظيم سياسى.
فى اعتقادى المتواضع و بالرجوع لمناقاشات عديدة مع الدكتور جون قرنق استمرت لسنوات طويلة. و بمرور متانى فاحص لفترتى تنزانيا وامريكا فى حياة الدكتور جون قرنق و مع اهمية الفترات اللاحقة لما بعد اتفاقية 1972 وفترة دراسته لنيل درجة الدكتوراة من جامعة ولاية ايو-امز و حتى 16 مايو 1983 تاريخ تاسيس الحركة الشعبية لتحريرالسودان فانه يمكن القول بكثير من الإطمئنان إن الدكتور جون قرنق قد خرج من رحم الستينيات و إن الفترة التى تلت ذلك كانت مرحلة طويلة من الهضم و الإستيعاب و المزيد من التعرف على التركيبة الداخلية للمجتمع السودانى. و الجدير بالملاحظة ان شخصية الدكتور جون قرنق و لغته و احلامه كثير ما احس الناس العاديين و عبروا عن ذلك فى اكثر من مناسبة بانه يذكرهم بقادة حركات التحرر الوطنى الكبار فى الستينيات، إنه رجل استمد دمائه و رائحته من احلام حركات التحرر الوطنى العظيمة و ظل على الرغم من تراجع الدعوة لكيانات كبيرة على مستوى العالم و غياب و تمزق بلدان عديدة متمسكا بوحدة السودان على اسس جديدة و الابطال حقا من استشهدوا دون ان يدروا ان الاستشهاد بطولة!!.
ملاحظة اخرى هامة ان الدكتور جون قرنق الشديد الحساسية تجاه مكونات السودان و لاسيما تجاه عاملى العروبة و الاسلام كعوامل هامة و جزء لا يتجزأ من تلك المكونات لم يغفل مميزات و خصائص الواقع السودانى مع احتفاظه بتوجهاته العامة تجاه وحدة افريقيا، و قد بلور اطروحته حول السودان الجديد إستنادا على تلك الخصائص و هى فى محتواها مشروع للتعايش و المصالحة على نحو ديمقراطى و العمل المسلح ما هو الا الية يمكن استبدالها باخريات، و قد عكف على تطوير مشروعه من خلال الوقائع الداخلية للسودان دون القفز الى دعاوى كبيرة لا تاخذ الواقع العيانى الملموس، و فى نفس الوقت كان يدرك ان توحيد السودان يحمل فى داخله بذرة صالحة و نموذج لافريقيا بل يتعداها فى قضيتى التعدد و التنوع التاريخى و المعاصر قضايا ذات ابعاد سودانية، افريقية، و عربية (الجزائر و العراق) نموذجا، عالمية فى ان معا. بمعنى اخر توصل دكتور جون قرنق الى إمكانية و ضرورة وحدة السودان من منصة افريقيا، و هبط بمظلتها للواقع السودانى ، و توصل لرؤية حادة و دقيقة بان قصة النجاح و الفشل فى السودان هى قصة افريقية و عالمية، و هى جوهر مساهمته السودانية ذات الابعاد الانسانية و العالمية لاسيما ان قضايا الاثنيات و الثقافة و التعدد و التنوع فى اطار الوحدة اصبحت هماَ عالميا. و قد لخص كل ذلك بان ينتمى السودانيون قبل كل شىء للسودان اولاَ لان هذا ما يجمعهم، و دعا لمشروع وطنى ( السودان الجديد) قائم على روابط و ارضية سياسية، إقتصادية، و ثقافية جديدة.
كنت اود التطرق فى هذه المقالة لجون لينون مغنى البيتلز العظيم و احد رواد حركة السلام العالمية وذوى البصمات الواضحة عند الشباب فى امريكا الستينيات، و احد ابطال تلك الحقبة حتى إغتياله فى 8 ديسمبر 1980 والذى اكن له اعجابا بلا حدود. ولاسباب متعلقة بالقضية الرئيسية للمقالة ولطول المادة التى جمعتها عنه فسوف اعدها على نحو منفصل فهو انسان يستحق التحية قبل شارات الوداع. و اخيرا اود ان اختتم هذه المقدمة بالقول إننى طوال زمن كتابة هذه المقالة تذكرت العديدين ممن يجدرالتوقف عندهم، بعضهم اصدقاء احياء وشهداء، ولكنى اتوقف عند ثلاثة شخصيات، صديقنا جمال نكروما الذى يجمع العالمين الافريقى والعربى و الذى استمتع دائما بمناقشة قضايا و اطروحات (البان افريكان) معه كل ما التقينا والمناضل العريق للانانيا والحركة الشعبية لتحريرالسودان العم مايكل شار الذى كان يتمنى ان يعود الى جوبا و هاهوذا قد عاد، وعزيزتنا اتونق قرنق مبيور صغرى كريمات والدها شديدة القرب من قلبه والتى لم ينساها فى خطبه التاريخيه فى مفاوضات السلام، والتى هى من اكثر الناس فقدا له.
كان المساء مساء غير عادى وغير قابل للتكرار، المهاتما ( الروح العظمية ) فى طريقه الى صلوات المساء التى ستشهد مولده من جديد رغم انه قد ولد بالفعل كما هو موضح بجلاء فى شهادة ميلادة فى بروبندار – ولاية قجرات الهنديه- فى الثانى من اكتوبر 1869 ولكن مثله لا يولد مرة واحده بل ان ميلادة الحقيقى سيكون هذا المساء الثلاثين من يناير1948.
كان البوليس الهندى يبحث عن مجموعة تنتوى الشر بالروح العظيمه وكانت المجموعه تسابق الزمن خوفا من الاخفاق والجسد النحيل والبالى لمها ندراس كرشماند غاندى وهو اسم مولده الموثق فى شهادة ميلاده هو المستهدف وهو جسد متعب من رحلة طويله وشاقة وقابل للفناء أما الروح العظيمه للمهاتما غاندى فلن يطالها احد بل هى فى طريقها الى الخلود الابدى ذلك المساء.
صادف مولده فى بروبندار- قجرات – ازمنة صعبه تعيشها الهند وبعضها لا يزال!! عنوانها الفقر،البؤس ،الاميه وقبضة صارمه وقتها للمستعمرين البريطانين على مقاليد الامور، ولا ضوء فى نهاية النفق ورغم كل الظلام شق غاندى طريقه وعبر المحيط نحو الكليه الجامعيه بلندن ودرس القانون ونال رخصة المحاماة ثم عاد غافلا للهند وليس بغافل فى عام 1891 .
فتح مكتبا للمحاماة فى بومباى دون ما نجاح يذكر وبعد عامين من ذلك فى 1893 حدث ما سيغير حياة المحامى الشاب وتاريخ الهند بكاملها. ولان الحياة تنتخب من تشاء من ذوى العزائم والارادات أخطأت شركه قانونيه تعمل فى الهند، وذات فرع ومصالح فى جنوب افريقيا، بالتعاقد مع المحامى الشاب كمستشارا قانونى لمكتبها فى مدينه ديربان، ويا له من خطأ لا يغتفر، لاحقا ستدفع الامبراطوريه التى لا تغيب الشمس عنها ثمن هذا الخطأ العظيم وسينتزع محامى مدينة بومباى الشاب، اغلى درة فى التاج البريطانى تم الاستيلاء عليها بالغصب والحديد والنار، الذى دفعت ثمنه اجساد الهنود المتعبه، ومع ذلك فان تلك الاجساد تستطيع ان تغيب شمس الامبراطوريه التى لا تغيب شمسها (ومحبى المهاتما من بنات وابناء شعب السودان على مر اجيال الامس واليوم يتوجهون بالشكر والتحيه !! لتلك الشركة على هذا الاختيار الذى صادف اهله والعاقبه للمستعمرين فى المسرات….). وصل المحامى الشاب الى جنوب افريقيا واصدم ضميرة الحى صدمة عنيفه ورأى بأم عينيه ان المهاجرين الهنود الذين تم جلبهم الى جنوب افريقيا يعاملون كجنس ادنى فى نظام الفصل العنصرى، فى ظل حرمان تام من الحقوق المدنيه والسياسيه وتعرض هو نفسه لمهانات عديده، و قذف به الى خارج القطار لانه اصر على الجلوس فى الدرجه الاولى ولان مكان الملونيين هو الدرجه الثالثة و…..و…..الخ تعرض لها فى الحياة اليوميه. ونسى محامى ديربان مهمته الاولى ( واللعنة على النقود للابد) وتزعم النضال من اجل الحقوق الاساسيه للمهاجرين الهنود فى جنوب افريقيا، واوفى مهمته حقها، غير عابئ او وجل، لاحقا قال المهاتما غاندى معتزا بسنوات نضاله فى جنوب افريقيا، غير متناسيا افضال الحياة وجنوب افريقيا علية ( انا ولدت فى الهند ولكننى صنعت فى جنوب افريفيا ).
كان البوليس الهندى يسابق الزمن للحيلوله دون مجموعة ( نهرام قودسى) وكانت المجموعة تسابق البوليس والزمن للوصول الى الروح العظيمه وقامت بتجهيز كل ما يلزم المسدس سريع الطلقات……!! كان المهاتما فى طريقه الى صلوات المساء، وفى تلك الليلة على نحو اخص كان مثقل الضمير كثير الهموم والمخاوف، خائفاَ على الهند لا على نفسه وهو فى حزن طويل….. طويل نال منه اى ما نيل، دائم الاسى والاسف ان جاء استقلال الهند على حساب وحدتها وتفجر العنف الطائفى، بين الهندوس والمسلمين، صام المهاتما من اجل وقف العنف ومن اجل انصاف المسلمين وذكر ان الهند التى عرفها هى التى تجمع الجميع هندوسا ومسلمين وغيرهم، وبذل جهدا خارقا فى الحفاظ على وحدة الهند التى كانت مركز همه، غير عابئ بالمواقع فى السلطه الجديده كان مستعدا لان يكون على رأس الهند مسلما لينقذ راسها وجسدها من التشظى، قدم عدة اقتراحات من بينها ان يكون وكلاء الوزارات من المسلمين كل ذلك فى ظل تواطئ جماعتين من جماعات المثقفين الطامحه فى السلطه وتراها بلونيين اسود او ابيض كارهة لما عداهما من الوان، مضيقة افق الحياة المتسع دافعة الهند نحو رؤية ذات ظل قصير ( المؤتمر الهندى والرابطه الاسلاميه –نهرو وجناح ) خرجت من رحم الهند باكستان، ومن رحم باكستان بنغلاديش، ولا تزال كشمير فى رحم المجهول، ولايزال الاسى يعتصر المهاتما، وماتزال اموال الفقراء تذهب الى جيوب سباق التسلح. وظل المهاتما على موقفه ضد قيام دولة هندوسيه ومع علمانية الهند، وهو الهندوسى عند مولده المسجل والموثق فى بروبندار – قجرت وفى صورة هى الاكثر اشراقا فى صفحات المهاتما كثيرة الاشراق وحينما التهم العنف الطائفى الهندوس والمسلمين فى كلاكاتا واحده من اكبر المدن الهنديه، صام المهاتما ضد الحرق والقتل الذى لايعرف تميزا وهويه حتى توقفت المواجهات……(فعباد الله هل فينا من يصوم قبل الطوفان الذى سيشقنا عما قريب !!)
فى 13 ينابر 1948 صام المهاتما غاندى مرة اخرى واخيرة ونجح فى جلب السلام بين الهندوس والمسلمين فى مدينة نيودلهى. عند ذلك المساء السرمدى فى 30 يناير 1948 كان المهاتما فى طريقه نحو صلاة المساء والمتطرفيين القوميين الهندوس يغلى مرجلهم ضيق الافق، والذى لا يتسع لتك الروح العظيمه وهم يرفعون الرايات والقيم الهندوسيه ضد صاحبها ومع ذلك فان المهاتما ذهب الى صلوات المساء، وهو الذى قال من قبل اننى عشت حياتى الاولى طفلا ولم اعرف الى اي الديانات انتمى فمن الهندوسيه والاسلام والمسحيه اخذت …….وكان افقه المتسع يستعصى هضمه على القوميين الهندوس، وهم الاغلبية ولسان حالهم يردد بان يشرب غيرهم كدرا وطينا بعد ان يوردو الماء صفوا ومالهم و تلك الروح العظيمه!!.
عاش المهاتما عشرون عاما او يزيد قليلا فى جنوب افريقيا وبدأ اولها فى تدريس سياسه المقاومه السلبية التى الم بها من مصادر عديده ذكر بعضها فقد تأثر بالكاتب الروسى الكبير ليو تولستوى وتعاليم المسيح والكاتب الامريكى فى القرن التاسع عشر هنيرى ديفيد توريو، ومقالته المشهورة عن ( العصيان المدنى) وهو من قبل ذلك نهل من قيم وتراث الديانه الهندوسيه. وذكر المهاتما لاحقا، ان المقاومه السلبيه والعصيان المدنى اقل من ان توصفان طريقته ومسيرته ونهجه المتكامل وغاياته ” نهج الحقيقة والحزم” وارض جنوب افريقيا التى وطأها المهاتما غاندى ستحبل (بالحقيقة و المصالحة). شارك المهاتما فى اثناء حرب البوير فى الصليب الاحمر وبعد الحرب عاد للدعوة الى الحقوق الاساسية للمهاجرين الهنود، وفى 1910 اسس مستعمرة تولستوى وهى مزرعة تعاونية للهنود بالقرب من مدينة ديربان وفى عام 1914 قدمت حكومة جنوب افريقيا تنازلات هامة لغاندى وحركته من ضمنها الاعتراف بالزواج الهندى والغاء بعض الضرائب، ولا بد ان المهاتما الذى لا يتورع عن حبه للعدالة، اينما كان وكانت خرج من هذه المعركة شديد الثقة بنفسه وبشعبه فى جنوب افريقيا وفى الهند البعيدة وشديد التذكر لمباراة قادمة ولملايين الهنود الذين ينهكهم الجوع و المرض فى شبة القارة الهندية التى منها اتى واليها يرجع، كان على موعد مع مأثرة انسانية كبرى بعد ان اسهم وساهم وزرع وحصد وتعلم الزراعة وكانت جنوب افريقيا تمرينا اوليا لما سياتى ، التى ستثمر مؤتمريين هنديين فى جنوب افريقيا وفى الهند وسينجب المؤتمر الهندى فى جنوب افريقيا، شخصيات كبيرة من رفاق مانديلا وكرست هانى امثال احمد كاثرادا رفيق سجن مانديلا الطويل واسماعيل،فاطمة مير ويوسف دادو الذى سيرحل فى اوربا وتقاتل جنازته وهى فى طريقها الى جنوب افريقيا وجي ناندو النقابى واول وزير مواصلات فى حكومة مانديلا الاولى والذى يعشق النساء والنضال وتحكى قصته تلك بطريقة عذبة زوجته الكندية، فى كتاب يؤرخ للسياسة و الحب.
حزم المهاتما حقائبه وقضاياه وعاد راجعا الى الهند على موعد مع التاريخ وفقراء الهنود ليس فى مكتب محاماة فاشل فى بومباى بل فى محاكمة تاريخية للاستعمار ومرافعة ضمن المرافعات، الاكثر نجاحا على طول تاريخ التصدى للاستعمار الحديث، وماثرة قابلت القوة بالحقيقة والحزم كان ملهمها الاول قائد سياسى وروحى وعلمانى، دونما انفصام بين هذه المكونات وكان عاشقا للهند بمكوناتها المتعددة اثنا وديانات ونوعا ممثلا فى النساء الاكثر اصابة بالظلم فى المجتمع الهندى والانسانى، وكان ما خلف المهاتما بجنوب افريقيا امامه فى الهند.
كان المهاتما فى طريقه لصلاة المساء الاخيرة، شق الطريق اليه نهرام قودسى وصديقه نارايان ابتى ويعاونه اخوه قوبل يملأ قلوبهما التعصب وضيق منظار الحياة مع اتسعاها وابعدا فتاة تكاد تحجب المهاتما عن مرمى النيران وان لم تبتعد سيفشلا فى مهمتهما،الزمن و البوليس يطاردانهما مع توتر فى الاعصاب وهم حضور عند الروح العظيمة.
وصل المهاتما الهند، قادما من جنوب افريقيا يتمتع بثراء وغنى واسع بعد ان حصد التجارب ومقارعة الاستعمار، لا المال من جنوب افريقيا وكانت الحرب العالمية الاولى فى بدايتها تشد ثوب بريطانيا فى اتجاه، وغاندى سيشده فى الاتجاه المعاكس وبدا فى اختبار الارض الجديدة ممسكا بحبال الصبر و الحكمة ، الحقيقة و الحزم، شخص الداء وقدم الدواء ذو الجرعات الطويلة و الامبراطورية العجوز تحتفظ بافضل عقولها فى الهند تراقب نشاط المحامى الشاب ولديها تقارير مفصلة عن مواقفه فى جنوب افريقيا ويبدأ ( جرالحبل) غير المتكافىء بين طرفى القوة و الغطرسة و الحقيقة و الحزم تدرك عقول الممثلين للامبراطورية التى لا تغيب الشمس عنها، ان الارض تمور وتدور فيجيز برلمانها فى عام 1919 اعطاء سلطات طوارىء لمكافحة النشاط الثورى و النشاط الثورىفى الهند بطبعه وتاريخه الانسانى، لا يكافح وبموجب لائحة الطوارىء وفى اعظم اختبار لها ترتكب مجزرة ارمستار الشهيرة فى عام 1920 و مقابل القوة والغطرسة، يطرح غاندى الحقيقة بحزم وهو فى ريعان الشباب ممتلىء بالطاقات طرح حملة عدم التعاون مع السلطات الاستعمارية، و استقال المتعلمين من الوظائف العامة، قاطع الهنود المحاكم ، ارجعوا الاطفال من المدارس، واقفلت الشوارع باجساد مكدسة من البشر رافضين التحرك و الانفضاض، رغم الانقضاض و الضرب المبرح من البوليس وتم مقاطعة البضائع البريطانية وطرح غاندى حكم الهنود لانفسهم بأنفسهم وجرب لمس الامبراطورية العجوز فى اهم ادوات قهرها ودافع استعمارها الاقتصاد!! وطالب بوقف استغلال الريف الهندى ووقف تحطيم الصناعات البدائية الهندية وتدمير مرتكزات حياة القرية الهندية وهى قضايا الاغلبية الساحقة من المهمشين الهنود.
