البشير والنذير
آخر نسخة من الجبهة القومية الاسلامية وهي المؤتمر الوطني ورئيسها المشير عمر البشير أتت في مبتدئها ببشارات الرخاء والامان والعدل والتقدم لتنقلنا من الحاجة الي الكفاية ومن العسر الي اليسر ولكن كل تلك الاماني والتوقعات ذهبت أدراج الرياح , وبلغ بنا الحال أن نوصف في ذيل الأمم من التخلف ومن تفشي الفساد , وتسيد الاستبداد !
والمشير عمر أسماه أبوه تيمناً بالخليفة العادل عمر بن الخطاب علّه يسير مستقبلاً علي خطاه , وجاء السمي عمر وبشر بأنه سيحكم بشريعة الاسلام ولديهم مشروع حضاري لأسلمة المجتمع , وكأننا أمة من اليهود أو النصاري مع إن أصحاب هذه الملل كانوا يعيشون في المدينة مع رسول الله (صلعم) في أمن وأمام محتفظين بدينهم وعاداتهم وتقاليدهم وكانت صورة الكافرون من أوائل ما نزل من القرآن المكي وفيها (لا أعبد ما تعبدون لكم دينكم ولي دين) , أي يتمتعون بحرية العقيدة , وقام الاسلام علي الدعوة باللين والموعظة الحسنة (أدع الي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) –النحل – 125 . وكان السودان يحكم بالاسلام منذ عدة قرون في مملكة سنار ومملكة دارفور التي كان نصف سكانها يحفظون القرآن عن ظهر قلب , وحدث ذلك قبل أن يولد الأخوان المسلمون وأجدادهم والذين انحدر منهم الجبهة القومية الاسلامية التي آلت الي حزبي المؤتمر الوطني والشعبي .
ولنقف برهة لنستعيد طرفاً من السيرة العطرة لأمير المؤمنين عمر والذي سُمي المشير عمر بإسمه تيمناً به .
كان أمير المؤمنين عمر اذا ارد أن ينهي الناس عن شئ تقدم الي أهله فقال : لا أعلمن أحداً وقع في شئ مما نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة . ووصي عمر عماله بقوله : أجعلوا الناس عندكم سواء , قريبهم كبعيدهم , وبعيدهم كقريبكم . إياكم والرشا والحكم بالهوي , وأنت تأخذوا الناس عند الغضب ! فقوموا بالحق ولو ساعة من نهار .
وكان شديد الحساب لعماله بلغت من شدتها عزله لخالد بن الوليد ومقاسمة عمرو بن العاص ماله . وكان عمر يجمع عماله بمكة في موسم الحج من كل عام , يسألهم عن أعمالهم , ويسأل الناس عنهم , ليري مبلغ دقتهم في الاضطلاع بواجبهم وتنزههم حين أدائه علي الافادة لأنفسهم أو ذويهم , فقد كانت النزاهة مقدمة عنده علي كل شئ ولذلك كان يحصي أموال الولاة قبل ولايتهم , فإذا زادت بعدها زيادة تضع نزاهتهم موضع الشبهة , قاسمهم مالهم وقد يستولي علي كل زيادة فيه , ثم يقول لهم نحن انما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً ( كتاب الفاروق عمر – ص 323 للدكتور محمد حسين هيكل) .
وفي العام الذي ضربت فيه المجاعة جزيرة العرب وهي ما عرفت بعام الرمادة حرم علي نفسه الطعام الطيب واقتصر أكله علي خبز الشعير وادامه الزيت حتي تغير لونه .
ونسأل المشير عمر البشير , كيف حال أهله قبل وبعد انقلاب الانقاذ ؟ وماذا فعل مع عماله وهم حكام اليوم إزاء سرقاتهم ونهبهم أموال الحكومة والموثقة من المراجع العام في كل عام ؟
وماذا فعل مع استشراء الفساد والاستبداد ؟
هل هذا حكم شريعة الاسلام أم هي شريعة أهل الانقاذ ؟!
لقد خاطبنا المشير البشير في خطبة توعدية حجاجية ترهيبية بأنه اذا انفصل الجنوب فانه سيطبق الشريعة في الشمال وسيقطع الأيدي والأرجل من خلاف وسيجلد ! أي أنه اختصر شريعة الاسلام في الحدود فقط , ونسي أو تناسي كل مبادئ الاسلام السامية الاخري من العدل والمساواة والرحمة والاحسان والتسامح والامانه والنزاهة والسماحة والعفة , فقد قال نبينا (صلعم) : بعثت لأتمم مكارم الاخلاق , وانه ابتعث رحمة للعالمين , وقال تعالي ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) التوبة – 128 .
ونقول للمشير هل اكتفي الناس من القوت الضروري ؟ ووفرت لهم العلاج من الأمراض ؟ وكفلت لهم التعليم الجيد لأبنائهم ؟ وهل وفرت لهم ضرورات الحياة ؟ وهل بسطت الحريات للشعب المقهور ؟
تقول الاحصاءات الرسمية أن 94 % من سكان السودان صاروا تحت خط الفقر ! بينما ال 6 % الباقية تتمتع بخيرات السودان وتعيش في بحبوحة من العيش من تطاول في البنيان وامتلاك أفخر العربات والصرف ببذخ في داخل وخارج القطر وهؤلاء هم أنصار المؤتمر الوطني ومحاسيبه .
