بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الإمام الصادق المهدي
أمام المجلس المصري للشئون الخارجية
الأحد 24 أكتوبر 2010م
الأخ الحبيب محمد شاكر
أخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي
أعضاء المجلس المصري للشئون الخارجية، وضيوفهم الكرام،
السلام عليكم، وبعد،
أحدثكم اليوم مرة أخرى عن الحالة السودانية في مفرق الطريق بين نعيم ممكن وجحيم محتمل. وأقدم لحديثي بتأكيد أن الاستفتاء لتقرير المصير التزام حتمي ولكنه يقع بين حالين: استفتاء حر ونزيه يجري في مناخ سياسي صحي تكون فيه القضايا الخلافية معالجة بالتراضي فيحقق بذلك نتيجة تحظى بشرعية وطنية، وإقليمية، ودولية؛ فينهض السودان بدولته الموحدة على أسس جديدة أو دولتيه التوأمين المتفق على شروط وصالهما قبل الاستفتاء، والحالة الثانية هي استفتاء لا حر ولا نزيه مختلف على نتائجه ما يلقي ظلالا على نقاط الخلاف الكثيرة فتلتهب محدثة براكين قتالية داخل الشمال، وداخل الجنوب، وفيما بين الشمال والجنوب، تشد إليها كافة التناقضات الموجودة في القارة، والبحر الأحمر، والشرق الأوسط، وفيما وراء البحار.
أقدم لكم حديثي عبر عشر نقاط:
الأولى: منذ أن نفذ البريطانيون في السودان سياسة الفصل العنصري باسم سياسة الجنوب في عام 1922م، وعزمت الحكومات الوطنية نقض تلك السياسة تراكم في السودان استقطاب حاد لا سيما بين شماله وجنوبه.
الثانية: التعبير الجنوبي عن مخاوف من الشمال اتخذ صورا مختلفة وترددت فكرة تقرير المصير على ألسنة ساسة جنوبيين على فترات. ولكن الفكرة لم تحظ بموقف جنوبي إجماعي إلا في أكتوبر 1993م كردة فعل مباشرة لقيام نظام انقلابي سوداني التزم بأيديولوجية إسلاموعروبية. فدعى السناتور السابق هاري جونستون كافة الفصائل الجنوبية في واشنطن واتفقوا أن السودان اتجه اتجاها لا مكان لنا فيه فنحن لسنا مسلمين ولا عرب، ونطالب بتقرير المصير. وما بين ذلك التاريخ وعبر محطات مختلفة انتهت إلى توقيع اتفاقية سلام نيفاشا في يناير 2005م، اعتمدت تقرير المصير للجنوب بعد فترة انتقالية طولها ست سنوات تحكم البلاد أثناءها حكومة وحدة وطنية تتبع سياسات تجعل الوحدة جاذبة، لكي يصوت الجنوبيون للوحدة في يناير 2011م.
الثالثة: وفي مايو 2005م نشرنا كتابا بعنوان: “اتفاقية السلام 2005م ومشروع الدستور أبريل 2005 في الميزان”. قلنا فيه إن الاتفاقية أعلنت جعل الوحدة جاذبة وضرورة التحول الديمقراطي وسمت نفسها اتفاقية سلام شامل. رحبنا بما حققت الاتفاقية من وقف إطلاق النار وتقاسم للسلطة والثروة بين طرفي الاتفاقية، ووضع الالتزام بحقوق الإنسان وحرياته كما في المواثيق الدولية. ولكننا انتقدنا عيوب الاتفاقية لا سيما:
– قلنا إن الاتفاقية تطلعت لجعل الوحدة جاذبة ولكنها في الواقع جعلت الانفصال جاذبا بموجب برتوكولين: بروتوكول ميشاكوس قسم البلاد على أساس ديني: شمال للشريعة وجنوب للعلمانية، مما يخلق استقطابا والأفضل كما قلنا إعلان مدنية الدولة واستثناء غير المسلمين من الأحكام ذات المحتوى الديني.
– وبروتوكول تقاسم الثروة الذي خصص للجنوب 50% من إيرادات بتروله ما يجعل للجنوبي حافزا للانفصال ليحتفظ بكل إيرادات نفط الجنوب. والأفضل كما قلنا أن يخصص للجنوب نصيبه بالتمييز القاصد من الثروة القومية.