اصبح المهاتما رمزا عالميا لثورة الهنود وعاش حياة روحية مليئة بالصلوات و الصيام وانتهت علاقته مع زوجته او كما قال هو “علاقنتا اليوم مثل الاخ واخته ” ورفض تملك اى شىء على وجه الارض ولبس ملابس الطبقات الدنيا فى الهند التى بالكاد تستر جسده، واشتهر بها واشتهرت به مثل كوفية ابا عمار وعاش على لبن الماعز وقليل من عصير الفواكهه وبعض الخضروات احيانا واصبح فى نظر الهنود مقدس وسمى ” الروح العظيمة” وارتفعت النفس فارتفعت المكانة ” دخلوا الى الدنيا فقراء وكما دخلوا منها خرجوا” مقاومته السلمية دون عنف ترجع بعض جذورها الى تقاليد الديانة الهندوسية عميقة الجذور فى التربة الهندية، ارتبك البريطانيين واساطين مكرهم فى وزارة المستعمرات وقلم المخابرات وهم يحاولون التعامل مع ظاهرته وفى قمة ارتباكهم اعطاه زعماء المؤتمر الهندى المجموعة التى تزعمت الحركة على المستوى الوطنى اعطوه السلطة التنفيذية الكاملة بما فيها تسمية خليفته.
لا يزال البحث مستمر حول فشل مؤتمر الخريجين فى بلادنا فى اكبر مهامه بناء دولة حديثة على الرغم انه راى الشعاع و النور الهندى مع بعد المسافة وفشل فى ان يقود حركة مستنيرة مرتبطة بوجود جماهيرى فاعل، لبناء دولة حديثة دون التمسح باستار البنى التقليدية للمجتمع السودانى وسيظل البحث قائم لا سيما وإن جمعية الاتحاد السودانى وحركة اللواء الابيض اولى الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدنى الحديثة، التى انتظمت سياسيا خارج البنى التقليدية وقاومت فى اتجاهين مطلقه سهمها الاول صوب الانجليز، وسهمها الثانى نحو توفير قيادة مستنيرة حديثة مرتبطة بوجود جماهيرى فاعل وهى قضية لا تزال مشرعة، مفتوحة للتداول فى دوائر الحداثة و الفكر ولا يزال على عبداللطيف،عبدالفضيل الماظ، عبيد حاج الامين و الاخرين ينتظرون الانصاف ورد الاعتبار فى ذكرى شرف المحاولة لا سيما انهم عند عودة المهاتما الى الهند كانت نيرانهم موقدة وخيولهم مسرجه وعلى عبداللطيف يطرح الاسئلة الكبرى –ان السودانيين ليسواجميعا بعرب ومن الاوفق و الاوقع مخاطبتهم كسودانيين ثم تاتى امرأة من اسيا البعيدة من اليابان، وتعرج على السودان لتحرر شهادة ميلاد جديدة لعلى عبداللطيف ومصادر الثورة السودانية ولا تزال الاسئلة قائمة تنتظر مزيدا من الاجابات.
عند صلاة المساء الاخيرة اقتربت نيران العنف و التعصب من المهاتما الذى وقف دوما ضد العنف بالرغم من ان اعمال عنف عظيمة وقوى عديدة فى المجتمع الهندى كانت ترى ان السن بالسن و العين بالعين وان غاب حمورابى و البادىء اظلم واربكت هذه القوى خطط المهاتما غاندى احيانا وتكاثرت وتناسلت فى دربه الوعر، من كان يريد ان يوجه العنف ضد الانجليز او من كان يريد ان يصفى حسابات داخلية متعلقة بتركيبة المجتمع الهندى وعلى درب الاخيرة مضى نهرام قودسى شاقا طريقه نحو الروح العظيمة و المهاتما لا يحفل الا بصلوات المساء الاخيرة وهو العازف عن السلطة يعف عند المغنم ولا يخشى البريطانيين وجندهم، ممسكا بعصا السلطة المتمثلة فى نهوض ملايين الهنود خلفه لتحرير الهند مع ذلك النجاح اعترف المهاتما فى عام 1922 ان العنف يكاد يفشل المقاومة السلمية وفى نفس العام ادخل السجن ليخرج فى عام 1924 عام اللواء الابيض فى بلادنا خرج من السجن منسحبا من الحياة العامة مختصرا مهمته وطاقاته نحو توحيد المجتمعات المحلية ثم عاد رويدا رويدا فليس بامكانه الا النضال فحياته تكمن هناك وليس بالامكان تجنب خوض المعارك من اجل استقلال الهند ودعا مرة اخرى الى عصيان مدنى ودعا الشعوب الهندية لرفض دفع الضرائب فى عام 1930 و ستكون كلمة العصيان المدنى متداولة وورافة الظلال على ايام حكم عبود فى السودان تذكرة عبور نحو اكتوبر 1964. دعا المهاتما لرفض ضريبة الملح بالذات و انطلق فى حملته الشهيرة صوب البحر، مكان انتاج الملح وكان نفسه ملحا عظيما لارض الهند تبعته مئات الالاف فى مشهد ما يزال اسراَ ومؤثرا من احمد اباد من كل انحاء الهند وقرى( ومدن الملح) حتى المحيط واعتقل واطلق سراحه بعد وقت وجيز فى عام 1931 ومثلما قدمت التنازلات له فى جنوب افريقيا قدم البريطانيين التنازلات وشمسهم بدات تتجه نحو المغيب وفى نفس العام مثل المؤتمر الهندى، فى لندن، ذهب هذه المرة لا كطالب علم بل مطالبا باستقلال الهند، وممثلا لكل الهند بما تعنيه الهند من كلمة وحضارة وشعوب طلب منه البعض وهو يتاهب لللقاء الحكام البريطانيين فى ارضهم، ان يغير ملابسه ويلبس ملابس تليق بلندن رفض ذلك بحزم وتواضع جم ومثله بالطبع يدرك ان ملابس فقراء الهنود هى تذكرته نحو لندن وعند الصعود الى باب الطائرة تحتاج الى تذكرة صعود وكان يدرك ان المساومة شكلا احيانا تمتد الى الجوهر لم يتوصل لاتفاق مع السلطات البريطانية ومن المعروف فى السنوات اللاحقة ان ونستون تشرشل كان يمقت المهاتما غاندى الذى تحدى جبروته مرارا واثبت تفوقه الروحى وامتلاكه لناصية الحقيقة و الحزم، وعاد المهاتما الى الهند وعاد معه العصيان فى حملة جديدة، وفى 1932 اعتقل مرتين وصام عن الطعام مرات عديدة وطويلة كان صيامه ردا حازما للبريطانيين الذين للمفارقة يخشون موته الذى سوف يزلزل الارض تحت اقدامهم مثل ما يخشون حياته، التى لا محالة ستزلزل الارض هى الاخرى. يبدو لى إن هنالك صلة ما بين المهاتما و مقاومته السلميه و طريقة و نهج الاستاذ محمود محمد طه و قد طرحت هذه السؤال على عدد من الاخوان الجمهوريين الذين اكد بعضهم الصلة على نحو عام و هى قضية تستحق مزيد من التقصى الجاد.
لاحقا وبعد اكثر من ثلاثة عقود من رحيل المهاتما غاندى المناضل عبر صيامه قال بوبى ساندس عضو الجيش الجمهورى الايرلندى الصائم المضرب عن الطعام حتى الموت وعظامه تتفتت، و الجوع يحرق احشائه و القسيس يخاطبه بالرجوع عن اضرابه حتى تقبل روحه و إن لم تقبل فستظل تحوم فى ايرلندا حتى تتحرر، فى صيف عام 1981 كنت اتابع هيئة الاذاعة البريطانية وهى تنقل يوم بعد يوم معركة فريدة بطلها شاب استمد قوته من كل تاريخ الايرلنديين فى العناد ودفع به مرة واحدة فى مواجهة خصومه كان ذلك الفتى هو بوبى ساندس، المولود فى عام 1954 والذى رحل وعمره لم يتجاوز السابعة و العشرون وكتب فى مذكراته اثناء اضرابه عن الطعام، الذى استمر ستة وستون يوما وتابعته وسائل الاعلام يوما بعد يوم “كل الناس عليهم التمسك بالامل و ان لا يفتقده قلبهم و املى فى النصر النهائى لشعبى و هل يوجد امل اكبر من ذلك” جاء ذلك فى مذكراته التى كتبها حتى اليوم السابع عشر وواصل قائلاَ “إن الاكل الذى يتناوله الانسان ليس هو الذى يبقيه الى الابد” “إن قلبى ملىء بالمرارة لاننى اعلم اننى قد حطمت قلب امى المسكينة” ” لقد وضعت كل الحجج فى الاعتبار و قد حاولت تجنب ما اصبح لا يمكن تجنبه” ” لقد فرض على وعلى رفاقى لمدة اربع سنوات ونصف معاملة غير إنسانية” التعذيب الذى الحقته الشرطة ببوبى ساندس، كما ورد فى إفاداته العديدة وفى اشعاره، اخذ مكانة عميقة فى دواخله الانسانية، ولم أقرأ فى حياتى لشخص هزنى حديثه عن التعذيب مثل بوبى ساندس واصل قائلا فى مذكراته التى نشرت بعد رحيله الفاجع “لا يستطيعون تجريمنا و سرقة وإنتزاع هويتنا الحقيقة وفردانيتنا” ” ليس بامكاننا تجريم نضالنا من اجل الحرية” “اذا لم يستطيعوا ان يحطموا رغبتك فى الحرية و التحرر فلن يتمكنوا من تحطيمك” فى اشعاره المؤثرة ومعاركه مع رجال الشرطة قال بوبى ساندس “إنهم جاءوا….. إنهم انفسهم لم يتغيروا” عاش بوبى ساندس حياته بحيوية حاول ان يدفع من روحه ومن جسده فاتورة قضية امن بها واصبحت مسألة استخدام الجسد فى القضايا التى يؤمن بها البشر مسار تساؤل و دراسة وعبر استيفن ماكوين فى مايو 2007 وهو بصدد إنتاج فيلم عن بوبى ساندس ان جسدك حينما يكون وسيلتك الوحيدة للاحتجاج مسألة تحتاج لدراسة ووقفة. وغض النظر عن الموقف من القضية الايرلندية الموقف الانسانى لبوبى ساندس يظل يستاثر الخيال ويلفت الانتباه.
وسط إضرابه عن الطعام خلت احدى الدوائر البرلمانية فى منطقة بوبى ساندس وتم ترشيحه من السجن وكانت المفاجاة ان فاز و اصبح عضوا فى البرلمان البريطانى بوستمينستر من داخل سجنه ولم يتجاوز عمره سبع وعشرون عاماَ واعتقد الكثيريين إن فوزه بمقعد غالى ونادر فى البرلمان البريطانى العتيق سوف يجعله يفك إضرابه عن الطعام الذى كان بسبب مطالبه فى تحسين حياة المعتقلين من اعضاء الجيش الجمهورى و معاملتهم كمعتقلين سياسين لا كمجرمين و السماح لهم بالزيارات و ارتداء ملابس عادية وكانت المفأجاه ان واصل بوبى ساندس اضرابه، غير حافل بالبرلمان وما فتحه من افاق جديدة فى حياته، فى اليوم السادس و الستين(66) لاضرابه عن الطعام وبعد ان ساءت حالته الى اقصى حد واصبح يرقد على سرير مبلول من الماء خوفا على عظامه المهترئه بفعل اضرابه عن الطعام وبعد ان توسط العديدين فى ذلك اليوم و قبله، غاب بوبى ساندس عن الحياة مرة و الى الابد ذلك الانسان الجرىء و العنيد الى اقصى درجات العناد، ولم تغب روحه ابدا ولقد ظللت طوال السنوات التى تلت متابعتى لهيئة الاذاعة البريطانية وهى تنقل مباراة إضرابه عن الطعام، التى فى تقديرى المتواضع انتهت بفوز إنسانيته و انتمائه لقضيته غض النظر عن الموقف منها وما يزال يشدنى عناد بوبى ساندس وبطولته.
كان المهاتما غاندى ينحدر من مراتب عليا فى التقسيم الطبقى الصارم للمجتمع الهندى، لكنه وقف مع فقراء الهند وشن هجوما عنيفا على البريطانيين ومحاولاتهم ترسيخ مبادىء التراتب الاجتماعى الاقتصادى الصارمة و الجائرة فى ان معا، وفى عام 1934 عاودت المهاتما عذابات روحه العظيمه، و استقال من العمل السياسى و اختار نهرو خليفة له وبديلا عنه وقام بحمله طويلةعلى طول الهند، مساندا الفقراء الهنود ولان القانون الثابت ان غاندى ليس بامكانه الابتعاد عن قضيه استقلال الهند وتحريرها وإن السياسة ماهى الا وسيلته فى ذلك وهو مناضل من اجل الحرية لا سياسى تقليدى وعاد فى عام 1939(والعوداحمد) وصام لاجبار حاكم ولاية راجاكوت لتخفيف حكمه الاتوقراطى على سكان الولاية ” ما احوجنا الى الصوم الذى يبتغى مرضاة الله ومصالح العباد” واستجابت السلطات البريطانية و المهاتما ما يزال يفتل حبال الصبر الطويلة من الحقيقة و الحزم و بعزم اكيد ولان العدل غايته فميزا ن المهاتما لا يختل وعند ذاك العام يدخل هتلر اوربا جميعها فى الحرب العالمية الثانية و المهاتما لا يتردد فى اقتناص الفرصة نحو حلم طويل رواده من ديربان فى جنوب افريقيا وحتى راجاكوت وطرح شروطه للبريطانين بان وقوف الهند معهم فى الحرب و استخدام مواردها و ارضها و رجالها بشرط الالتزام التام باستقلال الهند الفورى، و المهاتما لا ياكل الفتات من الموائدهو الذى عاش على لبن ماعزته وما ينسجه من قماش بالكاد يستر جسده و البريطانيين عبثا يحاولون تقديم الفتات و يرفض ثم يرفض و تدخل اليابان الحرب و يواصل رفضه فى ثبا ت معززا شروطه فيدخل السجن من عام 1942 حتى عام 1944، كان النضال الهندى من اجل الاستقلال فى خواتمه وكانت حياة المهاتما نفسها تقترب من نهايتها ونحو ميلادها الجديد، كانت شمس بريطانيا تغيب و شمس المهاتما تداوم الاشراق و ستغيب الامبراطورية التى لا تغيب الشمس عنها و تصبح فصولها عادية،احيانا تحت الصفر، و يبقى درس المهاتما لا تغيب الشمس عنه و يقال إن نهرو اكبر تلاميذ المهاتما قد توقف فى بورتسودان و لاحقا سيؤسس رجال عظام على راسهم دكتور طه بليه مؤتمر البجا تيمنا بالمؤتمر الهندى فلهم منا تحية.
وافق البريطانيين، غير مشكوريين على الخروج من الهند بشرط اتفاق المؤتمر الهندى و الرابطة الاسلامية، وقف غاندى فى اكثر مواضع تاريخه حزنا و مرارة ضد تقسيم الهند وراى ان الافضل للهندوس و المسلمين بناء هند موحدة لمصلحة الطرفين، قائمة على العدل وان تطلب ذلك ان يكون حاكمها الاول من المسلمين، تواطأ ضده الطرفان وطرح خيارات عديدة و لا حياة لنداءت المهاتما التى هى عظيمة مثل روحه، ثم يندلع العنف و القتل و الحرق الذى تصلى ناره الروح العظيمة فيتواصل صيامه و حزنه على احتراق الهند وبعد ان صام لوقف ازهاق الارواح فى نيودلهى و تمكن من ذلك بعد ان جاء الى مقر اقامته الهندوس و المسلمين وتناول كوب لبن ماعز و عصير برتقال فى اغلب الروايات. و بعد حين سيذهب المهاتما لصلوات المساء الاخيرة.
فى لقاء صحفى نادر مع قوبل قودسى لابد لمثقفين كثر فى بلادنا يهمهم امر فجرها و ظلامها الذى سيشقها عما قريب من الاطلاع عليه واذا كانت العبرة بالنيات و لكل امرىء ما نوى وعلى قدر اهل العزم تاتى…. ففى ذلك اللقاء الصحفى الذىاجرى فى عام 2000، سئل قوبل قودسى شقيق نهرام قودسى بعد ان خرج من السجن و اعدم اخاه و صديقه ناريان وحكم هو بالسجن لمدة طويله لماذا قمتم باغتيال المهاتما غاندى؟ وكان فى ذلك الوقت قد بلغ من العمر عتيا (80عاما) وهو مع شقيقه من قبل قد اطلقا النار فى 30/يناير 1948 وانهيا حياة ماهنداس كارشماند غاندى، محامى الهند الشاب العجوز لحظة اطلاق النار عليه و اصاباه اصابة قاتلة و اخطاءا اغتيال المهاتما الروح العظيمة لا ن الروح العظيمة تبقى فى سفر الخلود.اجاب قوبل مدافعا عن اغتيال غاندى” ان غاندى منافق ظل حتى بعد مذابح الهندوس على يد المسلمين سعيدا وكلما إزدادت مذابح الهندوس ارتفع علم العلمانية عند غاندى” اقرأ صفحات الجرائد هذه الايام و ستجد اقلام لا تزال تسطر نفس الاجابات فى إنتباهاتها!! ثم سئل فى نفس الحوار هل هذا هو سبب إغتيال غاندى؟ اجاب ” نعم لعدة اشهر ظل غاندى ينصح الهندوس بان لا يغضبوا من المسلمين ماهو نوع هذه الدعوة ضد العنف؟؟ إن مبادىء غاندى عن السلام ملفقة وفى اى بلد حر!!!! فان اى شخص مثله يجب إغتياله رسميا!!!!! لانه يشجع المسلمين لاغتيال الهندوس!!!!!!.
