الصهيونية العروبية تتشكل عنصرية مؤدجلة تهدد بتفتيت السودان الشمالي بعد الإنفصال

الصهيونية العروبية تتشكل عنصرية مؤدجلة تهدد بتفتيت السودان الشمالي بعد الإنفصال

بقلـم: مكـي علــي بلايـل

تارة أخرى تحملنا رياح السياسة السودانية الهوجاء لإرجاء ما إنتويناه من مواصلة الحديث عن موبقات الحركة الشعبية بجبال النوبة، لنوجه سهامنا لجبهة أجسم خطراً. فقد شهدت الساحة في الأسبوعين الأخيرين تصاعداً لافتاً للخطاب العنصري المتدثر بلبوس الإسلام والذي ينذر بنقلة غير مسبوقة لصراع الهوية في السودان الشمالي بكل مايحمله ذلك من مهددات. وكنا قبل نيف وشهرين في مقال نشرته هذه الصحيفة بعنوان: (مستقبل دولة السودان الشمالي بعد
الإنفصال)، قد حذرنا مما أسميناه بالصفائية العروبية إشارة الى الساعين لتكريس مفهوم صفاء هوية السودان الشمالي باعتبارها عربية إسلامية خالصة. وقد تلمسنا هذه النزعة يومئذ من كتابات دعاة الإنفصال التى تشى بأن أحد أهم أهداف هؤلاء من فصل الجنوب هو تأكيد نقاء الهوية العربية الإسلامية للسودان الشمالي كما يتوهمون. ومنذ الخطاب الرئاسي الشهير بالقضارف بمناسبة أعياد الحصاد هناك إكتسبت نزعة الصفائية هذه زخماً كبيراً وتصاعد حراكها على مستوى القول والفعل بتحالف غير مقدس بين العنصريين العروبيين والمتنطعين في التيار السلفى اللذين ظلوا على إمتداد التاريخ سدنة للإستبداد والفساد والعنصرية بإسم الدين. وقبل أن نوغل في تناول أطروحات الصفائية التى نشير إليها في هذا المقال بالصهيونية العروبية يجدينا تققديم شرح مختصر لمصطلحى الصهيونية والعروبية تجنباً لإساءة الفهم وإتقاء لتهمة التهويل. ونبدأ بالصهيونية والتى نعترف بأنها تبدو ظاهرياً يحكم الثقافة السائدة مشبعة بدلالات سيئة بأكثر مما يبرر إستخدامها في حالتنا. ولكننا نرى إن مايتشكل حالياً بإسم العروبة أولاً والإسلام ثانياً (العروبة تسبق الإسلام دائماً في خطاب القوم) لايختلف في الجوهر كثيراً عن الصهيونية كما سنبين. فالصهيونية كعقيدة سياسية قومية متطرفة لاتتماهى بأى قدر مع الصهيونية كديانة حتى في نسختها المحرفة على عكس ظن الكثيرين. كل ما هناك أن الصهيونية التى تنبنى على الإيمان بالحق المطلق لليهود في السيطرة وإستباحة حقوق غيرهم عمدت لإستغلال الديانة اليهودية وما فيها من حقائق وأساطير لإخفاء القدسية على مخططاتها وسياساتها لما لذلك من فاعلية تعبوية وتبريرية. لقد أوضح الفيلسوف الفرنسي المعاصر روجيه غارودى في كتابه القيم المعنون: (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) الفرق الشاسع بين الصهيونية كعقيدة سياسية قومية متطرفة واليهودية كديانة. وبحسب ذلك المرجع فإن بعض أكابر الصهيونية وعلى رأسهم الأب المؤسس لها تيودور هرتزل ليسوا غير مؤمنين باليهودية كدين سماوي فحسب بل غير مؤمنين بالله أصلاً. فهرتزل أب الصهيونية ببنتمى لفلسفة الغنوصية والتى ترى أن البحث في وجود الله من عدمه غير ذى جدوى إذ لايمكن نفيه أو إثباته عقلاً. وبالرغم من ذلك إعتبر قادة الصهيونية التمسك الشديد بمقولات و تعاليم التوراة ذات الصلة بمشروعهم السياسى مثل شعب الله المختار إشارة لليهود و ارض المعاد إشارة لفلسطين أمراً بالغ الأهمية. وقد روى عن موشى ديان أحد أشهر وزراء الدفاع لدولة إسرائيل قوله: إن الصهيوني يجب