– وطعنا في مشروعية تسمية الاتفاقية اتفاقية السلام الشامل في وقت فيه يحتدم الاقتتال في شرق البلاد وغربها لا سيما دارفور التي كانت في عام اتفاقية السلام محط أنظار العالم كله. هذه التسمية كان لها أثر سالب لأنها إذ حققت السلام الشمالي/ الجنوبي قفلت الباب أمام تسويات سلام أخرى. وحتى يومنا هذا التمسك بسقوف اتفاقية نيفاشا صار عائقا أمام اتفاقيات السلام اللاحقة.
– فترة الحكم الانتقالي زادت الطين بلة. وعزز الاستقطاب الشمالي الجنوبي أمران آخران هما: التباين الأيديولوجي بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وطرحهما للتوجه الحضاري والسودان الجديد. الأول إسلامرعروبي والثاني علمانوأفريقي. ومع أنهما بموجب ما اتفقا عليه في اتفاقية السلام تنازلا في الحقيقية عن تلك التطلعات، فقد واصل حلفاؤهما الاستقطاب الأيديولوجي: بيان الرابطة الشرعية للعلماء وهي شبه رسمية في 2006م أن الانضمام للحركة الشعبية ردة، والتعامل معها حرام، وبغضها في الله واجب ديني، وعلى هذا المنوال تبارى آخرون من الذين يطلق عليهم عبارة علماء ولا علم لهم بأمر الدين والدنيا. وفي الطرف الآخر اندفع كتاب يصفون العلاقة بين الشمال والجنوب بأنها احتلال يوجب التحرر منه.
والعامل الثاني هو التعامل الانتقائي معهما من قبل ضامني الاتفاقية، لا سيما التعامل الأمريكي الذي والى الحركة الشعبية بعين الرضا والمؤتمر الوطني بعين السخط، وهو –أي المؤتمر الوطني- لم يقصر في استخدام ألفاظ شتائمية تنابذية كرتية كرنكية ما ساهم في مزيد من الاستقطاب.
الرابعة: في هذا المناخ الشبيه بالحرب الباردة بين الشريكين أجريت انتخابات أبريل 2010م وبموجبها سيطر المؤتمر الوطني على الشمال والحركة الشعبية على الجنوب بنسب تفوق 90% لكل في منطقته ما جعل كلا منهما يتهم الآخر بالتزوير. كنا حريصين على إجراء انتخابات حرة نزيهة تحقق التداول السلمي على السلطة وتكمل التحول الديمقراطي، ولكن الانتخابات عكس ذلك كانت على السنة الشرق أوسطية، وهي انتخابات لتمكين الحكام لا للتناوب على السلطة. وفي هذا الشهر سوف ننشر كتابا بعنوان: “انتخابات السودان أبريل 2010م في الميزان” نوثق لحقيقة التزوير.
الانتخابات الأخيرة شوهت الجسم السياسي السوداني بالآتي:
– أدت إلى مزيد من الاستقطاب بين حزبي الشراكة.
– أدت إلى مزيد من الجفوة بين المؤتمر الوطني والقوى السياسية الأخرى. كذلك في الجنوب فانطلق تمرد مسلح في الجنوب.
– أما في الشمال فمنذ أبريل 2010م تدهور الموقف في دارفور واعتبر المؤتمر الوطني أن من انتخبوا في دارفور هم الممثلين الحقيقيين لأهل دارفور معبرا عن ذلك بإستراتيجية جديدة واجهت رفضا عاما من غير مؤيدي المؤتمر الوطني. والنتيجة قفل الباب أمام أي تقدم في مشوار سلام دارفور.
– وأهم نتيجة سالبة للانتخابات أنها ألقت بظلالها على الاستفتاء. باعتبار أن من يسيطر على جهة سوف يسيطر على التصويت فيها.