حينما ادرك غاندى مكان الصلوات، كانت هنالك فتاة بالقرب منه تكاد تحجبه عن نهرام قودسى الذى كان يتحرق للحظة التى ينهى فيها مهمته بنجاح و اى مهمة تلك !! إنها بالقطع لا تصدر الا من عقل مهوس و قلب ملىء بالاحقاد حانت اللحظة واطلق قودسى النار فى ذلك المساء 30 يناير 1948 منهيا حياة ماهنداس كارشماند غاندى محامى بوبمباى الشاب الذى لم يحظى بالنجاح فى القضايا الصغيرة على ادراج مكتبه، وكسب قضية تحرير الانسان الهندى الكبرى من نير الاستعمار وحرر نفسه وروحه من ضيق افاقها فنمت شاهقة الى رحاب الانسانية، فاصبح “الروح العظيمة” (المهاتما) ولكن نهرام اصاب مهنداس كارشماند و اخطا المهاتما لان الروح العظيمة تبقى الى الابد. وكانت طلقات نهرام هى القابلة الثانية التى على يدها ولد المهاتما من جديد فمثله على موعد مع الميلاد مرتين وفى ولادته الثانية الابدية يسطع نجمه ويضىء طريق قديم جديد، طريق يلتقى فيه اركمانى العلمانى من وادى النيل و إسبارتا كوس محررالعبيد وصف طويل طويل من الباحثين عن خيرالانسانية وإنسجامها يضم الخليفة العادل عمر بن الخطاب يتمنى لواستقبل من امره ما استدبر ناشرا للخير والعدل ولا ينسى ابراهام لنكولن فى اسبوعه الاخير يخاطب حشدا ويعلن عن تصميمه لاتاحة الفرصة لفئات من السود الامريكان ليحق لهم التصويت!! وجون ويلكس بوث استمع ثم عاد بليل وبالكاد يتذكرالناس نهرام قودسى وجون ويلكس، لكن نارالمهاتما لا تزال حية عند كل طالب حق ومظلوم. قال نهرو فى خطاب تابينه للمهاتما ذلك الخطاب القصير الملىء بالصور و العبارات المؤثرة ” إن المجد قدغادر و الشمس التى جلبت الدفء و الإشراق فى حياتنا قد غابت ونحن نقشعر فى الظلام و البرد” ثم يواصل ” ان الرجل ذو النار المعروفة قد غيرنا نحن ايضا ومن ناره من تلك النار فان الكثيرين منا اخذوا شرارة و جزءا من لهيبها هى التى اعطتنا القوة للمضى فى الطريق الذى اخطته” ” و لذى حينما نمجده فاننا ايضا نمجد انفسنا” ” ان المهاتما قداصبح موجودا فى نفوس الملايين و الملايين” لاحقا وقبيل شنق نهرام و صديقه ناريان قال مبررا فعلته ” ان غاندى سبب إنفصال باكستان وهو الذى دافع عن المسلمين و صام من اجل إنصافهم و إنه لم يقف مع الهندوس”!!! ومع ذلك قبل ان يذهب المهاتما الى اداء صلوات المساء الاخيرة كا ن قد طلب من قودسى موافاته من اجل الحوار ولكنه بدلا من الحوار مع الروح العظيمة قرر ان يطلق النار على مهاندراس كارشمان غاندى ولم يدرك مطلقا ان الروح العظيمة لا تموت بل تبقى فى سبيل الخير تسعى ملهمة الناس على الدوام.
واعتبر إغتيال المهاتما غاندى ماسأه عالمية و انداحت صلوات المساء الاخيرة قبل اطلاق النار عليه من متطرف هندوسى الى نيويورك و استقبلت الجمعية العمومية و الامين العام للامم المتحدة المعزيين (كانت الجمعية العامة سرداق عزاء).
وبعيد ذاك المساء وبعد إغتياله اجتاح العنف الدينى ولا يزال الهند و باكستان. والعنف الدينى والفقر صنوان ووجهان لعملة واحدة و لا يزال فقراء الهندوس يعتصرهم التراتب الطبقى المحكم و لا يزال بعضهم يفر بجلده الى الديانة البوذية و المسيحية للخروج من احكام التراتب الابدى الهندى وفى باكستان و بنغلاديش يجتاحهما العنف الدينى و الفيضانات وهم المسلمين بعضهم مع بعض!! بعض، و روح المهاتما تسافر عبر الازمنه و الامكنة مثل طيور مصطفىسيد احمد التى تعبر دون جواز سفر وكانت روحه حاضرة عند مارتن لوثر كنج، داعية الحقوق المدنية العظيم و مع مانديلا تطارده وحشة جزيرة روبن ولا يزال البحث عن خلاص الروح و العلمانية و إنسجام المجتمعات مع إختلاف الديانات و الاثنيات، لا تزال بضاعة لا غنى عنها فى البحث عن تناسق عالم اليوم. فى عام 1947 والهند تخرج زاهيه فى احتفال بهى باستقلالها كان الغائب الحاضر فى ذلك الاحتفال هو المهاتما غاندى اجدر مواطن هندى بحضور ذلك الاحتفال وكان غيابه رسالة احتجاج وحزن على تدهور العلاقات بين الهندوس والمسلمين وبلادنا ترجع الى منصة التكوين فى عام 2011 كما هو موضح بجلاء فى اتفاقية السلام والتى ببساطة الاشياء خاطبت معضلتين- الصراع حول السلطة- ومن الذى يحكم السودان بعد ان اجابت على كيفية حكم السودان، يتم ذلك عبر انتخابات حره ونزيهة وهى بمثابة الاستفتاء على حق تقرير المصير، شمالا فى اكبر خطوة للاجابة على سؤال الوحده الجاذبه!! والمعضله الاخرى- الوحدة الطوعيه لا القهرية- عبر الاستفتاء على حق تقرير المصير، والذين يتخوفون من ممارسة حق تقرير المصير فانهم سيرتكبون اسوأ واضل اخطائهم ان حاولوا عرقلة ممارسة حق تقرير المصير لاهل جنوب السودان وطريق جهنم ان تقف ضد ممارسة حق تقرير المصير وامامك خيارا وحيدا العمل للوحده على اسس جديده. وهم يتمسكون بكشمير فى غياب المهاتما واللهم وقينا من سيئات اعمالنا ومن شرور انفسنا.
و تظل القضيتان اللتان انفق المهاتما حياته من اجلهما وحدة الهند من جهة و الدين و الحقوق الدستورية المتساوية من الجهة الاخرى، هى قضايا اليوم فى بلادنا. بالنسبة للحركة الشعبية و من يشاركونها الرؤية تبقى قضية تطوير مقاومة المهمشين فى اطار حركة سياسية تمتلك ادوات تنظيمية فاعلة و تتعامل مع قضايا اليوم باساليب اليوم لا الامس و تحسن التعامل مع الملايين من النساء و الشباب و المهمشين و كل طالب حق، اخذين فى الاعتبار، التغيرات الديمغرافية و القضايا الجديدة التى رفعتها الحركة فى برنامجها كقضايا النساء، الهامش، البيئة، …الخ. استيعاب كل ذلك فى حركة حديثة و ذات اطر فاعلة تظل مهمة رئيسية، و تجربتا المهاتما غاندى و المؤتمر الوطنى الافريقى ( نموذج سويتو) فى نيل الحقوق عبر مقاومة جماهيرية واسعة هما الاقرب فى غياب العمل المسلح، اداة الحركة الشعبية لتحرير السودان ما قبل اتفاقية السلام.
المكان شرق الاستوائية و الزمان خريف عام 1988 من القرن الماضى و الامطار تهطل بغزارة و نحن فى رحلة طويلة بدات عند الحدود السودانية الاثيوبية فى جبل رعد على امتداد نهر السوباط الذى يفصل! او يوحد! اثيوبيا و السودان، كانت تلك الرئاسة المتحركة لدكتور جون قرنق دىمبيور رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان والقائد العام لجيش الشعبى لتحرير السودان، كانت المرة الاولى التى اعمل فيها مباشرة تحت قيادته وفى رئاستة المتحركه وقد طلبنى للعمل معه من قيادة الحركة الشعبية بالنيل الازرق وهى المحطة الثانية التى عملت بها تحت قيادة القائد سلفاكير ميارديت، وصلنا بعد رحلة طويلة وعلاقة سيئة بين الطريق والامطار وعربات الرئاسة الى منطقة نرويجان على ضواحى وطرف مدينة كبويتا المحررة ، كان الجوء حارا ، السحب تتجمع بكثافة والشمس تلهب باشعتها المعسكر وكأن ذلك وحده لم يكفى فقد اصابتنى حمى الملاريا ولم تكن بالطبع هى المرة الاولى فى حياتى لكنها كانت مختلفة. فمن هم حولى يضايقهم لهيب الشمس ولسعات الهواء السخن ( سموما) وقد كنت فى طقس شتوى يحتاج الى غطاء وبطانيه و للملاريا طقوس مختلفة، وكان هنالك فتى صغير السن متعدد المواهب أتى الى الحركة الشعبية من ريف بحر الغزال، لم تصادفة مدينه سوى كبويتا بعد حين، كان يقوم على خدمتى و يطرح على اسئلة عديدة لم يرى الشمال مطلقا وشرع فى رؤية الجنوب لتوه وعالم المدن والمبانى الثابته من مدينة كبويتا!! وتدور- لديه اسئلته عن الحرب اسبابها ودوافعها ونتائجها وعن اعداء حقيقيين ومحتملين ومتوهمين وزائفين من اسئلة ( الجلابة ) جنس ام انس ام رجس ( حكومة الخرطوم) التى تصدر الشهداء وتستورد القتلى ( السودان الجديد ) الذى يردده جون قرنق صباح ومساء والذى يطرح اسئلة مثلما يقدم اجابات، كان ذلك الفتى يهتم بشكل خاص بمغزى ومبرر وجودى فى الحركة الشعبية واختلاف الالسن والالوان ويتعاطف معى بلاحدود لاسيما بعد اعتداء الملاريا غير المبررعلى واعتصر ذاكرتى لاتذكر اسمه الثانى واتعرض لخيانه، قال لى مجوك ” يا بنج انا قمت بمبادلة قماش من ملابسى واتيت لك بلبن من التبوسه ” او هكذا قال: وقلت له ان ذلك لا يفيدنى وطلبت منه البحث عن شاى فأجاب قائلا ان الشاى لا يوجد الا فى رئاسة المدفعية عند انييار ابيو احد ضباط الجيش الشعبى الشجعان والذى استشهد لاحقا ثم ذهب مجوك واتى بالشاى والسكر بعد مدة وجيزة ثم بدأ مسيرة البحث عن اناء يغلى به الشاى ولم يجد الا علبة صدئة واختلط الماء والشاى والسكر والصدا وكان ذلك اجمل شاى تناولته على الاطلاق فى حياتى ثم قال مجوك ان التحرير اتى بنا لمحلات لم يفكر حتى ابوك ( والده) فى زيارتها ، اضحكت عبارتة ادوارد لينو لسنوات اتت وبعد تناول الشاى نمت لنحو ساعتين ثم صحوت وكأن شئ لم يكن وتناهى لمسامع الدكتور جون قرنق مرضى. الذى كان ياخذ قسط من الراحة فى المعسكر فى انتظار اكتمال بعض الترتيبات ليغادر ورئاسته لكيالا بالقرب من مدينة توريت للاستيلاء عليها ولما علم اننى مصاب بالملاريا ارسل احد الضباط للاطمئنان علىِ وموافته اذا شعرت بقدرتى على ذلك، ذهبت الى الدكتور جون قرنق دىمبيور والذى كان من عاداته فى تلك السنوات العمل حتى الساعات الاولى من الفجر ومعه مولد كهربائى يضئ امكنه لم ترى النور منذ بدء الخليقه ونحن فى رحلتنا الطويله من جبل رعد الى كيالا وعلى طول الطريق استمتعت بنقاشات عديده ومثقفه مع الدكتور جون قرنق عن رؤيته لسودان الجديد وكان مهتما بتجارب حركة الطلبه التى ساهمت فى اسقاط نظام نميرى وبمحاولات متعثره قمنا بها لبناء جناح سياسى للحركة الشعبيه بعيد الانتفاضة واقترحنا تسميته ( جماعة الخبز والسلام والتحرر ) ثم تحدثنا فى ذاك اللقاء عن تاريح السودان فسألنى الدكتور جون قرنق وهو يتحدث عن علاقة السودان بحضارات وادى النيل القديمة وان حضارة وادى النيل تنتمى الى افريقيا وانسانها الاسود……الخ وعن ايمانة بتوحيد السودان على أسس جديدة لمصلحة كافة اهلة ثم سألنى هل قرأت للبروفيسر الشيخ انتا ديوب فاجبته بالنفى فتحدث مطولا عن الشيخ انتا ديوب وعن رؤيته لتاريخ افريقيا وكان ذلك من الموضوعات المفضلة فى نقاشاتنا لسنوات طويلة اتية وطلب منى الرجوع للمجلد الثانى لليونسكو حول التاريخ العام لافريقيا الذى تحصلت علية بعد عدة اشهر فى اديس ابابا وهكذا نمت وتوثقت علاقتى بكتابات الشيخ انتا ديوب.
فى السنغال والتى ينحدر بعض سكانها من هجرات من قبائل نيلية هاجرت من نهر النيل وفروعه الى بلدان غرب افريقيا ولا زالت لغاتها والاسماء شديدة الشبهة واحيانا التطابق مع القبائل النيلية فى السودان ودكتور جون قرنق نفسه ينتهى أسمه ( بديوب) والذين راسلوه عبر البريد الالكترونى يجدونه فى عنوانه اسم ديوب. ولد العالم السنغالى الكبير البروفيسر الشيخ انتا ديوب فى ديسمبر 1923 فى منطقة ديوريل وهى منطقة تذخر بعلماء الاسلام والتاريخ الشفاهى ويهتم اهلها بالتاريخ والمؤرخين. ولد انتا ديوب وبلاده ترزح تحت وطأه الاستعما ر تدرج فى مراحل تعليمه الاولى بنجاح وتفوق ولان الدول الاستعماريه تحتاج لبعض المتعلمين وعلى نحو مبرمج ومعلوم وكم من متعلمين كثر خدموا الاستعمار وفق تلك البرمجة ولكن اخطأءت السلطات الاستعمارية مثل خطئها مع محامى بومباى الذى اتضح انه مهاتما وابتعثت انتا ديوب لباريس لنيل درجة الدكتوراه وكان مجال اهتمامه الفيزياء والكيمياء ومن المتوقع ان ينال درجته فى احدى تخصصاتها العلميه ولكنه متورط ومنغمس مثل سكان منطقته فى العلوم الاجتماعية والتاريخ وباريس ودوائرها الاكاديميه متورطه مثل بقيه اوربا فى المركزية الاوربيه التى ترجع العلوم والثقافة كنتائج للعقل الاوربى وما عداها دونيات لا يحفل بها فى الغالب ، يأخذ معظم الطلاب الافارقة قسمتهم من العلوم والتدريب كما ارادت اوربا دون الدخول فى المماحكات بل ان بعضهم لا يذهب بعيدا اكثر من التمتع باستهلاك منتجات التطور التكنولجى والثورة الصناعية المتسارعه ويتحرق للاندماج فى مجتمعه الجديد مظهرا ويبحر فى تمزيق جوهر الذات لتتوأم مع المدنيه والحضارة.
كان انتا ديوب مختلفا ومتميزا وعنيدا لم يتعلق بأهداب اوربا بل كانت روحه وعقله الخاصين فى مصر القديمه تؤرق ذهنه مفارقات الحياة الانسانية والنظره الدونيه التى تلاحق الافارقة السود اينما حلو وكانهم اتوا من عالم غير عالم الانسان ولان انتا ديوب جريئا ولا يتورع فى ان يتحدى المسلمات وقد كان على موعد مع التاريخ. تاريخ قديم ينقب فيه وتاريخ جديد يصنعه تؤرقه أسئلة تطور الحضارة الانسانية والنظرة الدونيه التى لحقت بالانسان الافريقى الاسود كمستهلك للحضارة والمدنيه العالمية وغير مساهم ومنتج لها ظل انتا ديوب يردد حتى رحيلة ان مساهمة الافارقة السود فى الحضارة الانسانية العالمية اكبر مما هو معترف به وان الاعتراف بمساهمتهم مقدمة مهمه لتصالح الاجناس البشرية لبناء مستقبل متوازن على الارض وربما السماء وان الاعتراف المتبادل هو الذى سيبعدنا عن النظرة الدونية للاخرين والتفوق عند البعض الاخر وارث ثقافة العبيد والتى تستند على ان هنالك عبيد واحرار وان العبيد لا حضارة ولا ثقافة لهم، ومن الغريب ان الدارس اليوم لظاهرة العبودية سيجد انها شملت كل الاجناس من اسبارطه واثينا القديمة الى كافة الاجناس ولكن نواقصها الصقت بالانسان الاسود دون غيره حتى نحن فى الالفية الثالثة. ونحن السودانين معنين بهذه المسالة اكثر من الاخرين.
فى القاهرة اجرى معى الصديق فيصل محمد صالح حوارا لجريدة الخرطوم وكان ذلك بعد سنوات من الغياب فى جنوب السودان وتطرقت للشيخ انتا ديوب وتلقيت بعدها رسالة من الراحل الدكتور محى الدين صابر دعانى فيها لمقابلته وحينما التقيته بمنزلة المطل على النيل فى ضاحيه الزمالك اهتم الدكتور محى الدين صابر بما ورد فى الحوار حول رؤية الدكتور جون قرنق للتعدد والتنوع التاريخى و المعاصر وسرعان ما سألنى عن اشارتى لانتا ديوب والذى عاصره فى باريس وتحدث عن سنواته فى غرب الاستوائيه ورسالته للدكتوراه والتى على ما اذكر انها تناولت الزاندى وعن صوره فى منزلة كانت للعذراء امراة سوداء فى كنيسة فرص والتى ذكرها انتا ديوب فى احدى كتاباته واستمر حوارى معه فى زيارات مختلفة للقاهرة و سألته عن محى الدين صابر النوبى وعن رؤيته لحقب ما بعد الاستقلال والتى شارك فى بعضها بفاعلية وعن اغفالها لابعاد ومكونات السودان الاخرى غير العربيه وغير الاسلامية والحاجه للاعتراف بمكونات السودان جميعا وان بلادنا وانسانها وشخصيتها نتاج حقبا طويله من التطور التاريخى والانسانى واهتم بالدوافع التى حدت بنا للانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان ونحن القادمين من شمال السودان.