أن يكون يهودياً متطرفاً حتى إن كان ملحداً. ومن ناحية مقابلة فإن نفراً كبيراً من كبار الخاخامات وأشهر اليهود ليسوا فقط ضد الصهيونية بل ضد قيام دولة إسرائيل اصلاً. أشهر هؤلاء الخاخام إلمر برجر رئيس المجلس اليهودي الأمريكي الأسبق والعالم الفيزيائى الأشهر ألبرت إبنشتاين. إن ما قلناه حتى الآن لايعنى بالطبع أن كل اليهود المتدينين ضد الصهيونية أو إن كل الصهاينة غير متدينين حقاً. ولكن يبقى الفرق واضحاً بين اليهودية كديانة والصهيونية كعقيدة سياسية تقوم على حق بنى إسرائيل في السيطرة على العالمين. ونأتي الآن للعروبية كمصطلح والتى لا ندعى إننا من نحتها ولكن بكل تأكيد نكثر من استخدامها في كتاباتنا الخاصة وفي الأدبيات السياسية لحزب العدالة. ونستخدم مصطلح العروبية للتفريق بين المعنى الذي نقصده به والمعنى الذي تحمله كلمة العروبية حسب فهمنا. فالعروبة في فهمنا إنتماء موضوعي ذو أبعاد متعددة لغوية، ثقافية وعرقية. وهي بهذا الفهم مكون أساسى من مكونات الهوية الوطنية للسودان ولاجدوى أو حكمة من معاداتها. ففي البعد اللغوى على وجه الخصوص فإن العربية تشكل القاسم المشترك الأعظم بين السودانيين وواسطة التواصل حتى بين الإثنيات المتشابهة مثل قبائل الجنوب وجبال النوبة ودارفور وغيرها. كما لايسع أحداً إنكار الأصل العرقي العربي لمجموعات سودانية بدرجات متفاوته. وزيدة القول في هذا الخصوص أن لا مشكلة مع العروبة كإنتماء موضوعي ورافد أساسي من روافد الهوية الوطنية وهذه قناعتنا التى يتهمنا بسببها شذاذ الآفاق الجاهلون بكيمياء التفاعل بين الموروثات الإنسانية بالإستلاب الثقافي. ولكن هناك مشكلة عويصة مع العروبية وهي عندنا ليست تعبير عن إنتماء موضوعى وإنما توجه سياسي قائم على العصبية يهدف لهيمنة العرب على الآخرين بكل ما تحمل كلمة العرب من دلالات عرقية وثقافية. والحق أن إستغلال الإسلام لتبرير هيمنة العرب بالمعنى العرقي على غيرهم ليس أمراً جديداً ولا إستثناءاً في تاريخ الدولة التى تطلق عليها صفة العربية الإسلامية منذ إنحراف أمر الإسلام من الخلافة الراشدة إلى الملك العضود إبتداء من العهد الاموى. فقد ظلت السلطة العشائرية والهيمنة على الشأن العام كله في يد العرب دون غيرهم من الأعاجم. وحين تحرك المهمشون الأعاجم لرفع الضيم عن أنفسهم رفعت في وجههم تهمة الشعوبية وهي المصطلح التاريخي النظير للمصطلحات التى يرفعها الأميون الجدد عندنا في وجه الرافضين لهيمنتهم مثل الجهوية والعنصرية بينما هم في الحقيقة أئمتها بلا منازع. وأياً ما كان فإن العروبية في الحالة السودانية الراهنة التى نحن بصددها ليست في الجوهر إلا إستنساخاً لتجارب توظيف الإسلام من اجل الهيمنة السياسية والاقتصادية من مدخل الهوية. ولايشفع للعروبيين زعمهم الكذوب بأن قصدهم بالعروبة يقتصر على الجانب اللغوى والثقافي فهم أول من لا يؤمن بذلك إذ يتجلي إعتبارهم للجانب العرقي في كافة ممارساتهم وسلوكياتهم السياسية والإجتماعية. وإذا كانت العروبية توجهاً يهدف لهيمنة المنتمين للعرق العربي إن حقاً أو توهماً على الآخرين بتوظيف الإسلام وإظهاره كما لو كان متماهياً مع هذا التوجه فإننا لا نغالى إن شبهناها بالصهيونية. لاغرو فالصهيونية كما شرحناها آنفاً ليست سوى عقيدة سياسية تهدف لسيطرة بنى إسرائيل بتوظيف الديانة