الخامسة: بعد تأخير لأكثر من عام كونت مفوضية الاستفتاء. قانون الاستفتاء الذي يحكم المفوضية يفترض الثقة والتعاون بين شريكي الحكم وهو معدوم، ويفترض أن تكون المفوضية مستقلة ولكنها منقسمة على نفسها على أساس جهوي، وإجراءات الاستفتاء مقيدة بمواقيت يستحيل تحقيقها. والميزانية المطلوبة لعملها لم تدفع. وهناك خلاف حول كيفية تصويت ما بين 1-2 مليون جنوبي في الشمال، وتقرر أن يصوت حوالي 2 مليون جنوبي في المهجر عبر إدارة مستقلة عن سفارات السودان لم تؤسس بعد. قانون الاستفتاء حدد مسائل ما بعد الاستفتاء ليتفاوض طرفا الاتفاقية حولها ما قبل الاستفتاء وهي: الجنسية ، العملة ، الخدمة العامة ، وضع الوحدات المشتركة المدمجة والأمن الوطني والمخابرات، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ، الأصول والديون، حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره، العقود والبيئة في حقول النفط ، المياه، الملكية وغيرها. هذه المسائل تأخر بحثها كثيرا وقد اجتمع الحزبان للاتفاق عليها في القاهرة وفي واشنطن وفي المكلة بأثيوبيا وفي الخرطوم، وكل ذلك عبر وسطاء ولكن الأمر لم يحسم بعد، بل بعد كل محاولة يبدو الاتفاق بعيدا على نحو موشح الأندلس:
يا نسيم الورد بلغ لي الرشا لم يزدني الورد إلا عطشا!
السادسة: أهم من مسائل ما بعد الاستفتاء مسائل جنوبية داخلية يرى باحثان عالمان نشرا تقريرا هذا العام بعنوان “جنوب السودان في تناقض مع نفسه” هما ماريك شوميروس وتيم ألن. أوضحا بدراسة حقلية وجود مشاكل حدودية داخل الجنوب ما لم تحسم سوف تشعل حروبا داخلية. كثيرون يركزون على المشاكل الشمالية الجنوبية. ولكن في دراسة حقلية أجراها جوك مادوت جوك وشارون هتشتنسون في نهاية القرن الماضي أوضحا أنه منذ الثمانينات إلى تاريخ الدراسة فإن ضحايا الاقتتال الجنوبي الجنوبي أكبر عددا من ضحايا الاقتتال الشمالي الجنوبي.
السابعة: نصت اتفاقية السلام على ضرورة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بعد ستة أشهر من إبرام اتفاقية السلام أي في عام 2005م. وكان هذا الإجراء مهما لإجراء الاستفتاء، ولكن صار الأمر الآن محل خلاف. هذه المسألة أوكلت لمفوضية فنية لترسيم الحدود. المفوضية فرغت من الجانب الفني ولكن ما بقي قضايا سياسية كل منها قابل لإشعال الحرب إذا لم يعالج بطريقة صحيحة. السيدان عمر البشير وسلفا كير ما برحا يؤكدان عزمهما على عدم استئناف الحرب وأنا أصدقهما لأسباب موضوعية:
– هما ليسا شخصيات مارشالية مثل عشيرة مازن:
قوم إذا الشر أبدى ناجزيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
– كذلك معلوم أن الجيوش التي تحكم تشغلها مصالح الحكم عن الحرب على نحو ما قال أمل دنقل.
– والسودان تحت المجهر الدولي كل حركات قواته محسوبة ولا أحد يريد أن يتهم بشن الحرب.
ولكن هنالك أطراف ثالثة وحلفاء هم الذين يمكن أن يشتبكوا ويجروا الآخرين.
هنالك عشر نقاط قابلة للالتهاب هي:
أ. تبعية الجبلين ما بين الرنك والنيل الأبيض وهو خلاف بين دينكا أبيلانق وقبائل رعوية: سليم- الصبحة- الأحامدة- نزي- رفاعة.
ب. جبل مقينص محل خلاف بين أعالي النيل وجنوب كردفان.
ج. كاكا التجارية محل خلاف بين أعالي النيل وجنوب كردفان.
د. بحر العرب محل خلاف بين شمال بحر الغزال وجنوب دارفور.
ه. كفياكنجي وحفرة النحاس محل خلاف بين غرب بحر الغزال وجنوب دارفور.
و. الخلاف حول أبيي ما لم يستطع حسمه التحكيم الدولي.
ز. واختلاف حول هجليج أشمالية أم جنوبية وهي منطقة نفطية.
ح. واختلاف حول مفهوم المشورة الشعبية لجبال النوبة.
ط. واختلاف حول المشورة الشعبية لجنوب النيل الأزرق.