ان الانتقاص من تاريخ السودان سيؤدى فى خاتمة المطاف للانتقاص من جغرافيته فتوجدالجغرافيا الفاعله حيث ما يوجد التاريخ والرؤيا ذات الوضوح و السعة. ولابد من العوده لبدايات تاريخنا، العوده الى ما بعد سنارعبدالحى الى حيثما عاد الشيخ انتا ديوب فى تفاعل مع القضايا المعاصره وفى تطلع نحو بناء مستقبل مشترك والانطلاق من التنوع والتعدد التاريخى والمعاصر.
فى باريس نشط انتا ديوب فى العمل السياسى الافريقى وواصل بحوثه التى شكلت لاحقا اثره البارز فى الدوائر الاكاديمية و العلمية حول دور السود فى حضارة وثقافة العالم ومدنياته ولم يقف مشدوها عند صورالحداثة ومنتجات الثورة الصناعية فى المجتمع الفرنسى بل اخذ يبحث عن جذورها ونفذ الى ما بعد الصورة ونظر خلف الاطار وتمتع يوما بعد يوم بثقافة واسعة ونقب ودرس واصبح عالما للغويات و التاريخ و علم الاجتماع ولم يترك الكيمياء و الفيزياء ممسكا بقضية حياته الاولى على نحو مستميت وبعقل جبار باحثا عن ادلة جديدة لاصول الحضارة الافريقية القديمة و المبادئ المشتركة لحضارة افريقيا و العودة بالانسان الافريقى الاسود الى مجرى التاريخ الانسانى، بعيدا عن التهميش الذى لحق به ساعيا نحو مصالحة انسانية كبرى ومن هنا تاتى اهمية بحوثه من الناحيتين السياسية و الانسانية ، بالنسبة لبلادنا السودان التى لن ينصلح حالها مالم تتصالح مع واقعها وواقائعها التاريخيه و المعاصرة وان تكتشف القواسم المشتركة بين مكونات المجتمع السودانى وما حوله من جوار و الاعتراف بالمصادر المتنوعة و المتعددة دون تجزئة عملت على تشويه الانسان والشخصية السودانية بل ابعدته عن مصادر منعته ووحدته، هكذا تاتى العودة الى انتا ديوب فى ضرورة وقف عملية الحاق الافارقة السود بالثقافات الانسانية الاخرى ووقف التجاهل المستمرلمساهماتهم الجليلة فى الحضارة الانسانية مما ادى الى نظرة دونية تجاه الانسان الافريقى ، كرست الانقسامات على مستوى الدولة الوطنية فى كافة انحاء افريقيا وعلى مستوى التفاعل الانسانى العالمى وينطلق العالم الجليل الشيخ انتا ديوب بان الحضارة الافريقية هى الاقدم واثرت ايجابا فى الحضارات الاخرى دون ان تعطى نصيبها من الاعتراف وركز على اسهام مصر، وبمصر عنى انتا ديوب منطقة وادى النيل هذا موثق فى حوار تلفزيونى مسجل معه ، عن منطقة حوض وادى النيل وحتى غرب افريقيا وبذلك راى انه لا يمكن المصالحة بين افريقيا و التاريخ الا بالعودة الى مصر، ووادى النيل اصل الحضارات وان الثقافة و العلوم فى العالم المعاصر تدين فى ازدهارها لحضارة الانسا ن الاسود فى وادى النيل و نقب انتا ديوب فى العوامل الانثربولوجية و اللغوية وعقد مقارنة بين اللغة المصرية القديمة و لغات قبائل الولف فىالسنغال و لغات القبائل النيلية وتحدى اطروحات المركزية الاروبية فى عصرها الذهبى القائله ان اصل الحضارات شمال اوربا وانها انتقلت جنوبا و عبثا حاول المشرفين على رسالته للدكتوراة اقناعه بلغة ناعمة وخشنة ، وهو القادم من الريف الافريقى الذى اذا اراد ان يندمج فى دواوين الطبقة الوسطى و يكون من اصحاب الالقاب فى اوربا ما عليه الا ان ينحنى سمعا و طاعة ، لكن انتا ديوب كان صاحب رسالة اخرى ودخل فى معركة كبيرة سوف نتطرق لها لاحقا واعطى انتا ديوب فى بحوثه الاجيال الجديدة من المثقفين الافارقة ايمانا اكبر بجذورهم و فاعليتها و امكانية قيام مصالحة حقيقة بين الافارقة داخل دولهم الوطنية وبينهم وبين التاريخ الانسانى وامكانية الدعوة لوحدة افريقيا ودولها الوطنية على اساس خصائص التاريخ العامة المشتركة ومن هنا تاتى العلاقة القوية بين الشيخ انتا ديوب و الدكتور جون قرنق دى مبيور و قد اضحت اطروحه انتا ديوب فى صياغها و استنتاجاتها العامه مع ربطها بخصائص الواقع السودانى وتاريخه الخاص شكلت مكونا هاما فى اطروحة السودان الجديد عند قرنق مبيوراتيم ، ولان الاحلام هامة فان افريقيا لم تخلو من صور شاعرية عند انتا ديوب ، يشارك الدكتور جون قرنق دى مبيور انتا ديوب نظرته الثورية تجاه رد الاعتبار و اعادة واستعادة التاريخ و الماضىاالافريقي وضرورة استخدامه كعامل من عوامل الوحدة لا الشقاق ، اطروحات انتا ديوب شكلت مصدرا خصبا للابعاد التاريخية لفلسفة و رؤية السودا ن الجديد عند الدكتور جون قرنق دى مبيور واى دراسة رصينة للمصادر الفكرية و السياسة التى نهل منها الدكتور جون قرنق دى مبيور لابد ان تتوقف على نحو مطول عند انتا ديوب وقرنق مبيور اتيم المؤمن بضرورة ربط الحاضر بالماضى تجاه البحث عن مستقبل افضل و اجمل ، وجد فى انتا ديوب مساندا قويا يعطى مشروعية تاريخية لمشرو ع السودان الجديد واقامة وحدة السودا ن على اساس صلد وصلب بالنظره لماضى الشعوب السودانية بل الدكتور جون قرنق ذكر فى احاديث و حوارات عديدة الروابط بين افريقيا و جوارها الاسيوى العربى ومعلوم ان العرب الذين يقطنون افريقيا اكثر من الذين يقطنون اسيا ولم يسعى الدكتور جون قرنق دى مبيور فى دعمه القوى لاعادة الاعتبار للماضى الافريقى ومساهماته الجليلة بان يضعه فى تعارض و تضاد مع مكونات السودا ن العربية و الاسلامية بل عبر مرارا مثل ما عبر مانديلا بان الاسلام و اللغة العربية ينتميان الى اللغات و الديانات الافريقية ومن المهم الاعتراف بان مصالحة السودان مع تاريخه على نحو من الحقائق والانصاف يدفع اتجاه وحده السودان.
افريقيا نفسها عند انتا ديوب كانت حقلا رئيسيا لبدايات التدين الانسانى و المحاولة للتعرف على اله خالق للكون واثبتت صحة الاكتشافات اللاحقة ، ان احلام انتا ديوب واطروحته العلمية فى وقائعها المثيرة للجدل وللذهن الانسانى وفى تحدياتها و تجلياتها المعرفية لكبار المؤرخين وعلماء الاجتماع و اللغويات الاوربيين ، و المرارة التى احسو بها تجاه هذا التحدى من طالب دراسات افريقى. وقد كان انتا ديوب شيخ (ذو سر باتع).
ولداوؤد يحى بولاد (المهندس) هتف الاسلاميين (عائد عائد يا بولاد) حينها كان زعيما لهم وكان معتقلا كواحدا من قادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم سيحتوى هذا الهتاف كل دارفور، ذهب بولاد للقاء دكتور جون قرنق فى مريدى و ساله: لماذا تركت الحركة الاسلامية وانت كنت من قادتها وقررت الانضمام للحركة الشعبية ؟ فاجاب بولاد: لقد اكتشفت إن الدم اثقل من الدين و هو تحوير لمثل انجليزى و قد عنى داوؤد بولاد فى شرحه اللاحق ان القضايا و الروابط الاثنية تمارس تاثير كبير حتى داخل الحركة الاسلامية كما ذكر لى لاحقا و الحركة الاسلامية من التنظيمات الحديثة التى يفترض ان تبنى روابطها خارج الانتماءات الابتدائية و قد لاحظ البعض مؤخرا انه فى اقسام من الحركة الاسلامية اصبحت الروابط الاثنية مؤثرة فى التيارات داخلها كما ان التساؤل ظل قائما و الذى حاولت ان اجد له اجابة عند عدد من اصدقائى الاسلاميين فالحركة الاسلامية لم تتخطى سقف محدد فى اسناد المناصب الهامة لقياداتها من الجنوبيين ولم تسند لهم وزارات سياديه مثل وزارة الخارجية، المالية، والدفاع مع وجود قادة اسلاميين مخلصين فى انتمائهم دفع بعضهم حياته ثمنا لذلك فهل يرجع ذلك لاى تاثيرات إثنية؟.
واثبتت حياة الدكتور جون قرنق ان حمل البندقية و ما اسهل حملها عند مناضل او مجرم يحتاج لرؤية و مشروع تطرحه للناس قبل ان تشهر السيف او تذهب للحرب بغضب عليك ان تفكر فيما تحارب من اجله او كما تقول الحكمة الصينية (على الرجل الغضبان ان لا يعلن الحرب لان غضبه سيزول ولكن الضحايا لا يعودون) وكان انتا ديوب مصدرا بالغ الغنى اسهم بفاعلية فى النظرةالجدية لتوحيد السودا ن على اسس جديدة قائمة على الحقيقة و المصالحة بين الانسان و التاريخ بين الحاضر و الماضى و المستقبل وانتا ديوب يستحق الاحتفاء من جمهور المثقفين السودانين. وجد الدكتور جون قرنق عند انتا ديوب نبعا فكريا صافيا فى احلامه الكبيرة نحو وحدة السودان على اسس جديدة متسقة مع تاريخه ومنسجمة مع السعى نحو وحدة افريقيا و من الواضح انه لا يمكن المحافظة على وحدة السودان الطوعية الا بالعودة فى جانب من جوانبها للمصالحة مع تاريخ السودان نفسه وقدعمل الدكتور جون قرنق بدأب على استدعاء الابعاد التاريخية و المكونات المختلفة التاريخية و المعاصرة و استيعاب تاثيراتها على الشخصية و النفسية الاجتماعيةالسودانية و هو المفكر و السياسىالاكثر صرامة فى تاريخ السودان الحديث الذىيستدعى التاريخ كمكون رئيسى فى اطروحته و كنقطة ارتكاز فى الدعوة نحو الوحدة و المصالحة الشاملة بين شعوب السودان ولم يتوقف الدكتور جون قرنق عند انتا ديوب وحده بل رجع للكتاب المقدس ومراجع متعدده عن تاريخ السودان.
وفى بحثه عن السودان الجديد يسترجع الماضى فى كل مراحله وحتى بداياته الاولى للعبور للضفة الاخرى من المستقبل كل ذلك مرتبط بالسعى لانسجام وطنى واقليمى يحتفى فيه بعبقرية الانسان و التاريخ والواقع المعاصر علىنحو ديمقراطى و انسانى و من المهم هنا ان ندرك بان المعرفة بالتاريخ تهذب التعامل الانسانى مع السلطة و القوة و ادراك ماضى وحاضر و مستقبل الظواهر و التاريخ الانسانى.
حينما زار الدكتور جون قرنق دى مبيور مصر، للمرة الاولى فى 1997 ورغم ازدحام برنامجه بالعديد من اللقاءات الهامة الح على الذهاب الى زيارة الاثار المصرية القديمة وشد انتباه المثقفين المصريين بمعرفته التاريخيه العميقة واستناده والمامه الدقيق بتاريخ حضارة وادى النيل القديمه فى تعامله مع الحاضر والمستقبل وكان الشيخ انتا ديوب حاضرا و ضيفا جليلا فى مقدمة الوفد الزائر وذات مرة التقينا فىباريس مناضلا مصريا عتيقا وتاريخيا فى حركات التحرر المصرية دهشت لحديثه المطول و تقديره العميق لرؤيةالدكتور جون قرنق دى مبيور و رغبته فى لقاءه وان رؤية السودان الجديد ترتبط فىذهنه بنضالات قوى التحرر الوطنى بل هى امتداد لها فى وجه من وجوهها.
شدد انتا ديوب بان الرجوع الى مصر فى كل الابعاد و الاتجهات شرط ضرورى لمصالحة الحضارة الافريقية مع التاريخ ، ومن اجل بناء جسم حديث لتاريخ العلوم الانسانية و لاحياء الثقافة الافريقية ، واكد ان ذلك العمل لا صلةله بالدعاية و التهريج اومحاولة استخدام الماضىالقديم فىتعميق الصراعات الحالية بل هو عمل دوافعه العميقة ترتكز على تحقيق مصالحة مع الذات كشرط ضرورى من شرو ط المصالحة بين الشعوب الافريقية و التاريخ الانسانى وبالطبع فان السودان ياتى فى المقدمة.
فى عام 1954 دفع انتا ديوب برسالته الى الدكتوراه و التى تم رفضها للطباعة ، غير عابىء بالرفض و صدرت فى كتاب شهير بعنوان ” الامم السوداء و الثقافة ” وخاض معركة شرسة مع النافذين فى الدوائر الاكاديمية الذين بخسوا من جهده و الذى وصفته الدوائر الاكاديمية لاحقا بانجيل التاريخ الافريقى ولان الشيخ انتا ديوب فى رسالته للدكتوراه ورسائله اللاحقه اتى باسانيد علمية اذهلت الدوائر الاكاديمية و فى 1960 وبدعم من بعض علماء اجتماع و مجتمع و تاريخ وبعد اصراره ورفضه المرة تلو الاخرى لتبعية تاريخ مصر لاوربا او اسيا او البحر الابيض والحق هزيمة منكرة بكافة الدعاوى الاكاديمية التى رفعت فى وجهه. اخيرا تفضلت جامعة السوربون العتيدة بعد ما يقارب العشر سنوات واعطيت شهادةالدكتوراة للعالم و البروفسور الشيخ انتا ديوب التى لم يكن اصلا يحتاجها وواصل اصدار كتابه القيم ( حضارة –مدنية ام بربرية) مضيفا مزيدا من الادلة ان المصريين ينحدرون من مجتمع اسود، وتحدى النظريةالقديمة بان الحضارات الافريقية حضارات فقيرة ولا جذور مدنية لها مقارنة بالحضارات الاخرى و جمع ادلة و شواهد علمية عديدة بأن الحضارات الافريقية هى التى اثرت على ثقافات الاغريق و الرومان التالية للحضارة الافريقية ولكن يجب التاكيد بان الشيخ انتا ديوب لم يكن داعية لتفوق حضارة على اخرى عبر اثبات تفوق الحضارة المصرية الافريقية القديمة بل قامت نظريته على ان المجرىالطبيعى و الحق الطبيعى هو ربط الثقافة الافريقية بتاريخ الثقافات العالمى وبانها امتداد و ليس دعوة للهيمنة وهى جزء من المحاولة الانسانية الكبيرة للمصالحة بين الجماعات البشرية تقوم على الحقائق والاعتراف بالمساهمة المتبادلة فى الارث الحضارى و الثقافى العالمى المؤدية لتوازن الحقوق و الواجبات فى عالم اليوم وان الاضطهاد الذى تشهده المجتمعات الانسانية المعاصرة ترجع جذوره التاريخية لهذه المسالة فى جانب من جوانبها.
يرجع تفكير ديوب و مشروعه لارث ثقافى كبير و للتنوع التاريخى لمنطقة غرب افريقيا ولمكان مولده ولم يجد ديوب صعوبة فى مصالحة بين اسلامه وواقع افريقيا التاريخى و المعاصر و مساهمتها فى التاريخ و المساهمة الانسانية وبلادنا السودان معنية باطروحة ديوب بل هى هدية من التاريخ لشعبنا ليعبر نحو المصالحة القائمة على الحقائق ، وقد دفع الدكتور جو ن قرنق مستفيدا من اطروحات ديوب و اخرين بمشروع وطنى تحررى هو مشروع السودان الجديد الذى يستند على التعددية و التنوع التاريخى و المعاصر لشعوب السودان لبناء وطن جديد ، متجاوز للفوراق الاثنية و الدينية و الجغرافية وان الذى يجمعنا هو السودان و قبل ان نكون افارقه ام عرب، مسلمين ام مسيحيين، جنوبيين ام شماليين، من الغرب او من الشرق او من الوسط فلنكن سودانين اولا. و السودان و مثقفيه احوج لانتا ديوب حتى وان تغافله الاخرين فى افريقيا.
وكم تحتاج جامعاتنا ومدارسنا لتدريس تاريخنا البعيد و القريب، القديم و المعاصرعلى نحو جديد ، واضعين فى الاعتبار ان قراءة التاريخ جزء من المصالحة الوطنية. اثر انتا ديوب على نحو واسع فى حركات السود عبر القارات ، لا سيما فى الولايات المتحدة الامريكية وفى الكاريبى ، و مناطق متعددة فى العالم و زعامات كبيرة من زعامات حركات السود نهلت من معين انتا ديوب ولا يزال انتا ديوب مقروءا بكثرة فى دوائر حركات السود ، التى انتهى كثير من زعمائها نهايات ماساوية ، لا سيما فى ستينيات القرن الماضى ولاحقا سنجد ان الدكتور جون قرنق دى مبيور اتيم المفكر و السياسى قد خرج من بوابه الستينيات وتفاعل مع شخوصها ، قضاياها ، احداثها ،اطروحاتها و منابرها الحركية. ما بين تنزانيا الستينيات و كلية قرنيل الجامعية بالولايات المتحدة بالستينيات والتى كانت تعج بحركات الحقوق المدنية وحركات السود فى احدى نقاطها الاكثر علواَ وشهوقا و عبر اكثر ممثليها افصاحا فى التاريخ المعاصر مارتن لوثر كينغ، والتر رودنى، مالكوم إكس،إستوكلى كارمايكل، إنجيلا دافيس…..الخ. ومعلوم ان مصادر الفكر اليسارى التقليدى كان مصدرا رئسيا وهاما فى تشكيل الاطار العام لتفكير الدكتور جون قرنق مع ملاحظه هامه ان الدكتور جون قرنق تمكن من المزاوجة بين التمسك بالمبادىء و الرؤية الاستراتيجية و عدم الجنوح الايديولوجى والانزلاق لحلوله واجاباته السهله من جهة و من الجهة الاخرى ان يكون تقدميا عمليا ذو نظرة نقديه، وقد ساهمت بلا شك دراسته الاكاديمية فى الولايات المتحده الامريكيه ومناهجها المتطوره والرصينه ، فى احداث هذا التوازن المطلوب.