اليهودية بحقائقها و اساطيرها. وكما أسلفنا فقد إكتسب تيار العروبية عندنا رخماً كبيراً منذ خطاب القضارف الرئاسى وعزز حملته لتكريس فهمه الذي يريد لدولة السودان الشمالي بعد الإنفصال. ولم يقف أمرهم عند حد إنكار التعدد العرقى والثقافي في هذه الدولة وربط ذلك بالشريعة الإسلامية الحقة غير المنقوصة أو المدغمسة بل مضى حد المطالبة بإعادة النظر في إسم الدولة الذي يربطنا بالسواد. كيف لا وقد كانت كلمة سوداني إلى مابعد الإستقلال تعتبر لدى البعض سبة تثير الغضب. إذاً فإن العروبيين في دولتهم الجديدة لن يقنعوا بالهيمنة على السلطة والثروة والوظيفة العامة كما عليه الحال الآن بل مطلوب كذلك إلحاق الأعراق الأخري بالعرق المتسيد بل حتى إلغاء الأسماء والرموز التى لا تنسجم مع العروبة الخالصة. وكأن تجلى عقدة اللون على شاشات قنوات التلفزة وعلى رأسها مايسمى بالتلفزيون القومي لايكفى ليحتاج العروبيون لتغيير إسم السودان. والمؤسى حقاً أن يربط الهوس العروبي بالشريعة الإسلامية وينشأ تحالف غير مقدس بين العنصريين دعاة الانفصال والتيارات السلفية التفكيرية المجرمة. فقد خرجت مسيرات وفتاوى من روابط علماء السوء وفقهاء السلطان اللذين أقل ما يجب أن يقال عنهم إنهم غير محترمين. من عجائب هؤلاء إنهم إكتشفوا بعد اكثر من ثمان حجج من إقرار حق تقرير المصير للجنوب عبر الإستفتاء في برتكول ماشاكوس الإطارى في يوليو 2002م إن الإستفتاء حرام شرعاً وذلك قبل اسبوعين من التصويت. إن ترزية الفتاوى يظنون إنهم بذلك يفعلون مايناسب الإمام فهل يعمل بمقتضى فتواهم هذه المرة أم إنه غالب الظن سيضرب بها عرض الحائط كما فعل من قبل بفتوى تحريم سفره الى قطر إبان صدور لائحة الإتهام من محكمة الجنايات الدولية؟! إن هذا عبث بالدين لمصالح الدنيا وهو منبت الصلة بقيم الإسلام الجوهرية. إننا نواجه اليوم خطراً ماحقاً يهدد دولة السودان الشمالي بالتفتيت حتى قبل قيامه رسمياً مصدره هذا التحالف غير المقدس بين جناحي العروبيين من الساسة والكهنوت. وأسوأ ما في هذا التحالف إنه يؤسس لعنصرية مؤدلجة تتقمص القدسية الدينية. لقد كانت إنحيازات السلطة المركزية السابقة بدوافع العروبة غريزية يمكن تهذيبها بتعميق القيم السامية من مصادرها الدينية أو الإنسانية. ولكن أسوأ أنواع العنصرية هي تلك المؤدلجة بأوهام علمية مثل النازية القائمة على وهم التفوق الجينى للجنس الآرى أو أوهام دينيه مثل الصهيونية المبينة على اسطورة شعب اعلى المختار وتأتى العروبية لتتوشح بالإسلام بفهم شائه لتنكر إنتماءات الآخرين والسنهم. فالسودانيون حسب هذا الفهم لم يخلقوا شعوباً وقبائل ليتعارفوا بإختلاف السنتهم وألوانهم كآية من آيات الله كما يقول القرآن. فالشريعة الجديدة تقضى بعدم وجود أعراق بخلاف العرب ولا ألسن خلاف اللغة العربية. ويكمن الخطر لافي هذا التوجه في حد ذاته فحسب بل في أن الإعتراض عليه لن يعامل كمجرد موقف سياسي وإنما كخروج على مقتضى الشرع. وعلينا أن لاتستبعد ذلك فسيحدث حتماً إذا تمكنت الصهيونية العروبية التى بدأت تتشكل بقوة من رقابنا. و هكذا فإن من ألح واجبات المرحلة التصدي الحاسم لهذا الخطر المحدق الماحق بإصطفاف وطني عريض يضم كافة الفئات التى لها ماتخشى عليه من هذا التوجه وما أكثرها. في مقدمة هذه الفئات يأتى المستهدفون مباشرة بالإلغاء