هذه الاختلافات تدعم وجهات النظر المختلفة فيها قبائل تدافع عن مصالحها وقد وقعت فيها نزاعات وسالت دماء، وحتى الآن أمورها معلقة والأطراف المعنية تستعد لأية مواجهات.
المطلوب بإلحاح آلية مجدية للتعامل مع هذه الخلافات حتى لا تلقي بظلالها على الاستفتاء.
الثامنة: كذلك المطلوب قبل الاستفتاء الاتفاق على شروط تتجاوز اتفاقية السلام الحالية لوحدة تقوم على درجة أعلى من الندية والتوازن. وعلى خطة بديلة في حالة الانفصال. أي وحدة ندية أو انفصال واصل. كتبنا بذلك مذكرة للحركة الشعبية في 19 يوليو 2010م، كما قدمنا هذه الرؤية في مناظرة في الخرطوم في 16 سبتمبر الماضي. وطلبنا من الحركة الشعبية مخاطبة مجلس التحرير لبيان هذه الرؤية وسوف نبحثها مع النائب الأول الأسبوع القادم في الخرطوم.
التاسعة: القضية ليست متى يجري الاستفتاء ولكن ضرورة أن يكون حرا نزيها وأن يتفق على آلية مجدية لتناول النقاط الخلافية لذلك اقترحنا:
– إسناد إدارة الاستفتاء لجهة محايدة. دول معينة تحت مظلة الأمم المتحدة. لأن أية جهة سودانية سوف يطعن في نزاهتها. وقد رسخ النظام ثقافة التزوير كما رسخ ثقافة اللجوء لطرف دولي ثالث في كل عمليات السلام ومن باب أولى الاستفتاء الأهم منها جميعا.
– وتكوين مفوضية حكماء لدراسة وحل النقاط الخلافية في زمن كاف دون تقيد بمواعيد الاستفتاء الذي يجري بأسرع ما يمكن بإدارة دولية.
ولكن للأسف حتى الآن الأسرة الدولية بقيادة الولايات المتحدة غير مهتمة بنوع الاستفتاء بل بشكله وهذا سيناريو كارثي. هذا ما أوضحناه لمجلس الأمن الذي وفد للخرطوم الشهر الماضي ولممثليهم في العواصم المختلفة. إنهم يتحدثون فقط عن إجراء الاستفتاء دون ضوابط نزاهته ولا يعيرون النقاط الخلافية الملتهبة اهتماما. بل يوهمون بعض الأخوة الجنوبيين أن الولايات المتحدة سوف تجعل من دولة الجنوب إذا انفصلت أنموذجا ناجحا.
لا أعتقد أن الرؤية الأمريكية الناضجة تشجع هذا النهج وفرص نجاح الجنوب إذا انفصل عبر استفتاء ذي مصداقية أكبر بكثير من استفتاء معيب. ولكن موجة الدعم الأمريكي للموقف الشكلي أن الرأي العام الأمريكي يريد أن يرى أمريكا مؤيدة للجنوب. وهذا هو الموقف الذي يجد دعما كذلك من اللوبي الإسرائيلي. ولكنها وعود كاذبة فأمريكا وإسرائيل في مرحلة جديدة لا يستطيعان المعجزات كما يتوهم بعض الناس.
العاشرة والأخيرة: الاستفتاء المضروب- أيا كانت نتائجه- سوف يسمم العلاقات بين الشمال والجنوب ويجعل السودان جبل مغناطيس يجذب إليه كافة تناقضات المنطقة، نزاعات القرن الإفريقي – وحوض النيل- وغرب إفريقيا- والشرق الأوسط.
بينما استفتاء حر ونزيه وتعامل راشد مع النقاط الخلافية يمكن السودان الموحد أو التوأم من دور بناء في التعامل مع كل التناقضات المذكورة.
أمريكا وأوربا وبعض الدول الإفريقية يمكن أن يساعدوا على هذه النتيجة. بل بالنسبة لأمريكا هذه الفرصة الوحيدة لتحقيق نجاح في سياساتها الدولية.
الدور العربي في هذا المجال هو الحرص على حث كافة الأطراف السودانية وتجنب الاقتتال ودعم المشروعات التنموية بكل الوسائل الممكنة، وفوق كل ذلك إظهار درجة عالية من الاهتمام الرسمي والشعبي، فالقضية تهمهم بصورة مباشرة وكذلك الحرص على تجنب الانحياز لطرف دون الآخر.