الزمان مساء الرابع من ابريل 1968 ، مارتن لوثر كنغ اطل من بلكونة الفندق فى مدينة ممفيس ولاية تينسى والتى اتى اليها ليقود مظاهرة تضامنا مع عمال النظافة السود مع زعماء اخرين من حركة الحقوق المدنية كان فى ريعان شبابه، 39 عاما وفى كامل تألقه السياسى ، وهو اصغر من حاز على جائزة نوبل للسلام وعمره لم يتجاوز خمسه وثلاثين عاما و قرر توظيف اموالها لمنظمات الدفاع عن الحقوق المدنية للسود و الملونين ، فهو مسجل كخصم خطير عند عدة دوائر وتم تحذيره من اكثر من جهة و اصبح نشاطه مزعجا للكثيريين اطلق عليه عند مولده مايكل لوثر كنغ المولود فى 15 يناير 1929 فى اطلنطا- جورجيا و الذىغير اسمه لاحقاَ ليتطابق مع المصلح المسيحى الشهير فاصبح مارتن لوثر كنغ، كان ذو صلة بالنقابات و بحركات عديده رافضة. ازدادت زعامته يوما بعد يو م و فجاءة اردى احدهم مارتن لوثر قتيلا من على بلكونة الفندق، اشتعلت امريكا و احياء السود و اصبح مقتله يوما للشقاق الوطنى حتى تم الاتفاق على جعله يوما وطنيا فى 1986 للاعتراف بالنضال من اجل الحقوق المدنية و الوئام الوطنى و لايزال خطاب مارتن لوثر كنغ الشهير بعنوان( لدى حلم) و الذى القاه فى النصب التذكارى لابراهام لنكولن فى واشنطن فى 1963 يمتد كصلاة طويلة الى اليوم على الرغم من ان المدة القصيرة التى عاشها الدكتورمارتن لوثر كنغ فانه يبدو اسطوريا و نجما ساطعا ولد حين مات وحضر حين غاب.
فى باريس واصل انتا ديوب ترسيخ اقدامه وبناء مجده عبثا حاول بعض الاكاديمين الاتفاق مع ديوب عن دور مصر التاريخى فى الحضاره الانسانيه وتحدثوا عن ان الانسان الاسود هاجر الى مصر بعد اكتمال بناء حضارتها ، صفعهم انتا ديوب بادلة جديده بأن الانسان الاسود كان موجود منذ البدايه فى مصر ووادى النيل وقدم بحثا فى علم الاجناس وظهور الانسان الاسود واستخدم لاحقا معمله ( لراديوكربون) فى السنغال وتقدم بنظريته عن ( الملانيين-البشره ) وقدم ادله حول ظهور الانسان الاسود والابيض فى ارجاء العالم واستند على شهادة تاريخية هامه غير مجروحه وصادره من اوربا نفسها وهى كتابات المؤرخ الاغريغى العظيم ( هيرودوت) عن ملاحظاته ومشاهداته عند زيارته لمصر ذلك الزمان حينما كانت مصر مركز الحضاره لا اوربا وقد ذكر هيرودت بأن الانسان فى مصر له بشره سوداء داكنه وهى شهادة لم تخدع للتلفيقات التى تخدم اغراض سياسية وذات غرض ورد الشيخ انتا ديوب ( الشيخ ذو السر الباتع) على بضاعة الاوربين ببضاعه رجل من اوربا واختير الشيخ انتا ديوب فى اللجنه العلميه العالمية لكتابة تاريخ افريقيا والتى قامت بعمل جليل و ضخم فى الفتره من عام 1961 الى عام 1986 واصدرت مجلدات اليونسكو الهامه حول التاريخ العام لافريقيا كجزء لا يتجزأ من التاريخ العالمى وهى اطروحه انتا ديوب المركزيه وقد وجد انتا ديوب اعتراضات كثيره فى اثناء عمل اللجنه على افكاره اتى بعضها من جمال مختار! من مصر والان فى مصر تجد اطروحات انتا ديوب قبولا متزايد الاتساع فى دوائر اكاديميه وثقافية مهمه وقد ذكر الشيخ انتا ديوب بأن الاعتراف باسهامات الافارقه السود فى العلوم والديانات لاسيما فى وادى النيل بأنها اضافة حقيقه للهويه الثقافية الافريقية وهو يؤمن بان ذلك يمثل قوة توحد وانسجام داخلى أفريقيا وعالميا.
فى القاهرة وحينما قمت بزيارة المتحف المصرى فى ميدان التحرير دهشت بأن ذلك المتحف يقدم دليلا حيا وقاطعا عبر العين المجردة وهى تتجول بين الموميات والعبقريه الهندسيه ،الفن ،والابداع منتجات علوم الكيمياء والفيزياء والفلك فى مصر القديمة مدللة على صحة انتا ديوب وفى مره اخرى رافقت و راقبت عن كثب الدكتور جون قرنق دى مبيور فى زيارته لذلك المتحف والسعادة التى غمرته وهو يلتقى بأنتا ديوب مرة اخرى فى عام 1997 عبر معروضات المتحف المصرى التى تقف دليلا ساطعا فى صف انتا ديوب.
كان الصباح فى بداياته ونحن فى محطة بحرى للقطارات فى طريقنا الى حلفا القديمه نهاية ديسمبر 2006، ضمن حملة بناء الحركة الشعبية التى تمر وتتقاطع خطوطها مع انتا ديوب والعوده للتاريخ للدفع بقضايا وحدة افريقيا وبلدانها الوطنيه والسودان الموحد طوعا واختيارا هو وحده الذى يمكن ان يخدم العالمين العربى والافريقى وفاقد الشئ لا يعطيه والعرب انفسهم هم الاولى بالاهتمام بوحدة افريقيا لا سيما ان غالبيتهم تقطن فى افريقيا، اى العرب، اكثر من اى قارة اخرى فهم فى كامل شمال افريقيا ومصر، وتواجههم نفس الاسئلة التى تواجه افريقيا ويحتاجون لنفس الاجابات وهكذا كانت محاولات الامس بين عبدالناصر وكوامى نكروما واحمد سكتورى وهوارى بومدين.
قررنا ان نذهب مع جمهور المواطنين فى قطارلا يخشى الزمن ولايحفل بقيمته وقمنا بشحن السيارات التى سنستخدمها فى طريق العوده من حلفا القديمه الى الخرطوم ما يهمنا الان ان المنطقة التى كنا نقصدها شكلت حضورا وهما شاغلا فى أطروحات انتا ديوب والان يتشكل تيار فى طريقه الى الاتساع بأن بدايات حضارة وادى النيل وعلى نحو اخص بناء الاهرامات بدأ فى المنطقة الواقعه شمال الخرطوم و المذهل هو تجاهل حكام السودان وعدم اهتمامهم بتاريخ بلادهم واعادة اكتشافه، بل ان احد الوزراء قد طالب بالتخلص من مقتنيات هامه للسودان وللحضاره الانسانيه جمعاء بالمتحف القومى ولم يسأله احد لا فى الوزارة ولا فى البرلمان!!. وذات مره قال لى سائق تاكسى مصرى لماح وذكى ونحن فى طريقنا من منطقه الهرم ” الله يرحم الفراعنه هم عاشين وميتين عيشونا” فى اشارة لاهميه السياحة.
ذهبنا الى حلفا القديمه وانتا ديوب يرنو بنظراته الواسعه نحو حلفا القديمه نحو تاريخها خوفا من ان تضمره المياه قبل التحقيق والتمحيص والتدوين ويبادلة اهل حلفا الهتافات( حلفا قديمه ولا باريس) وهى سابقة لباريس وان تعددت وتبدلت اسمائها متجاوزين احداث عديده فى رحلتنا وملاحظات عديده ومحطات عده والقطار يزحف على مدى يومين والبرد قارص والتراب الناعم يجد طريقه بسهولة ويسر الى داخل عربات القطار، التراب الذى مره فوقه تهراقا وزارح، الملوك والمكوك ،الكنداكه، العذراء امراة سوداء فى كنيسة فرص وبوهين، مروى، والبجراويه وديانات التوحيد القديمه والمغره وعلوه وزكريا بن جرجة الملك المسيحى السودانى يستقبل فى شوارع بغداد العباسية ودنقلا العجوز والبقط، خيول الاتراك ،الانجليز، واسماعيل باشا، والمك نمر ومهيره و الامام المهدى دنقلاوى من جزيرة لبب يتحدث العربيه واللغة النوبية ( وان تكن دنقلاوى فهو عين الشرف لا تبحث عن الانتماء خارجه) والانتصارات والهزائم والخيانات ود النجومى فى رحلته الاخيره يابى الرجوع رغم توفر الدابه المسرعة، محمود ود احمد، وعبدالله ودسعد
…..و…..و……و……الخ. حتى طريق الانقاذ كثير الحوادث وقليل اجراءت السلامة.
كنا وجه لوجها مع جمهور حاشد استقبلنا فى محطة القطار وازدادت الحشود تقاطرا فى ندوه فى مدرسة بيرم ولم نتوانى عن قول الحقيقة وقلنا ما قاله انتا ديوب عن اللغات والتاريخ النوبى وعن اهميته لانسان السودان وللبشريه جمعا وان التنميه ومروى وكجبار يمكن مصالحتها مع الانسان الذى تستهدف خيره ومع التاريخ والجغرافيا وان اتفاقية السلام جعلت من اللغات السودانية جميعا ( ليس رطانات بل لغات ) لغات رسميه بنص الدستور وتدريسها لا ينبغى ان يتقاطع مع اللغة العربية بل يضيف لثراء بلادنا الثقافى والانسانى ويمهد الطريق لمصالحة وطنيه شاملة قائمة على الاعتراف بالاخرين وحقهم ان يكونوا اخرين. وان اللغات النوبية ارث ثقافى عظيم وتشبث النوبين بأرضهم ولغاتهم لا يصب فى خانة العداء للعروبة او الاسلام بل ان الاسلام نفسه اتى عبر بوابتهم المشرعه للتفاعل منذ الاف السنين.
وعرجنا ليلا بمنعرج اللواء واستبنا الصبح فى دلقو المحس قرية وادعه يحن اليها محى الدين صابرالنوبى وتحن الية وهو يحدثنى عن طفولته فى منزلة المطل على النيل بالقاهرة ومررنا بصوارده وبها بقايا حنين وألفة وتكاد تطوى صفحتها الاخيره بعد ان بعثت وردى حيا يشعل الحب فى سماوات البلاد وربما التقينا فى طريقنا بيعانخى و الفيلسوف اركمانى وبقايا من معبد ابا دماك واسترقنا الليل و السمع عند ميلاد الصباح فى عبرى وارتشفنا الشاى هناك وما زال جيلى عبدالرحمن يغنى ” احن اليك ياعبرى…حنينا ماج فى صدرى … واذكر عهدك البسام.. ولا احد من الكبار يذكر عهد عبرى او اللغة النوبية وعهدها البسام. ومضينا فى صحبة النيل حامل البشر والرسالات الى ارقو وكرمه النزل وكرمه البلد وعبرنا النيل عند بنطون السليم الذى يمضى غير مكترث بالامواج وتارة يتوقف فى عرض النهر وتهمد ماكنته ردحا من الزمان دونما انذار وتتقاذفة الامواج يمينا ويسارا وقد رحب بالوزير الياس نامليل متوقفا عن مواصلة الرحله وهامدا ولا حياة لمن تنادى وفى احدى وقفاته وضعت امراة مولودها فى عرض النهر وهى تحاول الوصول الى مستشفى دنقلا وعند الضفة الاخرى ما زال صوت جون قرنق يتردد ويتمدد فى مساحات الزمان والمكان ( عباد الله فلننقل المدينه الى الريف لا الريف الى المدينه ).
ثم عبرنا مرة اخرى من دنقلا الى السليم وتحدثنا الى المزارعين فى سوق السليم ومحصولاتهم من البلح والبصل والفواكه والفول لاتجد المعزيين والبائيعين والمشترين حيارى ومواسمهم لا تجلب حتى نفقات الانتاج واقمنا ندوة على ظهر عربة (كارو) تبرع صاحبها بأن حولها الى منبر وانطلقنا من بعد ذلك نحو كريمه وحينما ادركناها اطل علينا جبل البركل المقدس فالديانات فى البدء كانت على النيل الذى حفظ تاريخ البحث عن الاله الواحد فى الارض ممهدا التربه حتى ادركتها رسالات السماء للبشر ومازالت نفرتيتى( الجميلة ) يطل عنقها الفاتن على مر التاريخ بلا منافس من كل ملكات الجمال وعارضات الازياء حتى ظهور باريس هيلتون الاخير وهى تنجب اخناتون موحد الديانات فى مصر القديمه بصليب وهلال اصبحا رمزين لاعظم ديانات السماء على الارض ومرت الاديان على النيل ولم تنقطع وخرج النبى موسى من مصر واعتنق اول سودانى المسحية فى عام 38 م فى ارجح الروايات وتحدث الكتاب المقدس عن ارض كوش التى انطلق ملكها زارح الى ارض فلسطين وقامت دول مسيحيه فوق ظهر النيل لما يقارب الالف عام فى شمال السودان وكانت اوربا تحت صولات الفايكنز القادمين من شمال اوربا والذين لم تاتيهم ديانات السماء بعد. وعبرنا الى مروى بيرمنقهام افريقيا التى صهرت الحديد حينما كانت الثورة الصناعية ادقاس احلام ومن المسحية لا زالت هنالك بقيه فى صليب الكحل الذى ترسمه النساء لاطفالهن ويذهب العرسان الى النيل فى موكب اقرب الى التعميد بالماء واهرامات مروى لا تزال شامخة …. ثم ياتى عبدالله بن ابى السرح ولم يتمكن من فتح السودان ووقع اتفاقية البقط فى عام 641 م والتداخل والاختلاط والتجارة ورجال الطرق الصوفية فى غير عجلة من امرهم اخذوا واعطوا ( زور مرزوق خد ليك خبه …. شوف مطر الرجال كيف صب…. كربنا شديد) ( ابو فزعا جرى) يأخذون ايقاعات افريقيا والنوبه تئن وترن وياخذ الشيخ وظائف الكجور الافريقى فتلد المرأه التى لا تلد وتاتى المطرة التى تستعصى عند المحل وكل ذلك بأذن من الله وفى انسجام بين ما وجدوة فى ارض السودان وافريقيا والذى اتوا به وجبل البركل المقدس شاهدا على عشق الديانات ومن النقش والتحالفات بين القوى الاجتماعية الصاعدة تولد دولة سنار واسمها السلطنه الزرقاء والالوان ليس لها حساسية انزاك عاكسة واقع اهلها كما يبدو فى المراة التى لا تكذب فى ذلك الزمان. قامت السلطنة الزرقاء بعد تسع قرون من الدعوه و التبشير المتواصل وساهمت القبائل الافريقية فى دارفور والسلطنة الزرقاء. منفرده ومتحالفة فى نشرالاسلام واوى ادم ام دبالو الثورة المهدية فى جبال النوبة والامام المهدى يرتقى الجبل الى العباسيه تقلى ولم تكن لتنتصر لولا مجهودات النوبة الجليلة الذين يمتد تأريخهم حتى جبل البركل المقدس. وسمى السودان سودان وهو جمع ل( سود) والسودانين فى هارلم- نيويورك كلهم سود من الشاقية ام من الزاندى من الجعلين ام الدينكا من النوير ام الدناقلة من البجه ام الفور وكلنا فى الهم شرق.
عند منحنى سد مروى اطلت علينا قرية الكسنجر التى منها انطلق اولاد حاج الماحى مداح النبى الاوفياء الذين دخلوا القرى والبيوت والمدن والقلوب متصالحين مع الذات يلومون انفسهم ويدعون الى الزهد.
رويدا رويدا وجد الشيخ انتا ديوب اعترافا متزايد به كرائد من رواد المصريات ولغوى وانثربولوجى ومتخصص فى العلوم ومؤرخ وقد كان انتا ديوب مثقف ثورى من طراز رفيع ومقاوم لا يهزم وذو ذهن جبار نافذ لم يكتفى بالانبهار باروبا والسباحه فى التيارات السائده وسبح عكس التيار ولم يتوقف عند الاستيعاب والاستهلاك فى لحظة الحاضر بل انتج بالعودة للماضى الافريقى واكد مرارا ان اعادة اكتشاف الماضى الافريقى ورده الاعتبار له يجب الا يكون عامل شقاق بل يجب ان يسهم فى توحيد الافارقة فرادى وجماعات وربط افريقيا بعضها ببعض شمالا وجنوبا و تمكين الافارقة من حمل رسالة تاريخية جديده ومن اجل مستقبل افضل للانسانية وعدم منحه الدكتوراه الا بعد مجهودات مضنية لا يزال وصمة عار وفضيحه اكاديمية كبيره.
فى عام 1966 كرم المهرجان العالمى للفنون السوداء فى داكار ” المثقف الاسود الذى مارس اكبر نفوذ مستمر فى القرن العشرين” كان ذلك هو انتا ديوب وواصل انتا ديوب كتاباته فى عام 1981 طبع كتابه ” حضاره ام بربريه” الذى يعتبره البعض العمل الاكبر للشيخ انتا ديوب و كان عباره عن تلخيص لبحوثه السابقة عمل ديوب محاضرا فى جامعة داكار فى الفترة ما بين عام 1961 وحتى عام 1986 عام رحيلة وانشأ معمل ( الراديوكربون) الوحيد فى افريقيا وقدم بحوث عن افريقيا ما قبل الكولونيالية.