أو الإلحاق و الإتباع من المنتمين للإثنيات غيبر العربية وورثة الثقافات والحضارات السودانية في دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، شرق السودان، وفي الشمال الأقصى. يجب أن ينتظم في هذا الإصطفاف كذلك كل الحريصيين على الإسلام الحق للزود عنه في وجه التلاعب والإستغلال لأغراض الهيمنة العنصرية بما يسئ إليه ويوسع مساحة العداء ضده. وما يقال عن الحريصيين على الإسلام يقال كذلك عن الحريصين على العروبة كإنتماء موضوعي. فلا أضر بالعروبة من التنطع بإسمها وتوظيفها أداة للهيمنة. فاللغة العربية مثلاً لم تحتج لخدمات المتنطعين لتنتشر في الأرجاء النائية وتصبح واسطة التواصل بين قبائل الجنوب وقبائل النوبة. ولكن محاولات فرض الهيمنة بإسمها هي التى تولد الشعور ضدها و محاربتها بإعتبارها ترمز للطرف المعادى. وظننا أن العروبة تقف على أرضية صلبة إذا تهيأت مناخ معافى للتفاعل الإيجابي بين مكونات الهوية الوطنية بلا هيمنة أو إستعلاء لكنها ستفقد بتأجيج صراع الهوية بممارسات العروبيين. واخيراً فإن كل حريص على وحدة ماتبقى من السودان بعد إنفصال الجنوب… يجب أن يصطف في مواجهة الصهيونية العروبية. إن هذه المواجهة يجب أن لا تأخذ شكلاً دفاعياً بل يجب أن تأخذ طابع الهجمة الإرتدادية المنظمة على جبهات السياسة والثقافة والدين. وفي جانب الدين على وجه الخصوص يجب تجريد الكهنوت العنصري الجهول عن غطاء الشريعة فصنع مواقفه العبثية وتجريمه. فهؤلاء التكنيرويون يهدفون من مشايعتهم للسلطة التمكن بسطوتها لنشر أفكارهم المريضة. وأن تمكنوا فإنهم لن يكتفوا بطرد الحركة الشعبية من الشمال كما قالوا الآن ولابتكفير الحزب الشيوعي كما فعلو من قبل بل سيمتد تكفيرهم ليشمل الأنصار والختمية والصوفية بل الممارسة الحزبية ذاتها. وأخيراً على سندنه العروبية العنصرية أن يعلموا بما لايدع مجال للشك أن دون إلغاء أعراق وثقافات ولغات السودان غير العربية خرت القتات.

-2-
الإتجاه العروبى العنصرى الذي أخذ يتشكل الآن بقوة بتحالف غير مقدس بين الإنفصاليين والكهنوت السلفى والذي أسميناه الصهيونية العروبية يمثل خطراً جسيماً للغاية وينذر بشر مستطير ومن الغفلة بمكان الإستهانة به والتقاعس عن التصدى له. وأخطر مافي هذا التوجه الذى يكتسب حالياً زخماً متزايداً هو أنه يضفى على النزعة العنصرية طابعاً أيدولوجياً بل مقدساً بنسبة بوائقهم للإسلام والشريعة. وفي مقالنا السابق أوضحنا بإيجاز نحسبه غير مخل القواسم المشتركة بين هذا التوجه العروبى العنصرى المتأسلم والصهيونية التى أسسها تيودورهرتزل. فكلاهما في الجوهر إستغلال للدين والإسلام هنا واليهودية هناك) من أجل تبرير الإستعلاء القومى
وإستباحة حقوق الآخرين سواء أكان الشعار (كنتم خير أمة أخرجت للناس) أو شعب الله المختار. و قلنا إن إستغلال الإسلام لتبرير الهيمنة العنصرية بوضع الآيات والأحاديث في غير مواضعها ليس أمراً جديداً في تاريخ الدولة المسماة بالعربية الإسلامية. ذلك الأمر هو ما أفرز في التاريخ الحركات الإحتجاجية لغير العرب والتى وصمت بالشعوبية وسنعالج هذا الموضوع بالتفصيل من أمهات مصادر التاريخ الإسلامي إذا أثيرت أية مماحكات لمغالطة مانقول. وحتى ذلك الحين نصوب الحديث إلى هجمة الصهيونية العروبية الراهنة وأخطارها ومايجب أن يعمل حيالها.