إذا وفرت للشعب جميع هذه الضرورات فيكون عندئذ عندك الحق بقطع يد السارق وقطع الايدي والارجل من خلاف وجلد من يأتون الفاحشة وبعد التثبت من وقوع الجرم , بل وتغليب جانب الرحمة فإن الحدود تدرأ بالشبهات كما تعلم .
قال عمير بن سعد والي عمر علي حمص وهو علي المنبر ( لا يزال الاسلام منيعاً ما اشتد السلطان , وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف أو ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل ) . فهل تعقل هذه النصيحة أيها المشير ؟
والسؤال الكبير هو بماذا كنت تحكمنا طيلة السنوات العشرين السابقة ؟ الستم أعلنتم أنكم نظام اسلامي تهتدون بشريعة الاسلام ؟!
ومما يحز في النفس ويثير غضب الحليم أن هناك طوائف وجماعات تدعي الاسلام يرون هذا المنكر ولا يحركون ساكناً كأنما أغشيت أبصارهم ولا يقولون إن ما يجري من مظالم لا يمت لشريعة الاسلام بصلة ودونكم ما ارتكبته وترتكبه هذه الحكومة في دارفور من فظائع وبشاعات وجرائم فاقت حد التصور في حق المدنيين . وأنكي منهم جماعات نصبوا أنفسهم علماء دين يزينون للحاكم أعماله ويصدرون فتاوي باطلة يفسرون فيها آيات كتاب الله حسب أهوائهم , وهؤلاء هم علماء السلطان , وكما قال الامام مالك عندما ساله أستاذه : من الَسَفلة ؟ فرد قائلاً ( هم من يأكلون بدينهم ) , فسأله أستاذه : ومن هم سفلة السفلة ؟ فقال الامام مالك : الذين يبيعون دنيا غيرهم بفساد دينهم وهم العلماء والمشائخ الذين لا يكترثون بشئ سوي برضا السلطان اعتماداَ علي ان بقاءهم في المنصب يعتمد علي رضا السلطان دون رضا الله .
أحد علماء السوء هؤلاء كما نعتهم الامام المهدي قال : ان الشيوعي واذا صلي وصام فانه كافر . سبحان الله ! كيف يكفر هذا الرجل إمرأً نطق بالشهادتين , دعك من انه يصلي ويصوم ؟! وللأسف ان قائل ذلك الهراء يدرس بجامعة الخرطوم العريقة ولا أدري كيف تسلل هذا الرجل وأمثاله من المتطرفين والمغالين الي هيئة تدريس هذه الجامعة ليبث لطلبته هذه السموم , ولا حرج عليه فرئيس الجمهورية يستخدم في خطبه لغة الرجرجه والدهماء , وليست لغة رجل الدولة المسؤول .
كانت عاقبة سياسة المتأسلمين الوخيمة والتي أوصلت الاخوة الجنوبيين الي أن الخلاص هو الانفصال وقيام دولتهم . والخشية من أن تؤدي سياسة الحكومة الجائرة الي انفصال جزء عزيز آخر من السودان وبخاصة دارفور , وندعو الله ان يوقي سوداننا شر المحن والفتن .
وكأني بالمشير وهو المطارد من محكمة الجنايات الدولية ويبدو مستقبله أسود من القطران يريد أن يخرب كل شئ ويقول : علي وعلي أعدائي !
وأقول لأخوتنا في الجنوب , طوبي لكم دولتكم الجديدة ولكن يعز علينا فراقكم , ويملؤ جوانحنا الحزن , ولا عتبي عليكم فقد تحملتم من المظالم دهراً مما تنهد منه الجبال وما حدث لكم من ظلم بالقول والفعل كان من عمل المستعمر ومن صنع أيدينا نحن الشماليين .
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة علي النفس من وقع الحسام المهند
والأمل معقود علي أن تبرأ الجراح ويرتق الفتق , فما يجمعنا أكبر وأكثر مما يفرقنا , فالنيل يجري في أرضنا والدماء المختلطة تجري في عروق الكثير منا وان انكر بعض الحمقي والمغرضين ذلك , ونأمل أن يرجع سوداننا واحداً موحداً عن قريب أو ينعم بذلك أبناؤنا أو احفادنا .
فقد يجمع الله الشتيتين بعد أن يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
والحل هو أن تذهب أو تزال هذه الحكومة بلا رجعة .
ونرجو أن يكون ما حدث في تونس لعبرة للمشير ولكل الحكام الدكتاتوريين في البلاد العربية .
وقد لبي الشعب التونسي البطل نداء شاعره العظيم أبو القاسم الشابي الذي قال
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن يجلي ولابد للقيد ان ينكسر
هلال زاهر الساداتي
من جيل الاستقلال
[email protected]