لم يكن انتا ديوب مثقفا عاطلا او متفرجا على ما يجرى فى بلاده السنغال وشارك بفاعلية فى الحركة السياسية فى السنغالية وقام بتأسيس كتلة الجماهير السنغالية فى عام 1961 والجبهة الوطنية فى عام 1964 وقد تم حظرهما جميعا بدعوى ( انهما يهددان سلامة الاوضاع بالبلاد) !! ولكنه خلف اثره البارز فى بحوثه حول دور السود فى حضارة وثقافة الانسانية. وانتا ديوب عنوان من عناوين النجاح الاكاديمى الافريقى ومثقف وعالم كبير يحظى بالاحترام فى كافة افريقيا وخارجها وعند جماعات السود المناضلة ومن النادر ان تلتقى بمتعلم من السنغال لا يصلح انتا ديوب كمدخل حاضر للتعرف علية. وقد اضحى مفروقا منه
الان دقة وصحة اطروحة انتا ديوب حول مساهمات الحضارة الافريقية القديمة فى الثقافة والعلوم والفنون والديانات لاسيما فى وادى النيل الذى شهد تطورا كبيرا فى علوم الهندسة وبدايات الفيزياء والكيمياء والطب.
فى 27 يونيو 2007 نقل تلفزيون الجزيرة مؤتمرا صحفيا لوزير الثقافة المصرى فاروق حسنى اعلن فيه ان احد الموميات المكتشفة قد تم التاكد من انها للملكة حتشبسوت التى حكمت نحو عشرين عاما وهى من ضمن ملكات اخريات حكمن مصر ووادى النيل قديما مما يضع اسئلة حول اهميه الدورالذى لعبته النساء فى حضارات وادى النيل القديمة قبل ان تطرح قضايا النساء بشدة على اجندة المجتمعات المعاصره.
الدكتور جون قرنق دى مبيور كان مبدعا فى تقديمه لرؤيته حول السودان الجديد ولم يردد اطروحات حركات التحرر الوطنى ويقحمها بتعسف على الواقع السودانى بل قدم اطروحه جديده مستندا على أرث حركات التحرر الوطنى ومستوعبا لمنهجها وناظرا بذهن مفتوح لخصائص الواقع السودانى التاريخية والمعاصرة وعالج قضيتى القوميات والدين كقضايا رئيسيه من قضايا البناء الوطنى نحو الوصول لدولة حديثة تعترف بالتعددية والتنوع واستفاد فى دراستة للابعاد التاريخية من اطلاعه على مجمل تاريخ افريقيا وكداعية قوى ونافذ لوحدة افريقيا والتى عبرها توصل لضرورة الدعوة لوحدة السودان على اسس جديدة والسودان يعتبر افريقيا مصغره يحمل فى احشائه كل تناقضات وقضايا المجتمعات الافريقية واشكاليات الدولة الوطنية ما بعد رحيل الاستعمار وفى ذلك فان علاقته الفكريه مع انتا ديوب جاءت مساهمات ديوب غير المعزولة من مساهمات مجموعة كبيرة من المثقفين الافارقة وجماعات السود خارج افريقيا المهتمة بوحدة افريقيا والتى جسدتها على نحو متصل مساهمات( البان افريكنست ) وفى مرحلة تنزانيا والولايات المتحده الامريكية كانت هذه القضايا محل انتباه واهتمام جاديين للدكتور جون قرنق اطلع خلالهما على مساهمات ديوب ومفكرين ومثقفين اخريين كثر وشارك بصورة مباشرة فى الكفاح من اجل القضايا التى امن بها حتى الحظات الاخيرة لرحيلة العاصف. سلطت الاضواء خلال هذه المقاله للتعريف بانتا ديوب ووالتر رودنى كرمزين فكريين لمجمل الانتاج الفكرى والتيار الذى تفاعل معه الدكتور جون قرنق فى مرحلة الستينيات وما بعدها ولم يتوقف عنده بل كان دائم وواسع الاطلاع طوال فترة حياته المضيئة ويمكن بالفعل القول ان انتا ديوب ووالتر رودنى يصلحان كرمزين فاعلين لنوعيه المصادر الفكريه والسياسيه التى اطلع وتفاعل وإنفعل بها الدكتور جون قرنق دى مبيور.
فى الكاريبى الذى تعج بلدانه بافارقة سود كانوا حصاد رحلات تجارة العبيد و ماساتها الكبيرة على المجتمعات المحلية و الجديدة التى نهض سكانها من رماد تجارة الرقيق وبداوا من الصفر فى تاسيس مجتمعاتهم الجديدة مستندين على ما تمكنوا من حمله من بقايا ذاكرتهم وعلى جيناتهم التى تقاوم، و شهدت تلك المجتمعات ثورات عديدة للسود اشهرها ثورة سان دومينقو-هايتى التى شملت معظم بلدان الكاريبى و قادها القائد دومينقو تاوسنت الذى يعمل ممثل هوليود الشهير دانى قلوفر على انتاج فيلم عن ثورته والسود الذين تمكنوا من هزيمة البريطانيين و الفرنسيين و دانى نفسه مثل والديه كان ناشطا ولا يزال فى سان فرانسيسكو من اجل حقوق السود والملونين و اقام دومينقو تاوسنت دولة استمات فى ان تكون لكل الاعراق بما فيهم البيض من ملاك العبيد السابقين بعد نجاح ثورته. وقال مورغان فرى مان نجم هلى وود الاخر حينما قاطع الاحتفالات السنويه بالحقوق المدنيه وثقافة السود ” لماذ تركزعلى لونى وتقول لى اسود وانا لا اذكر لونك واسميك ابيض “.
الزمان القرن الثامن عشر يكاد يسدل الستارعلى فصوله الاخيرة و جزر الكاربيى تعيش فى ظلام وظلم انسانى ، وعالمها الداخلى والباطنى يضج بالغضب و بالمستعبدين المتزمرين البائسين على شفا الثورة ، وفى باريس فى ذلك الوقت قامت الثورة الفرنسية 1789 و ارتفعت راياتها و شعاراتها الى عنان السماء فى ذلك الوقت وفى 1790 بعد عام او يزيد وصل جنود فرنسيين الى بورت برنس فى الكاريبى و كان الجنود و البحارة الفرنسيين سكارى بمبادىء الثورة الفرنسية التى اعلنت ان كل الناس متساويين واحرار وحينما نزل الجنود و البحارة الفرنسيين على شواطىء بورت برنس وجدوا اهلها على طريقتهم و عبر تذاكر غضبهم الخاصة قد اعنلوا الثورة ضد ملاك العبيد و ملاك المزارع، و لما كانت سكرة و فكرة الجنود الفرنسيين لم تنتهى بعد فانهم قرروا الانضمام الى ثورة المستعبدين مع قبس من النور الفرنسى و رفعت شعارات الثورة الفرنسية و اعلنوا دولة الإخاء و انتشرت فلسفة التنوير فى الجزر حتى قبل حركة الحقوق المدنية الحديثة فى شمال امريكا بوقت طويل و كان دومينقو تاوسنت الذى ترجع اصوله الى ساحل داهومى و الذى تمكن ان يكون فى درجة ما قرب الاعيان بحكم قدراته و رأفة من تاجر رقيق يعيش فى سان دومينقو و لم يشارك تاوسنت فى الثورة فى بداياتها وبل حاول التوسط بين المتمردين و الملاك البيض و حينما كاد قادة الثورة ان يساوموا على مبادئهم قرر دخول المعركة و خاض غمار الحرب و عند 1795 اصبح دومينقو تاوسنت الذى خاض الحرب مؤيدا لمبادىء الثورة الفرنسية و بعد نصره اصبح حاكما للجزر و حظى بدعم اغلبية السود و البيض على حد سواء بعد ان اعطى للسود حقوقهم و حررهم و دافع عن حق البيض فى الوجود و حقق الاستقرار الاقتصادى فى سان دومينقو وما جاورها، و امرالمستعبدين السابقين بضرورة العودة الى العمل و يبدو انهم بعد نجاح ثورتهم قد قرروا اخذ اجازة مفتوحة و هزم محاولات البريطانين والفرنسيين بالعودة الى الجزر واملأ دستورا جديدا و نصب نفسه حاكما مدى الحياة بسلطات مطلقة كما يقول خصومه فى روايات عديدة و لاحقا اجبرعن طريق الفرنسيين بتوقيع اتفاقية يتنازل بموجبها عن الحكم بشرط عدم العودة الى نظام العبودية و رجع الى مزرعته ولكن بعد ثلاثة اسابيع ارسل الفرنسيين قوة لاعتقاله!!! بحجة انه يخطط للعودة الى الحكم و القى القبض عليه و اسرته و ارسل فى سفينة حربية الى فرنسا و حقق معه مرارا فى السجن بدعوى التخطيط للتمرد و بعد وقت قصير مات القائد فرانسيسكو دومينقو تاوسنت فى ابريل 1803 بعد ان قال للناس جميعا ” متى استعبدتم الناس” و هاهو دانى قلوفر يعمل لاعادة دومينقو تاوسنت للحياة من جديد وكل ما ضاع يرتجى …. و الخير خير و إن طال الزمان به و الشر شر … و من الذاكرة و صداها البعيد يغنى عبدالوهاب البياتى ” مدن بلا شمس تنام … ناديت باسمك فى شوارعها …. فجاوبنى الظلام…. و سألت عنك الريح وهى تئن فى قلب السكون …. و فى نوافذ الفجر البعيد …. وفى بطاقات البريد ….. فقراء يا قمرى نموت …. و قطارنا ابدا يفوت … و…. وليس بموقد الفقراء نار”.
حكى جون قرنق انه و فى اثناء الدراسة الجامعية بكلية قرنيل قد شارك بانتظام فى جلسات بين الطلاب البيض و السود وهى منبر يتم النقاش فيه بحساسية عالية وحول القضايا الاثنية و الثقافية و يتم فيها إنتقاد الممارسات و اللغة التى لا تتمتع بالحساسية المطلوبة فى التعامل مع مثل هذه المسائل وقد كانت هذه الجلسات منابر للحوار الفلسفى و السياسى.
وفى غويانه الجديدة فى مدينة جورج تاون فى 23 مارس 1942 و لاسرة فقيرة من الطبقة العاملة ولاب يعمل ترزى و ام مضيفة فى البحر ولد الدكتور والتر رودنى و عرف منذ طفولته بالذكاء الحاد و استفاد منذ البداية بعد اكمال المدرسة الابتدائية من المنح المقدمة من الطبقة الحاكمة للعمال و التنازلات فى مجال التعليم بعد تحركات العمال فى الخمسينيات و سرعان ما اخذ منحة ( فىكلية كوينز) وبرز اكاديميا، و فى الرياضة وفى الحوارات المدرسية. فى العام 1960 تحصل على منحة اخرى مفتوحة للدراسة فى جامعة غرب الانديز بجاميكا وتخرج بمرتبة الشرف الاولى فى التاريخ وفى 1963 تحصل على منحة اخرى لنيل رسالة الدكتوراه. وبحكم دراسته للتاريخ و حياته فى الكاريبى كان على اطلاع تام على تاريخ السود و حياتهم و ماساتهم و كان ذوتوجهات ديمقراطية صميمة لا تتوقف عند سطح القضايا الاثنية الاملس و الذى يمكن ان يؤدى للانزلاق والانغلاق وكان يمد بصره الى حركات التحرر و نضالات السود فى الامريكيتين و فى افريقيا الستينيات باحلامها العريضة.
وبعيدا عن لندن “رودنى ” وفى النصف الثانى من الستينيات ، شهدت نيويورك المدينة الساحرة و المشكلة على نحو عالمى ازداد رسوخا بضجيج الامم المتحدة التى نادرا ما تتحد، شهدت اكثر من فخ نصب باحكام كان احداهما لانسان من صنع نفسه كرا واقداما ولولا ان نفسه كبيرة لانتهى موزعا صغيرا للمخدرات فى نيويورك او فى غيرها وقد جرب ذلك بالفعل فى عصابة استثمر فيها بعض من ذكائه و على رغم الظروف القاسية التى احاطت بمولده فى منطقه اوماها نبراسكا و اغتيال والده من قبل عصابات الكوكلاس كلان ، لكنه قفز من فوق ظروفه التى لم تكن لتأهله لما اهل نفسه له و عبر الحياة كما اراد و حياته مثل حياة كل البشر كانت ستضع نهاياتها بموت طبيعى و الحياة فسحة قصيرة من الامل و الخيبات و النجاح و الفشل يمضى فيها البشر مثل ركاب الطائرات فى صالات (الترانزيت) يمضون وقتا قصيرا او طويلا وقى الختام يلتحقوا بالرحلة الاخرى ولا بد من عمل مفيد لمصلحة الانسان ولابد من ان نترك الحياة اجمل مما وجدناها لابد ان نضع بصماتنا ايجابا عليها فى اى حقل نختاره الزراعة، الرعى، الصناعة، الطب، الهندسة، القانون، الاعلام، التدريس، و العمل العام ام الخاص وهكذا مر صاحبنا وهو فى بداياته المتواضعة خارجا من احياء السود الفقيرة و ازقة المخدرات عند بعض شوارعها و بدا بتغير نفسه منطلقا من الازقة الى رحاب الانسانية بدا غاضبا من بصمات الماضى التى اراد ان يحاكمها و بدا بتغير اسمه انه مالكوم ليتل الذى اصبح مالكوم اكس ووضع الماضى موضع تساؤل بدأ باسمه ومالكوم اكس الرائد الكبير من رواد نضالات السود ظل اتخاذه من الاسلام مدخلا لاثارة قضايا السود يضيف مزيدا من المصاعب فى طريقه بالامس و اليوم لاسيما ان الاحداث اللاحقة فى الالفية الثالثة من جماعات الاسلام الراديكالى قد وضعت الاسلام فى تضاد شبه تام مع الكثير من التيارات الرئيسية المتحكمة فى المجتمع الامريكى مما الحق مزيدا من ذرات الغبار و النسيان التى تسقط سهوا وعمدا على اسم وذكرى مالكوم اكس ولان مالكوم اكس نفسه يشبه نجوم السينما وهو فى مسرحه العريض ، فقد تمكن دينزل واشنطن نجم هوليود الشهير و معبود النساء و المدرك لجذوره و الذى جعل جوليا روبرتس احدى اجمل جميلات هوليود تحتج لرفضه تقبيلها و قد استخدم تبريرا ذو حساسية اثنية و ثقافية. لان الحياة تبتسم لمالكوم اكس رغم قسوتها عليه قبل الرحيل فدنزل واشنطن الشديد الشبه بمالكوم اكس اعاده مرة اخرى الى الحياة فى تحفة فنية تنبض بسحر مالكوم اكس.
وبذل مالكوم اكس جهدا مضنيا لازالة الغباروالنسيان عن قضايا السود فى ستسنيات القرن الماضى و انشأ شبكة من العلاقات داخل و خارج حركات السود و مع النقابات و مجموعات المثقفين و صدرت بعض كتاباته فى مجلة ( منصلى رفيو-الأم أر) الاقتصادية الشهرية التى كان يصدرها عميد الاقتصاديين الرادكاليين الامريكيين و اليسارى الشهير الدكتور بول سويزى و صديقه المعروف الدكتور بول باران . و قام مالكوم برحلات متعدده لطرح قضياهم فى الداخل و الخارج وفى بلدان عديدة شملت غرب افريقيا و مصر و تمت الاشارة الى السودان فى بعض مما كتب عن زياراته و لحسن طالعه فقد قام باملاء مذكراته التى دونت واضاءت جوانب من حياته على الكاتب الكبير الكس هيلى، و اطلقت عليها مجلة التايمز بانها واحدة من اهم عشرة كتب غير روائية فى القرن العشرين.
انعقدت المحكمة لمحاكمة “مجرم” اسود اسس عصابة جند لها حتى سيدات بيض كما تناولها الاعلام وقتها وحكم عليه بالسجن لفترة بين الثمانى و العشرة سنوات و كان المعنى هو مالكوم اكس. فى داخل السجن وهو مشحون بغضبه للطريقة التى قتل بها والده و لمعاناة والدته، ولان الحياة كانت تدخره لقضية اخرى غير قضايا العصابات و المخدرات، التقى فى السجن باعضاء من جماعة (امه الاسلام) و لم يفوتها ذكائه و قوة شخصيته و غضبه، و بدخوله السجن دخل الاسلام و جماعة( امة الاسلام) التى يقودها اليجا محمد. اطلق سراحه قبل نهاية المدة، وخرج راديكاليا متشددا ممتلىء بالطاقات و الحيوية و على الاستعداد للمضى حتى نهاية الشوط و اختار لونين ابيض و اسود حكما توجهه فى بدايته الاولى تأسف لاحقا و ادرك ان العداء على اساس اللون لا قيمة له، و تاسف فى اخريات ايامه بان القضية ليست هى اشعال الكراهية بين البيض و السود انما الحوجة لمجتمع انسانى، و ساهمت زياراته للخارج بدور مقدر فى ذلك. فى احدى زياراته لضاحية من ضواحى بيرمنجهام كانت محرمة على السود و رفع فيها حزب المحافظين شعارا يقول ” اذا اردت ان يكون جارك اسود ادلى بصوتك للعمال”!! و فى زيارة تستدعى الوقفة قبل رحيله بوقت وجيز، ذهب للحج فى المملكة العربية السعودية و لما كان يجهل اللغة العربية تم التعامل معه بكثير من التجاهل وتذكر عناوين اعطيت له من قبل فاجرى عدة اتصالات، وهب لمساعدته عبدالرحمن عزام و الامير محمد الفيصل واذا صحت الاشارات العديدة فى السنوات الماضية بأن الامير على علاقة ما بحركة الاخوان المسلمين فان مالكوم اكس قد لامس على نحو خاطف قبيل رحيله حركات الاسلام الاكثر راديكاليه و تنظيما فى القرن الماضى برغم من انها فى ذلك الوقت كانت صديقة للغرب، و مما يستحق الوقفة ايضا ان نسبت احدى شبكات المعلومات الى الدكتور ايمن الظواهرى اشارته الى احد نصوص مالكوم اكس ” اننى اؤمن بالدين الذى يؤمن بالحرية و فى اى وقت يكون علي قبول دين لا يمكننى من خوض المعركة من اجل مواطنيى و شعبى فاننى اقول فليذهب هذا الدين الى الجحيم” على الرغم من ان هذا النص واحدا من النصوص الاكثر وضوحا فى التعبير عن مواقف مالكوم اكس فى سنواته الاخيرة و اهتمامه بقضايا السود الاجتماعية و السياسية اكثر من التبشير الدينى!! و هنا يخضع قضايا الدين لمعيار وحيد هو خدمة مواطنيه و شعبه و الحرية ولا اعلم لماذ اشار اليه الدكتور الظواهرى ان صح ذلك. فهذا النص بالذات الاقرب الى ان الصراع فى جوهره اجتماعى لا دينى ان كان صحيحا ما نسب للدكتور الظواهرى.