إن الهوية كما قلنا مراراً ليست شأناً محايداً إزاء الحقوق والواجبات على مختلف الصعد. فتثبيت وليس إثبات الهوية العربية الإسلامية للسودان بظلالها العنصرية بسطوة جهاز الدولة إستتبع تلقائياً تهميش غير العرب ومن باب أولى غير المسلمين في كافة شعاب الحياة العامة بإعتبارهم أقليات رغم أنف الواقع. وبالرغم من خصوصية واقع الجنوب لجهة وضوح تباينه مع القوى المسيطرة وبالرغم من توسله الى حقوقه بالسلاح منذ البداية فقد ظل إلى ماقبل نيفاشا في سقف النائب الثاني للرئيس والوزارات الهامشية على المستوى الدستوري ونسبة لايعتد بها في الخدمة المدنية. أما القوميات المهمشة المحسوبة على الشمال فقد ظل وضعها أسوأ من الجنوبين ولم يشفع لها إسلامها. وإذا كان التطلع اليوم لتصحيح الإختلال القائم في السودان الشمالي كشرط لوحدته وإستقراره فإن التوجه العروبى المتقمص بالإسلام سباحة في الإتجاه المعاكس تماماً. لقد إستثمر هذا التوجه طويلاً في سبيل مشروعه وإستهتر من أجله بالكثير من المصالح الوطنية والقيم. وكانت الوحدة الوطنية أولى المصالح التى تمت التضحية بها إذ كان الإنفصال هدفاً معلناً بلا مواريه. وكان حكم القانون على رأس القيم التى أهدرت إذ أصبح الإنفصاليون فوق القانون لاتطالهم مواد الجرائم الموجهة ضد الدولة وإثارة الكراهية العرقية والدينية. وما أن أصبح هدفهم لإنفصال الجنوب قاب قوسين أو أدنى حتى إنتقلوا في عجلة من أمرهم إلى المرحلة الثانية من مشروعهم. إنها مرحلة إنكار التعدد العرقي والثقافي في السودان الشمالي والدعوة لتغيير إسم السودان لدلالته اللونية والدعوة لإلغاء إسم دارفور لدلالته القبلية كما يقولون وقد ظهر كل هذا في أقاويلهم وكتاباتهم في الأسابيع الأخيرة. وغداً ستأتي الدعوات لإلغاء وربما تحريم تسميات جبال النوبة والأنقسنا وغيرها لاغرو فالأسماء المحببة للقوم هي من شاكلة بحر العرب، دار جعل وماشابه. هذا السعى المحموم لإثبات الهوية الأحادية العربية الإسلامية للبلاد وتحصينها بسياج الشريعة المفترى عليها ماهي إلا مقدمه لتكريس الهيمنة السياسية والإقتصادية فالعلاقة عضوية لاتنفصم بين الهوية والسلطة والثروة. إن نجاح هذا التوجه يعنى إننا سننتهى في المستقبل غير البعيد لدولة العرب والموالى ولن يستطيع أحد عندئذ رفع عقيرته بالظلم لأن ذلك سيكون خروجاً على شرع الله المزعوم. ولن يعدم القوم من مصادر التاريخ الإسلامي مايبررون به فقهاً تفضيل العرب عامة على العجم عامة. ونكرر هنا إنه لاينبغى لأحد أن يحاول عبثاً إقناعنا بأن المقصود بالعروبة في طرح الخلاصيين من مستعربة السودان جانبها اللغوى و الثقافي وليس العرقى. فحين ظاهر النظام عربان الجنجويد على قبائل الزرفة في دارفور وأحلتهم في أراضيها لم تكن تلك القبائل وثنية ولا غير قادرة على التحدث بالعربية فهى العنصرية في أنتن صفتها.
إن خطر الصهيونية العروبية الماحق المحدق بالسودان الشمالي يتطلب بإلحاح تصدياً حاسماً ولذا دعونا لإصطفاف وطنى عريض لهذا الغرض في مقالنا السابق. وقد حددنا في ذاك المقال بعض القطاعات التى يتعين عليها الإنتظام في هذا الإصطفاف على رأسها المستهدفون مباشرة بهذا المشروع العنصري من القوميات غير العربية ثم الحريصون على الإسلام الحق و الحريصون على العروبة كإنتماء موضوعى وسائر الحريصين على وحدة ماتبقى من الوطن. دعوتنا لكل هذه الفئات تعنى بداهة إننا لا نحرض على صراع هوية بين العرب وغير العرب في السودان. فقد كناو مازلنا ضد الإقصاء أو الإستئصال من حيث المبدأ بإعتبارهما ضد تيار التاريخ الذي تؤكد مسيرته حتمية التلاقى والتفاعل بين بنى الإنسانية بموروثاتهم الثقافية المختلفة وهذه هي سنة التعارف بين الشعوب في فهمنا. و في وطن تداخلت فيه الأعراق وتلاقحت الثقافات لحد كبير فإن الصفائية بالإفصاء أو الإستئصال خطل مابعده خطل. ولذا فنحن دعاة الإعترافف الصادق بكافة روافد الهوية الوطنية وتهيئة مناج التفاعل الإيجابي بينها بعيداً عن الإستعلاء والتهميش والعداء. وفي هذا التفاعل الديمقراطي تفرض العناصر القوية من كل مكون نفسها وتتراجع العناصر الضعيفة ولاغضاضة في ذلك. فالإنسان كما يتسم بالإعتزاز بإنتمائه وموروثاته فإنه مفطور كذلك على إكتساب ما يستحسنه من الآخرين ويتخلى عن بعض ما لا يستحسنه من موروثاته طوعاً. ولذا كانت المثاقفه أخذاً وعطاء وهذا مايفسر تنقل الأفكار والقيم والعادات بين المجتمعات الإنسانية.
وبالرغم من كل ماعبرنا عنه من قناعات فإننا ندعو في إطار التصدي لهجمة الصهيونية العروبية لقيام جبهة السودان الأفريقي لرفض التبعية (جسارة). وما جعلنا نختار إسم جبهة السودان الأفريقي هو أن المكون الأفريقي غير العربي هو المستهدف بواسطة المشروع العروبي المتأسلم وبالتالي فإن هذا المكون هو الذي يجب تأكيده لا كفرد للمكون العربي وإنما كتوأم له في الهوية الوطنية الشاملة. وهكذا فلا تناقض في إنضمام كافة القطاعات التى حددناها آنفاً لهذه الجبهة. ذلك ضرورى للحريصين على الإسلام حتى لايستغل لأغراض عنصرية ويبدو معادياً لغير العرب مايستعديهم عليه. وذلك ضرورى للحريصين على العروبة كإنتماء موضوعي عرقياً كان أو ثقافياً حتى لا توظف كأداة للإستعلاء والهيمنة مايولد الشعور ضدها وما أكثر مالمسناه من ذلك في رهطنا جراء الممارسات الهمجية تحت راياتها. الإنضمام لهذه الجبهة ضرورى كذلك لكل الحريصين على وحدة السودان الشمالي (الفضل) حتى لانبكى أجزاءاً منه غداً كما نبكى الجنوب اليوم. فالتوجه العروبى العنصرى إما أن يردع بجهد وطني شامل وإما أن يقود لإستقطاب أفريقاني عروبي حاد ربما أفضى لمزيد من التشظى. فلا أحد بين جنبيه قلب إنسان يمكنه أن يقبل تهميشه في الحياة العامة وإلغاء وجوده وتراثه هكذا بقرار.
إن مواجهة الصهيونية العروبية وكما قلنا في المقال السابق يجب أن لاتتخذ طابعأً دفاعياً وإنما نزعة هجومية منظمة على جبهات السياسة والثقافة والدين. فلا يعقل إستجداء حق الوجود من أقلية من الدخلاء التى لم تقنع بالأمر الواقع الذي ترتب لصالحها و تريد تجريد القوميات الأصلية من كل حق. لقد كنا مازلنا ضد التطرف في أمر الهوية فالصراع حولها أن سادت الحكمة يصبح معركة في لامعترك فالتفاعل الإيجابي وليس الصراع هو الذي يجب أن يسود.