ذهب مالكوم اكس الى نيويورك فى اواخر ايام حياته، و حداثان مهمان فى حياته التفت بصورة اكثر حزما الى طرح القضايا السياسية و الاجتماعية للسود و ضرورة التوصل لمجتمع انسانى لكافة البشر غض النظر عن الوانهم، و الامر الثانى اختلف نهائيا مع اليجا محمد و خرج من جماعة ( امة الاسلام) بعد ان تاكد من صحة الاتهامات الموجهة الى زعيمها حول علاقاته النسائية و التصرف فى اموال الحركة، وتلقى تهديدات عديدة من داخل وخارج الجماعة و حرق منزله و كانت حياته مطلوبه عند جهات متعددة ولاكثر من سبب ولا سيما انه كان على اعتاب ان ينشىء جماعة جديدة اكثر جذرية فى طرحها من (امة الاسلام).
و مالكوم اكس المولود فى 1925 كان فى ذلك اليوم الموافق 21 فبراير 1965 يلقى احدى خطبه فى نيويورك، كان الجمهور مشدودا بالكامل لانسان دقيق العبارة ملتهب الكلمات و كلماته مثل طلقات الرصاص لا تخطىء اهدافها و من يستهدفهم و مضى فى طرح قضاياه الواحدة تلو الاخرى متنقلا بسلاسة وفجاة حدثت فوضى فى داخل القاعة وساد هرج ومرج اتضح فى الاخير انه مقصود اتجه حراسه من اعضاء جماعته نحو دائرة العراك و تركوا مالكوم اكس مكشوفا و صيدا سهلا و مضت الامور كما خطط لها و انهمر عليه الرصاص و سقط مالكوم اكس و تحركت جنازته من حى هارلم فى 27 فبراير 1965 و مضى فى توافق و تزامن و تطابق مع عمرالدكتور مارتن لوثر كنجغ تسعة و ثلاثون عاما لكل منهما مع فاصل سينمائيا فى تواريخ الميلاد و الرحيل. وفى هارلم التى منها تحركت جنازته و التى تشكل عنوان احياء السود العالمى و النموذجى ومن المفارقات ان هذا الحى الذى كان عنوان الهامش يزحف عليه الاغنياء مثل ما يفعلون فى بريكستون لندن التى لم ينسى مانديلا زيارتها فى اول زيارة له للندن و بالامس و بالخرطوم غيبت مع سبق الاصرار والترصد المرحومة العشش ذلك الحى الذى يجاور السوق الشعبى و انتهت فى نقلة جديدة الى حى أ سماه الظرفاء ( الحكومة دقست) لان موقعه بالمصادفه المحضة اجمل من سابقه. جمعت جنازة مالكوم اكس معظم زعماء السود وغيرهم و قاد سدنى بوتيه اول نجم سينمائى اسود فى هوليود مع اخرين الدعوة لتبنى اسرة مالكوم اكس.
حكى الدكتور جون قرنق دى مبيور انه و فى سنواته الاولى فى كلية قرنيل الجامعية و عند بداية حياته فى الولايات المتحدة الامريكية و فى النصف الثانى و الاخير من الستينيات و قد استقل المواصلات العامة و حينما توقف( البص) الذى كان يستقله فى مدينة ديترويت طلب سائقه الاسود من الجميع الذهاب لتناول طعامهم ثم العودة فى الوقت المحدد، ذهب جون قرنق الى احدى المطاعم ولم يدرك ان للسود مطاعمهم الخاصه و طلب الطعام مرارا ولكن النادل لم يهتم به فغضب و ساله “اننى املك نقود مثل الاخرين لماذا تتجاهل طلباتى” فانتبه الى ان الجميع قد توقفوا عن الاكل و حدقوا فى وجهه ثم لاحظ بسرعة ان جميع من فى المطعم من البيض الحانقين فقفل راجعا الى ( البص) و قد نفدت المدة المحددة لتناول الطعام و ساله السائق الاسود ” كيف كان طعامك يا اخى” ثم اجابه بما حدث فضحك السائق طويلا و قال له ” انت قادم جديد لامريكا عليك الذهاب الى مطاعم السود” و سوف امنحك مزيدا من الوقت.
فى هذا المناخ العاصف قدم الدكتور جون قرنق الى الولايات المتحدة الامريكية فى النصف الثانى من الستينيات، و هو مناخ يطرح قضايا الحقوق المدنية و قضايا الاعراق و الاثنيات و الثقافات لكل ذهن متقد و متوقد و جون قرنق دى مبيور عرف بالذكاء الحاد و بالحساسية الفائقة تجاه القضايا الانسانية و هو الذى اتى الى الولايات المتحدة على خلفية حرب طويلة تركها خلفه فى بلاده و ادت الى ان يقطع تعليمه عند مدرسة رمبيك الثانوية وان يتعرض لمتاعب و مفارقات مبكية و مضحكة فى ان معا فى الحدود الزائرية وفى داخل السجن فى كينيا و هو لا يحمل اى اوراق تثبت هويته لاجئا فى تلك السن اليافعة ثم يعرج على تنزانيا لاكمال دراسته الثانوية ثم بتفوقه و بنصائح من قادة الانانيا الاولى و مساعداتهم و بعزيمة ووضوح تمتع به من البداية قاده موجة اثر اخرى للتفوق حتى تحصل على منحة فى كلية قرنيل المميزة، و حط رحاله فى الولايات المتحدة الامريكية، و حركة الحقوق المدنية فى قمة عنفوانها وتألقها و تزامن ذلك بان هوى بعض من نجومها فى نفس الوقت، مالكوم اكس و مارتن لوثر كنغ و خلف ذلك احتجاجات واسعة لاسيما فى الكليات و الجامعات و مراكز التعليم العالى و قد وجد نفسه مواطنا اسود فى ظل موجة عاتية من حركة الحقوق المدنية و هو القادم من تنزانيا مركز (البان افريكان) القوى و الذى ينتفض بحركات التحرر الوطنى و كان وقته فى الستينيات موزعا بين تنزانيا و امريكا اللتان شكلتا المناخ العام الذى استمد منه افكاره و تفاعل مع وسطه الفكرى، السياسى، و الحركى مما يجعل من هذه الفترة فترة خصبة اذ استمد منها الكثير من مواقفه اللاحقة و شكلت مصدرا غنيا من مصادر ثرائه الفكرى و السياسى و نفاذ رؤيته و اهتمامه بقضايا القوميات، الاديان، التاريخ، المساواة العرقية،التعددية الاثنية،الثقافية، الفرص المتساوية، ووحدة افريقيا التى ستنقله الى قضية وحدة السودان. وقد اصدرت كلية قرنيل مؤخرا كتاب عن تاريخ الكلية الجامعية، و رصدت فيه اهم (25) شخصية تخرجت من الكلية منذ تاسيسها، و ضمت القائمة وزراء فى الادارات الامريكية المتعاقبة، و علماء و شخصيات عامة، كان من بينهم الدكتور جون قرنق دى مبيور.
و من عنفوان الستينيات و التحدى الفكرى وجرأة الاسئلة تخطى الدكتور جون قرنق عتبة كبيرة من عتبات عقدة الدونية التى رسختها مؤسسات المركز الحاكمة فى ان الجنوبيين تنحصر مطالبهم فى حدود الجنوب و إن القضايا القومية من اختصاص اخرين بعينهم و عبر الدكتور جون قرنق هذا الحاجز عبورا معرفيا، فكريا، و سياسيا و طرح رؤية بديلة و مغايرة فى اكبر تحدى فكرى و سياسى و واجهته المؤسسة الحاكمة منذ استقلال السودان و ما قبله. فى احدى المرات قرنق ” ان المهمش الذى يقبل بالعيش فى ظل الدولة السودانية الحالية ولا يتمرد عليها هنالك ظل من الشك حول انسانيته” فى اقوى عبارة تحريض من الممكن ان تقع عليها عين مهمش او تسمعها اذنه!!
وصل والتر رودنى الى لندن فى 1963 بعد حصوله على منحة من كلية الدراسات الافريقية و الشرقية بها وعكف على الفراغ من رسالته للدكتوراه حول تاريخ العبودية و المستعبدين فى ساحل غنى العليا و هى دراسة دقيقة اعتمدت على المراجع الموثقة لتجار العبيد البرتقاليين فى انجلترا و البرتقال و اثناء الدراسة مثل ما فعل انتا ديوب الذى تحول الى عالم للغويات تعلم والتر رودنى اللغتين البرتغالية و الاسبانية و مع معرفته للانجليزية و الفرنسية اصبح عالما للغويات و تمكن من الحصول على درجة الدكتواره فى التاريخ و لم يتجاوز الرابعة و العشرين عاما من عمره و قد قامت مطبعة جامعة اكسفورد بطباعة رسالته تحت عنوان ” تاريخ ساحل غنى العليا 1504 – 1800″ و هى فترة متزامنة مع فترة السلطنة الزرقاء فى السودان و رسالته تحدت كثير من المسلمات حول التاريخ الافريقى واضافت نظرة و اسس جديدة لتاريخ المهمشين و المتطهدين.
و فى قراءتى لكتابة هذه المقالة فى مكتبة جامعة ولاية ايوا-امز- ومن ملاحاظاتى عبر الاحتكاك اليومى فى الولايات المتحدة الامريكية و متابعة مختلف وسائل الاعلام و الحوارات مع المتطلعين و بنظرة عاطفة و ايجابية لتاريخ الافارقة السود الذين ساقتهم الاقدار للامريكيتين و جزر الكاريبى لابد لى من ان أنحنى اعجابا لهذه المجتمعات و بالرغم من اقتلاعها المؤلم من مجتمعاتها الاصلية و زراعتها مثل المحصولات التى سيقت للقيام بانتاجها ومع اقتلاعهم من جذورهم الثقافية و الانسانية و القهر المرير الذى تعرضوا له و لكنهم نهضوا من جديد محاولين خلق هوية خاصة بهم فى المجتمعات التى عاشوا بها وسعوا لاكتشاف مواطن قوتهم المختزنة فى بقايا الذاكرة و الجينات و استخدام مهاراتهم لاثبات الذات فى الرياضة و الموسيقى و الرقص وغيرهما وعملوا على البدء من جديد فى تكوين ثقافاتهم و هويتهم الخاصة مقدمين تضحات كبيرة و لاتزال اقسام واسعة منهم تعانى التمزق النفسى و الانسانى و تكتفى بالجلوس فى الرصيف و الهامش و مع ذلك نهض العديدون من جديد ورفضوا تقبل الثقافات و المماراسات السائدة و هاهى روزا بارك فى ديسمبر 1955 تخالف( قانون جيم كرو) و تاخذ مقعدها فى البص لتفسح مقعدا اخر لاحقا لكوندليزا رايس مهما يكن من موقف البعض الذين يرددون ان هذه المواقع غير فاعلة، و النساء المهمشات يعجزن عن الوصول لمثلها فى بلدان افريقيا الام.
المكان مسرح فورد بالعاصمة الامريكية واشنطن امسية الجمعة 14 ابريل 1865 و ابراهام لنكولن الرئيس الامريكى منهمك فى متابعة العرض المسرحى و خلفه انجازات عريضة بعرض الحياة و طولها و لم يكمل الاربع سنوات من فترة رئاسته و قد غير الولايات المتحدة الى الابد و كسب حرب اهلية كاملة و نجح فى مناورات شرسة مع اصدقائه و اعدائه و كان الدعاء دائماَ ان ياخذ الاله بيدك مع اصدقائك ام اعدائك فانت كفيل بهم. كسب ابراهام لنكولن معركة توحيد الاتحاد و التى كانت السبب الرئيسى فى الحرب مع الجنوب رغم ان التاريخ قد خلد ابراهام لنكولن فى سياق قضية و مرافعة اخرى وهى تحرير العبيد و ابراهام لنكولن فى البدء مع موقفه الصارم ضد الرق الا انه لم يكن من دعاة إلغائه الفورى و كان مع التخلص منه بالتدريج و حاول ان يساوم مع الجنوب فى ذلك و ان المقتولة لا تسمع من يصيح ( المقتولة ما بتسمع الصائحة) فان الجنوب الذى كان يريد الحفاظ على علاقات بالية و يخرج من الاتحاد ولم يرى بوضوح ان الشمال الصناعى و القوى الصاعدة فى داخله لن تسمح بذلك و ان سيلها جارف و اخطأ الجنوب و اصاب ابراهام لنكولن و كسب التعديل الثالث عشر للدستور الامريكى الذى القى بموجبه العبودية الى الابد و حقق اكثر مما حدد من اهداف و حافظ على الفيدرالية و الاتحاد و كان يدرك ان العبودية بشكلها القديم قد اصبحت تكبل تطور الولايات المتحدة و خلده التعديل الثالث عشر للدستور الامريكى كما لم يخلده الحفاظ على الاتحاد الفيدرالى و الانطباع العام انه ينتمى الى الحزب الديمقراطى انما الصحيح انه ينتمى الى الحزب الجمهورى و يتواصل العرض المسرحى الذى يشاهده الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الامريكية و فجأءة خلف الرئيس يظهر جون وليكس بوث ثم يبدأ فى اطلاق النار على الرئيس الامريكى و يردى بطل الحرب الاهلية و محرر العبيد و المحافظ على الاتحاد الفيدرالى و الذى خاض غمار المناورات و دهاليز السياسة و الذى اتى من اسرة متواضعة وعمل فترة ساعى بريد و ترشح مرارا على المستويات المحلية و فشل و نجح حتى استقرت اسرته فى الينوى فى اسبرنغ فيلد و جذب الانظار و فاز من على تذكرة الحزب الجمهورى و جاء الى واشنطن على متن قطار و هاهو القطار يقل جسده المسجى من جديد الى اسبرنغ فيلد بعد ان اطلق ذلك المتعصب المهوس النار عليه و لم يرى فى ابراهام لنكولن اسهامه التاريخى فى تطور الولايات المتحدة الامريكية و هو الذى جعلها متحدة الا ان جون ولكس لم يرى فى كل ذلك سوى صورة الشر و يتحسر على العبودية و الجنوب السياسى المهترىء و ابراهام لنكولن الابيض قد وضع حدا لبعض من تملكتهم الغلواء من بيض الجنوب و قاد الترتيبات الجديدة و هنالك من يتشبث بالقديم فى بلادنا و لا يقل غلواء من بيض الجنوب و مع ذلك يتحدث عن وحدة البلاد و العباد و ظل حالنا هكذا منذ 1956 و لان لنكولن ينتمى لعصره عن جدارة فعل ما فعل و من الواضح ان انتماء المرء لعصره لا للعصور السابقة ليس بالامر السهل بل يكلف الدماء و الضحايا و ربما يكلف البلاد وجودها نفسه فى ان تكون او لا تكون فى مسرح شكسبيري و ليس من بين الحضور اباراهام لنكولن.
فى القاهرة اقام الدكتور جون قرنق عشاء عمل لاحد القادة السياسين و فى المناقشة طلب منى الدكتور جون قرنق الادلاء برائى قبل ان يعلق وهى عادته مع كل من عمل معه يعطى المجال لمن معه اولا ثم ياخذ فرصته فى الاخير، و فى سياق تعليقى قلت ان مركز السلطة و مؤسسته الحاكمة منذ 1956 بمختلف من توالوا على الحكم فشلوا فى بناء دولة حديثة فى بلادنا. و تقع على عاتق زعماء مركز السلطة اذا كانوا جادين فى معالجة اخطاء الماضى، ان يقودوا التغير و التجديد مثل ما فعل ابراهام لنكولن وبغياب ذلك فان المهمشين فى خارج مؤسسة الحكم وغير المستفيدين عبر القوميات و الاديان سيغيرون المركز انفسهم، وإن لم يستطيعوا سوف يحاولون بناء مراكز جديدة. و قلت لضيفنا ان باستطاعته القيام بذلك. بعد انتهاء عشاء العمل علق الدكتور جون قرنق بحذاقة ساخرة على هذه النقطة بالذات اضحكتنى لوقت طويل وهانذا اليوم اضحك من جديد و شكرا للدكتور جون قرنق على ما اسداه الينا من مرح و كان( ريسا كيسا يجلب الهواء و المرح من قرونه).
جاء والتر رودنى الى تنزانيا و هى فى ابهى لحظات احلامها الكبيرة حضورا و اشراقا، تصحو على ايقاعات الطبول الافريقية فى ستينيات القرن الماضى و تمور بمثقفين افارقة كبار و شباب فى قمة الحيوية و اللياقة لمباراة قادمة و مبارزة فكرية و سياسية و حروب تحرير ستاتى. كانت دار السلام قلعة من قلاع حركات التحرر الوطنى و لاسيما من الجنوب الافريقى الذى اكل و شرب الدهر على مستعمريه و هو يكابد الحياة بين ثنايا موت الابارتاتيد و الاستعمار القديم. فى تلك الازمنة من ازمنة دار السلام و احلامها التى تضرب عنان السماء شد اليها الكثيرين الرحال و شدتهم بسحرها و كان والتر رودنى بعد ان انهى مهمته بامتياز فى بريطانيا منجذب بقوة لحركات التحرر الوطنى الافريقية و محاولاتها تقوية مراكز السود و انصافهم فى المجتمعات المختلفة ووصل الى دار السلام فى 1968 و غادرها فى 1974 و قبل مجيئه كان قد وقف فى الكاريبى ضد تسلط اصوات مثقفى الطبقة الوسطى الكاريبيين و جلوسهم فى الابراج العاجية و لم يكتفى بالنشاط فى حرم الجامعة و اخذ مسالة تحرير السود الذين يعيشون اوضاع مزرية فى الكاريبى وفق مشروع ديمقراطى كقضية رئيسية و فى المدة الوجيزة التى امضاها محاضرا فى جاميكا تبادل معرفته بالتاريخ مع الكثير من قطاعات الجامايكيين و مثقفى الهامش المنبوذين بالاخص مع مجموعة الراس تافاريين و التى كانت تاخذ نموذجها من اثيوبيا البعيدة و امبراطورها هيلاسلاسى الذى يجسد لهم الحاكم الافريقى الاسود. و المفارقة ان جموع كبيرة من الاثيوبيين و الارتريين كانت ترى فى هيلاسلاسى صورة معاكسة و سلبية.
فى المدة القصيرة التى امضاها والتر رودنى فى جامعة جاميكا بعد عودته من لندن و عقب مشاركته فى مؤتمر مونتريال للكتاب السود فى 1968 اصدرت الحكومة الجامايكية امرا بمنعه من العودة مرة اخرى مما ادى الى مظاهرات واسعة لاسيما فى كينغستون و فقد عدة اشخاص ارواحهم، لاحقا نشر الراس تفاريين نقاشاتهم مع والتر رودنى فى كتاب شهير اصبح قبله للناشطين فى حركات السود فى الكاريبى و استقر والتر رودنى فى تنزانيا و هى الفترة التى التقى فيها جون قرنق دى مبيور، يورى موسيفينى، ديفيد انيوتى،و اريا كاتقايا وعديدين من قادة و مثقفى حركات التحرر الوطنى فى الجنوب الافريقى و كونت المجموعة ما يسمى بنادى دار السلام او الجبهة الثورية الافريقية وهى احدى انشط جماعات ( البان افريكان) الاكثر جذرية فى دار السلام و كان والتر رودنى يؤمن طوال حياته بان المثقف يجب عليه ان يضع معارفه فى خدمة المتطهدين من اجل تحريرهم و فى هذه الفترة اصدرعمله الكبير الثانى و الاكثر شهرة و شعبية ( كيف ساهمت اوربا فى تخلف افريقيا او كيف عملت اوربا على تخلف افريقيا) وتعد فترة تنزانيا بالنسبة لرودنى الاقرب الى فترة المهاتما غاندى فى جنوب افريقيا فهى التى انتجت المفاهيم الاكثر جذرية فى اطروحات ردونى كما ساهم الدكتور والتر رودنى فى ترسيخ تقاليد فكرية جعلت من دار السلام حتى اليوم مركزا لمناقشة قضايا السياسة و التاريخ الافريقى و انخرط رودنى فى تلك الفترة فى المناقشات مع جماعات المثقفين التى كانت مهمومة بمناقشة قضايا الواقع الافريقى و كان ذو موقف صلد فى الدعوة لوحدة القارة الافريقية و فى مواجهة همومها المشتركة بشكل جماعى من القاهرة الى كيب تاون و قد اشتهر كواحد من منظرى جماعة ( البان افريكان) و من المتحدثين باسمها و الف عدد من المقالات و الاعمال ووجه انتقادات حارقة و لازعة لمدرسة الزعيم و المعلم الافريقى جوليوس نايريرى و كتب كتابه ( الحرب العالمية الثانية و الاقتصاد التنزانى) وهو يتأهب فى 1974 بالرجوع للكاريبى لتسجيل الفصل الاخير من رحلة حياته ذات المعانى و المضامين. فى تنزانيا انخرط الدكتور جون قرنق فى خلايا جماعات ( البان افريكان) الاكثر جذرية و من همومها الكبيرة فى وحدة افريقيا تمعن فى اسئلة القضية السودانية الشائكة و دعوة الاناينا الاولى الى فصل الجنوب و الانانيا كانت قاطعة فى رؤيتها و ترى الواقع فى ما يشبه المثلث الكولونيالى و إرثه – شمال جنوب،عرب افارقه، مسحيين مسلمين. و الانانيا لمن لا يعرف تاثيرها هى مؤتمر الخريجين فى جنوب السودان فمن معطف الانانيا خرجت الحركة السياسية الحديثة فى جنوب السودان و كبرى مدارسها مدرسة الكفاح المسلح و للتعرف بدقة على الحركة الشعبية لتحرير السودان لابد من قراءة فصول الانانيا و العودة الى الانانيا احداث و افكار و تجارب والى جنرالاتها على قوتلا، تافنيق، جوزيف لاقو، امانويل اوبور، جوزيف اكوان، جوزيف كوال اموم و غيرهم من قادة الانانيا العسكريين و السياسين،و حكومات الانانيا المتعددة من السياسين فى المنفى، و هنالك حاجة لدراسة اقتراب وليم دينق على نحو اخص من حركات الهامش و القوى السياسية السودانية فى ذلك الوقت المبكر و على خلفية القطيعة بين القوى السياسية فى الشمال و الجنوب. و جون قرنق دى مبيور الملتزم بوحدة افريقيا نفذ عبرها الى رؤية جديدة لتوحيد السودان تم ذلك على طول الطريق من السودان الى تنزانيا و الولايات المتحدة الامريكية و اذا اردت ان تلخص الدكتور جون قرنق فى عبارة موحية و موجزة فان الدكتور جون قرنق هو” رؤية السودان الجديد” فهو مشروع حياته الرئيسى و فى جوهره مشروع عالمى لتعايش الاعراق و الديانات فى مجتمع متصالح و فى انفصال الجنوب او وحدة السودان فى كلتا الحالتين يظل مشروع السودان قائما مع انحسار الجغرافية او تمددها فقضايا التعدد و التنوع يحفل بها الجنوب والشمال، الشرق و الغرب فمشروع السودان الجديد هو الحل فى حالتى الانفصال او الوحدة و هو وحده الذى يقدم الاجابات شمالا او جنوبا. ساهمت ايام تنزانيا و عمقت على نحو حاد نظرة الدكتور جون قرنق لقضيتى الوحدة و الانفصال و لاحقا توصل الى اجابات قلبت المسرح الفكرى السياسى السودانى الى الابد و قد قال يوريى موسيفينى احد المساهمين فى مرحلة تنزانيا فى نعيه للدكتور جون قرنق ” برحيله فقدت افريقيا احد ابرز المفكريين الثوريين”.
بنهاية 1974 اختتم والتر رودنى صفحات تنزانيا الزاهرة و عاد الى الكاريبى ومابين حصوله على درجة الدكتوراه من لندن و عمره( 24) عاما و رجوعه الى غويانه ، جرت مياه كثيرة تحت الجسر ربما غمرت المياه الجسر نفسه فى بعض الاحيان عاد والتر رودنى و ليس من المهم كما يقول الليبيين ” كم غاب بل ايش جاب” عاد مشبع بالتجارب و احرق مراكبه على شواطىء الكاريبى مثل الجنود و البحارة الفرنسيين الذين اشبعوا بهجة الثورة الفرنسية تمردا فى الكاريبى و اصبح رودنى احد الزعماء الكبار لمناهضة الحكم و شارك فى الندوات و الاعمال الجماهيرية منذ ان حط رحاله فى طول البلاد و عرضها و ساهم على نحو فاعل فى زيادة الوعى بقضايا التغيير و جعل الحياة مكان افضل بان يعاش و طرح قضايا جديدة من قبيل ” سلطة الشعب” ” و الديمقراطية متعددة الاثنيات” و لان حياة الانسان عابرة فى شمس الجسد الفانى منذ صقراط و مرورا بالحلاج و لان سلطات الكاريبى فى غويانه منتبهة لوالتر رودنى و افكاره التى تبث الشجاعة فى زمن الجوع.
ففى 11 يوليو 1979 تلتهم النيران احد المكاتب الحكومية فى غويانه الجديدة ومع الدخان و السنة اللهب المتصاعدة التى التهمت المبنى و تجاوزته الى والتر رودنى نفسه يعتقل رودنى و سبعة من زملائه ووجهت له التهمة بحرق المبنى و تعرض لمحاكمات و مضايقات عديدة كانت النوايا مبيتة و مرتبة قبل حرق المبنى و بعدها وتعرض رودنى لمحاولة اغتيال نجى منها باعجوبة ولاحقا فى مساء 13 يونيو 1980 و فى قلب مدينة جورج تاون و على بعد عدة ازقة و شوراع من مكان ميلاد والتر رودنى الاول.
و فى مكان غير بعيد من ميلاد والتر رودنى من مشهد تاريخى اخر بين الكاريبى و الولايات المتحدة و فى بورت اسبيان فى ترنداد و تباكو فى الكاريبى ولد استوكلى كارمايكل –كوامى تورو فى 1941 و انتقلت اسرته الى نيويورك فتغيرت حياته بالكامل مثلما تغيرت حياة جو اسلوفو الذى بدلا من ان يذهب والده الى الارجنتين قرر الذهاب الى جنوب افريقيا. درس استوكلى فى اميز ثانويات نيويورك –ثانوية نيويورك للعلوم – ودخل جامعة هاوارد و صعد فى موجات حركة الطلبة السود الناهضة كواحد من اشهر قادة حركة الحقوق المدنية فى الستينيات و من ضفاف الستينيات خرج الكثيرين و قد اصبح استوكلى رئيس لجنة الطلبة للتنسيق ضد العنف و بعدها اصبح واحدا من قادة جماعة( البلاك بانسر) الشهيرة وفى اخريات سنواته تحول الى داعية لحركة ( البان افريكان) و شارك بفاعلية فى مؤتمر المساواة العرقية و تزوج مبدعة جنوب افريقيا المعروفة مريم ماكبا و التى زارت السودان و يقال انه صحبها فى تلك الرحلة و ربطته صداقة قوية بكوامى نكروما و احمد سكيتورى و فعل شيئين مدهشين غير اسمه الى كوامى تورو لتخليد اصدقائه و حبهم لافريقيا و نضالاتهم ( نكروما و سكيتورى) و اخذ من اسميهما بالتساوى مكونا اسمه الجديد كوامى تورو!! كان صديقا لمارتن لوثر كنغ و مالكوم اكس و اليجا محمد رغم اختلافاته معهم فى كثير من القضايا و قد عرف بالتشدد مع غير قليل من الهواجس وكان خطيبا مفوها و ترك لاحقا (البلاك بانسر) التى اسسها دكتور هيو نيوتن صاحب السيرة المعقدة وبوبى استيلى، و اشتهرت الجماعة بدعوة السود للتسلح و الدفاع عن انفسهم و باعمال اجتماعية مثل اعداد وجبة سخنة لتلاميذ المدارس السود و قد ادمج عدد من قادة الحزب لاحقا فى المؤسسات الرسمية الامريكية و انزوى اخرين و هاجر استوكلى كارمايكل الى غينيا كوناكرى مع مريم ماكبا منذ 1969 و عاش و استقر فى افريقيا حتى وفاته و ترك بصمات واضحة فى حركة الحقوق المدنية و حركات السود الامريكية فى الستينيات ماتزال بعض امواجها تنداح و اشتهر برفعه لشعار ” السلطة للسود او القوة للسود” وجه انتقادات عنيفة للقادة الاخرين لحركة الحقوق المدنية و اتهمهم بان اقصى امانيهم هى ايجاد خانة للرجل الاسود الى جانب مقعد الرجل الابيض و انه يسعون لدمج السو د فى التيار الرئيسى للطبقة الوسطى. كما تحدث عن ” العنصرية المنظمة” و ” العنصرية البنيوية” و ” العنصرية المؤسسية” كان صديقا حتى رحيله للقس جيسى جاكسون المعاصر لكل زعماء حركة الحقوق المدينة و قد زاره جيسى جاكسون فى غينيا كوناكرى قبل اسبوع من رحيله بمرض السرطان فى 1998 وعمره 57 عاما و قال جيسى جاكسون ” كان واحدا من ابناء جيلنا و الذى كان على الاستعداد للتضحية بحياته فى سبيل تغير امريكا و كان ملتزما بانهاء العنصرية فى بلادنا وقد ساهم فى إزالة تلك الجدران” و استوكلى بتشدده و هواجسه و قراراته المثيرة للجدل ظلت خطبه ذات سحر على جماعات الشباب حتى يومنا هذا.
و فى ذلك المساء 13 يونيو 1980 كان والتر رودنى فى قلب مدينة جورج تاون قد انتهى من لقاءات عديدة فهو فى كامل الرضا من ازدياد المؤيدين لدعوته كان يدرك ان السلطات قد اضحت فى قمة ضيقها و لن تتوانى او تردد فى تدبير اى جريمة للتخلص منه و فجاءة فى ذلك المساء سمع دوى هائل لقنبلة و هى تنفجر و انقشع انفجارها و هى تغيب المفكر الثورى الدكتور والتر رودنى المتزوج من الدكتورة باتريشيا رودنى و لهما ثلاثة ابناء شاكا الذى اسماه على البطل الافريقى العظيم و ملك الزولو فى جنوب افريقيا و كاتى و عشة و ما تزال احلام تنزانيا فى قلب وعقل والتر رودنى بعد ان انقشعت قنبلة جورج تاون و لم تنل من احلامه فى التحرروالتغيروما يزال والتر رودن
حاضرا عندالغياب مولودا عند الممات.
فى نهاية يونيو 2005 و قبل مجيئه للخرطوم طلب منى الدكتور جون قرنق موافاته فى الحال بالعاصمة الارترية اسمرا من الخرطوم لمناقشة بعض القضايا و نحن منهمكين فى ترتيبات استقباله فى الخرطوم، قلت له “لماذا لا تدعو زوجة الدكتور والتر رودنى و ابنائه لزيارتك فى السودان بعد ان تنتظم المؤسسات الجديدة” سره ذلك الاقتراح و قبل ان يدلى باجابته لحق بوالتر رودنى مسرع الخطىء مسجلا ذكراه ضد مجهول. و تنشط احدى كريمات والتر رودنى لفك طلاسم البلاغ المسجل ضد مجهول فى اغتيال والدها الذى تقام احتفالات سنوية فى الكاريبى و خارجه لاحياء ذكراه.
عند مرافقتى للقائد سلفا كير فى رحلته الثانية للقاهرة كنائب اول لجمهوريه السودان سألته عن مدى الدور الذى لعبه الدكتور جون قرنق فى التحضير لبدايات الحركه الشعبية لتحرير السودان ومتى التقاه للمرة الاولى؟ ومعروف عن سلفا كير ذاكرته الفتوغرافية وبدأ حديثه الذى استمر على مدى حوالى ساعتين ونصف الساعه هى زمن الرحلة بين الخرطوم والقاهرة مع مداخلات متقطعه ووجيزه منى ومن الوزير جوزيف دوير ذكر انه التقى بقرن مبيور اتيم فى نهايه الستينيات فى لوبنى شرق الاستوائيه على ايام حركة الانانيا الاولى والاهم انه ذكر بان جون قرنق كان ذو شعبيه داخل مثقفى الانانيا وعرف كداعية لاطروحات حركات التحرر الوطنى ومبشرا بأفكار جديده وبالطبع فإن ذلك كان ذو صلة بما كان يدور فى تنزانيا والولايات المتحده الامريكيه وما حدث لاحقا عند تأسيس الحركه الشعبية وقد شارك كل من جون قرنق و سلفا كير بفاعلية فى داخل مجموعات قوات الانانيا المستوعبة بعد اتفاقية 1972 تمهيدا لتاسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان و هذه قضية سوف نتطرق لها فى موضع اخر غير هذه المقالة. و ذكر لى الدكتور جون قرنق فى احدى مناقاشاتنا انه فى نهاية سنوات الانانيا بدأ يتبلور تيار جديد اصبح يضع اسئلة كثيرة حول تكتيكات الانانيا و علاقاتها الخارجية و بعض اطروحاتها و قد كان هو نفسه ضمن هذا التيار وعدد عددا من شخوصه من بينهم الراحل جوزيف اكوان الذى اغتيل عشية اتفاقية اديس ابابا و امانويل اوبور الذى اغتيل بعد الاتفاقية بقليل، و ذكر لى ماكير بنجامين انه حينما كان طالبا فى جامعة الخرطوم و التقى بالبروفيسور بارى وانجى فى كمبالا بعد اتفاقية 1972 الذى كان وانجى رافضا لها، ان بارى وانجى قد طلب منه حين عودته للسودان ان يلتقى بالنقيب جون قرنق و الذى كان وقتها فى حامية بوسرى على اطراف واو و مضى قائلا ” إن النقيب جون قرنق سوف يكون قائدنا فى حرب التحرير القادمة” !! و كل ذلك مرتبط بسنوات تنزانيا و قرنيل ايوا و إدراك جون قرنق مبيور اتيم للمهمه القادمة التى اداها على اكمل و احسن وجه و مع ان “الشمس مملكة الضياء و لكن النور ياتى من عيون الاوفياء” وشعبنا صاحب وفاءا عظيم وكم يسعد المرء ان الدكتور جون قرنق قبل رحلته الاخيرة قد شاهد فى الساحة الخضراء وفاء وحب شعبنا له، الذى اعطاه شهادة الدكتوراه مع مرتبة الشرف فى خدمة الشعب و التخرج من مدارسه و كنا حضور، ولم نراه مبتهجا ومتاثرا و اَسراَ مثل يوم الساحة الخضراء، و ما شد إنتباهه اكثر هوان ذاك اليوم كان يوما للتلاقى الوطنى بين اعراق ، اديان، سحنات، ثقافات، ونساء و رجال السودان و هو جوهر رؤيته التى تمتد زمانا من زمان الساحة الخضراء و بهائها الى مابعد ازمنة جبل البركل المقدس، ومكانا من حلفا الى نمولى،من الجنينة الى كسلا ولو اتيحت له الفرصة فى الساحة الخضراء لما تردد فى ترديد هذه الرسالة و لوزع على جميع الحاضرين ما يكفى من الامال و الاحلام . و بعد عامين من رحيله و ميلاده الذى يحتوى كل البلاد و يسمو كاسطورة من ازمنة الخلود و رواية لم يكتب فصلها الختامى بعد.
فى الختام زهرة من اللوتس وورقة من البردى من نهر النيل للشيخ انتا ديوب. و نقول لوالتر رودنى ان احلام تنزانيا و نادى دار السلام لا تزال مشرقة و مضيئة، و لقرنق مبيور اتيم نوقد شمعة ثانية فى سونامى الغياب و الحضور الانيق و فى الموت و الميلاد الجديد.