ولكن حيث يشتط الخلاصيون من مستعربة السودان لإنكار وجودنا أعراقاً وثقافات وأسماء مناطق فإن ذلك يجب أن يواجه بجنسه لأنه لايفل الحديد إلا الحديد. عندئذ يحق لنا أن نتساءل ما الذي يجعل بلاد النوبة سواء في أقاصى الشمال أو الجبال ودارفور وأرض البجا والانقسنا وبإيجاز كل السودان جزءاً مما يسمى بالوطن العربي؟ واية حتمية تجعل اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة لأهل السودان إن كانت ستوظف أداة للهيمنة والإستعلاء؟ ونرجو أن لايشهر أحد في وجهنا بطاقة الدين عند الحديث عن اللغة العربية. فهؤلاء المتنطعون بالعروبة ليسوا أكثر تديناً من الأتراك أو الإيرانيين أو الأفغان وغيرهم من الأعاجم الذين لم يتخلوا عن ألسنهم. وكى لانصل لهذه المتاهات في إطار الإستقطاب العروبي الأفريقانى فعلى أنصار العروبة أن ينشطوا مع غيرهم لكبح غلواء العروبية فهي خطر على الجميع.
وتشكل الثقافة جبهة رحبة وهامة لعمل كبير يؤكد للعنصرين العروبيين أن القوميات غير العربية ليست قطعان حيوانات بلا موروثات حضارية لتجعل حقولاً لمشاريعهم الإستلابية. عمل ممنهج ومنسق يتوافر عليه المعنيون بهذا المجال لإبراز القيم الأخلاقية والجمالية والنظم والمعارف التى تحتوى عليها الحضارات السودانية. ومما لاشك فيه أن هذه القيم أرفع وأروع من المعاني التى تتجلي في بعض أشعار العرب في الجاهلية و الإسلام معاً التى يدرسونها لنا وفيها الإفتخار بالظلم والإستجداء تزلفاً بالمدح والغزل ليس في الحسان فحسب بل في الولدان كذلك. في هذه الجبهة الثقافية يتحتم الإعتناء أكثر من أي وقت مضى باللغات السودانية تطويراً وكتابة وتعليماً. فأحادية اللغة ليست شرطاً لوحدة الأوطان ولا لتقدمها وفي دولة جنوب أفريقيا هناك نحو عشر لغات رسمية. يجب كذلك التصدي لكتابة التاريخ الوطني بالموضوعية والحيدة لإبراز الدور الحقيقي للفئات المكونة لهذا الوطن كي لا يحتكر البعض رمزية النضال فيه. وعلى سبيل المثال أيتهما أحق أن تعتبر رمز نضال المرأة السودانية أهى مندى بت السلطان عجبنا التى قالت الى جانب ابيها حتى ماتت مولودتها المربوطة على ظهرها عطشاً أم تلك التى كان حظها من النضال شيئاً من الغناء الحماسي؟! في مجال التاريخ أيضا يجب التصدى الجرئ للتزوير الذي يتم حالياً في المنهج المدرسى لإخفاء معالم تشكيل السودان وكذلك لتحويل رموز لعبت أدوار سيئة في التاريخ لأبطال وطتنيين.
وأخيراً وليس أخراً كما يقال يلزم تجريد العروبيين من الغطاء الدينى و هذا من أوجب الواجبات لمصلحة الإسلام أولاً والوطن ثانياً. إن محاولة العنصرين وحلفائهم من كهنوت التيار السلفى إضفاء القدسية الدينية لمشروعهم البائر باسم الشريعة محاولة عبثية مردودها المباشر فتنة الناس في دينهم. فليس من الدين في شئ إنكار تعدد الأعراق والألوان والألسن ودوننا القرأن. والتيار السلفى ليس في موقف لإبتزاز الناس بإسم الدين فقد ظل هذا التيار التكفيري على إمتداد التاريخ سند للاستبداد والظلم والعنصرية لاغرو فقد نشأ وترعرع في كنف الطغاة. بل إنهم وبالرغم من إكثار الحديث عن التوحيد أكثر الفرق الإسلامية إنحرافاً في العقيدة. فهم في غالبهم من المجسمة التى تؤمن بان لله أعضاء. بل إن من عقائدهم السخيفة ان الله تعالى ينزل على رؤوس البيوت على حماره. ونرجو أن لانقالط أحد حتى لا نورد هذه العقائد من مصادرهم. وزبدة القول أن التيارات السلفية التكفيرية المتحالفة حالياً مع العروبيين يحب أن تعرى بعمل توعوى جاد من العلماء فالتقاعس في هذا المجال ستحول هذه البلاد الى ساحة للعنف والإرهاب في فتنة دينية تستبطن العنصرية بحكم واقع السودان.
وختاماً فليجرب العنصريون العروبيون لحس أكواعهم قبل أن يحلموا بإلغاء الأعراف واللغات و الثقافات غير العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *